المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا} (35)

35- وإن حدث خلاف بين الزوجين وخفتم منه حدوث انشقاق بينهما يعرضهما للانفصال ، فاختاروا حكمين : أحدهما من أهله والآخر من أهلها ، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما في الوصول إلى ما هو خير للزوجين من معاشرة بالمعروف أو تسريح بإحسان . إن الله كان مطلَّعاً على ظواهر العباد وبواطنهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا} (35)

24

ذلك حين لا يستعلن النشوز ، وإنما تتقى بوادره . فأما إذا كان قد استعلن ، فلا تتخذ تلك الإجراءات التي سلفت . إذا لا قيمة لها إذن ولا ثمرة . وإنما هي إذن صراع وحرب بين خصمين ليحطم أحدهما رأس الآخير ! وهذا ليس المقصود ، ولا المطلوب . . وكذلك إذا رئي أن استخدام هذه الإجراءات قد لا يجدي ، بل سيزيد الشقة بعدًا ، والنشوز استعلانًا ؛ ويمزق بقية الخيوط التي لا تزال مربوطة . أو إذا أدى استخدام تلك الوسائل بالفعل إلى غير نتيجة . . في هذه الحالات كلها يشير المنهج الإسلامي الحكيم بإجراء أخير ؛ لإنقاذ المؤسسة العظيمة من الانهيار . قبل أن ينفض يديه منها ويدعها تنهار :

( وإن خفتم شقاق بينهما ، فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها . إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما . إن الله كان عليمًا خبيرًا ) . .

وهكذا لا يدعو المنهج الإسلامي إلى الاستسلام لبوادر النشوز والكراهية ؛ ولا إلى المسارعة بفصم عقدة النكاح ، وتحطيم مؤسسة الأسرة على رؤوس من فيها من الكبار والصغار - الذين لا ذنب لهم ولا يد ولا حيلة - فمؤسسة الأسرة عزيزة على الإسلام ؛ بقدر خطورتها في بناء المجتمع ، وفي إمداده باللبنات الجديدة ، اللازمة لنموه ورقية وامتداده .

إنه يلجأ إلى هذه الوسيلة الأخيرة - عند خوف الشقاق - فيبادر قبل وقوع الشقاق فعلًا . . ببعث حكم من أهلها ترتضيه ، وحكم من أهله يرتضيه . يجتمعان في هدوء . بعيدين عن الانفعالات النفسية ، والرواسب الشعورية ، والملابسات المعيشية ، التي كدرت صفو العلاقات بين الزوجين . طليقين من هذه المؤثرات التي تفسد جو الحياة ، وتعقد الأمور ، وتبدو - لقربها من نفسي الزوجين - كبيرة تغطي على كل العوامل الطيبة الأخرى في حياتهما . حريصين على سمعة الأسرتين الأصليتين . مشفقين على الأطفال الصغار . بريئين من الرغبة في غلبة أحدهما على الآخر - كما قد يكون الحال مع الزوجين في هذه الظروف - راغبين في خير الزوجين وأطفالهما ومؤسستهما المهددة بالدمار . . وفي الوقت ذاته هما مؤتمنان على أسرار الزوجين ، لأنهما من أهلهما : لا خوف من تشهيرهما بهذه الأسرار . إذ لا مصلحة لهما في التشهير بها ، بل مصلحتهما في دفنها ومداراتها !

يجتمع الحكمان لمحاولة الإصلاح . فإن كان في نفسي الزوجين رغبة حقيقية في الإصلاح ، وكان الغضب فقط هو الذي يحجب هذه الرغبة ، فإنه بمساعدة الرغبة القوية في نفس الحكمين ، يقدر الله الصلاح بينهما والتوفيق :

إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما . .

فهما يريدان الإصلاح ، والله يستجيب لهما ويوفق . .

وهذه هي الصلة بين قلوب الناس وسعيهم ، ومشيئة الله وقدره . . إن قدر الله هو الذي يحقق ما يقع في حياة الناس . ولكن الناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا ؛ وبقدر الله - بعد ذلك - يكون ما يكون .

ويكون عن علم بالسرائر وعن خبرة بالصوالح :

إن الله كان عليمًا خبيرًا .

وهكذا نرى - في هذا الدرس - مدى الجدية والخطورة في نظرة الإسلام إلى المرأة وعلاقات الجنسين ومؤسسة الأسرة ، وما يتصل بها من الروابط الاجتماعية . . ونرى مدى اهتمام المنهج الإسلامي بتنظيم هذا الجانب الخطير من الحياة الإنسانية . ونطلع على نماذج من الجهد الذي بذله هذا المنهج العظيم ، وهو يأخذ بيد الجماعة المسلمة - التي التقطها من سفح الجاهلية - في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة على هدى الله . الذي لا هدى سواه . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا} (35)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَآ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } . .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما } وإن علمتم أيها الناس شقاق بينهما ، وذلك مشاقة كل واحد منهما صاحبه ، وهو إتيانه ما يشقّ عليه من الأمور ، فأما من المرأة فالنشوز ، وتركها أداء حقّ الله عليها الذي ألزمها الله لزوجها¹ وأما من الزوج فتركه إمساكها بالمعروف ، أو تسريحها بإحسان . والشقاق : مصدر من قول القائل : شاق فلان فلانا : إذا أتى كل واحد منهما إلى صاحبه ما يشقّ عليه من الأمور ، فهو يشاقه مشاقة وشقاقا¹ وذلك قد يكون عداوة ، كما :

حدثنا محمد بن الحسن ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما } قال : إن ضربها فأبت أن ترجع وشاقّته ، يقول : عادته .

وإنما أضيف الشقاق إلى البين ، لأن البين قد يكون اسما ، كما قال جلّ ثناؤه : «لَقدْ تقطّعَ بَيْنُكُمْ » في قراءة من قرأ ذلك .

وأما قوله : { فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وحَكَما مِنْ أهْلِها } فإن أهل التأويل اختلفوا في المخاطبين بهذه الاَية من المأمور ببعثة الحكمين ، فقال بعضهم : المأمور بذلك : السلطان الذي يرفع ذلك إليه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن سعيد بن جبير أنه قال في المختلعة : يعظها ، فإن انتهت وإلا هجرها ، فإن انتهت وإلا ضربها ، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان ، فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها ، فيقول الحكم الذي من أهلها : يفعل بها كذا ، ويقول الحكم الذي من أهله : تفعل به كذا ، فأيهما كان الظالم ردّه السلطان وأخذ فوق يديه ، وإن كانت ناشزا أمره أن يخلع .

حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما ، فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها } قال : بل ذلك إلى السلطان .

وقال آخرون : بل المأمور بذلك الرجل والمرأة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإنْ خِفُتمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِه وَحَكَما مِنْ أهْلِها } إن ضربها فإن رجعت فإنه ليس له عليها سبيل ، فإن أبت أن ترجع وشاقته ، فليبعث حكما من أهله وتبعث حكما من أهلها .

ثم اختلف أهل التأويل فيما يبعث له الحكمان ، وما الذي يجوز للحكمين من الحكم بينهما ، وكيف وجه بعثهما بينهما ؟ فقال بعضهم : يبعثهما الزوجان بتوكيل منهما إياهما بالنظر بينهما ، وليس لهما أن يعملا شيئا في أمرهما إلا ما وكلاهما به ، أو وكله كل واحد منهما بما إليه ، فيعملان بما وكلهما به من وكلهما من الرجل والمرأة فيما يجوز توكيلهما فيه ، أو توكيل من وكل منهما في ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، عن عبيدة ، قال : جاء رجل وامرأته بينهما شقاق إلى عليّ رضي الله عنه ، مع كل واحد منهما فئام من الناس ، فقال عليّ رضي الله عنه : ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا ، وإن رأيتما أن تفرّقا أن تفرّقا . قالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولى . وقال الرجل : أما الفرقة فلا . فقال عليّ رضي الله عنه : كذبتَ ، والله لا تنقلب حتى تقرّ بمثل الذي أقرّت به .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا هشام بن حسان ، وعبد الله بن عون ، عن محمد : أن عليا رضي الله عنه أتاه رجل وامرأته ، ومع كل واحد منهما فئام من الناس ، فأمرهما عليّ رضي الله عنه أن يبعثا حكما من أهله وحكما من أهلها لينظرا . فلما دنا منه الحكمان ، قال لهما عليّ رضي الله عنه : أتدريان مالكما ؟ لكما إن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما ، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما . قال هشام في حديثه : فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله لي وعليّ فقال الرجل : أما الفرقة فلا . فقال عليّ : كذبت والله حتى ترضى مثل ما رضيت به . وقال ابن عون في حديثه : كذبت ، والله لا تبرح حتى ترضى بمثل ما رضيت به .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا منصور وهشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : شهدت عليا رضي الله عنه ، فذكر مثله .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : إذا هجرها في المضجع وضربها ، فأبت أن ترجع وشاقته ، فليبعث حكما من أهله وتبعث حكما من أهلها¹ تقول المرأة لحكمها : قد وليتك أمري ، فإن أمرتني أن أرجع رجعت ، وإن فرّقت تفرّقنا . وتخبره بأمرها إن كانت تريد نفقة أو كرهت شيئا من الأشياء ، وتأمره أن يرفع ذلك عنها وترجع ، أو تخبره أنها لا تريد الطلاق . ويبعث الرجل حكما من أهله يوليه أمره ، ويخبره يقول له حاجته إن كان يريدها ، أو لا يريد أن يطلقها ، أعطاها ما سألت وزادها في النفقة ، وإلا قال له : خذ لي منها مالها عليّ وطلقها ! فيوليه أمره ، فإن شاء طلق ، وإن شاء أمسك . ثم يجتمع الحكمان فيخبر كل واحد منهما ما يريد لصاحبه ، ويجهد كل واحد منهما ما يريد لصاحبه ، فإن اتفق الحكمان على شيء فهو جائز ، إن طلقا وإن أمسكا ، فهو قول الله : { فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُما } ، فإن بعثت المرأة حكما وأبي الرجل أن يبعث ، فإنه لا يقربها حتى يبعث حكما .

وقال آخرون : إن الذي يبعث الحكمين هو السلطان ، غير أنه إنما يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ، ليحملهما على الواجب لكلّ واحد منهما قِبَل صاحبه لا التفريق بينهما . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، وهو قول قتادة ، إنهما قالا : إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه¹ وأما الفرقة فليست في أيديهما ، ولم يملكا ذلك ، يعني : { وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها } .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِه وَحَكَما مِنْ أهْلِها } . . . الاَية ، إنما يبعث الحكمان ليصلحا ، فإن أعياهما أن يصلحا شهدا على الظالم ولبس بأيديهما فرقة ، ولا يملّكان ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن قيس بن سعد ، قال : سألت عن الحكمين ، قال : ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهله ، فما حكم الحكمان من شيء فهو جائز¹ يقول الله تبارك وتعالى : { إن يُرِيدا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُما } قال : يخلو حكم الرجل بالزوج ، وحكم المرأة بالمرأة ، فيقول كل واحد منهما لصاحبه : اصدُقني ما في نفسك ! فإذا صدق كل واحد منهما صاحبه اجتمع الحكمان وأخذ كل واحد منهما على صاحبه ميثاقا لتصدقني الذي قال لك صاحبك ، ولأصدقنك الذي قال لي صاحبي ! فذاك حين أرادا الإصلاح يوفق الله بينهما ، فإذا فعلا ذلك اطلع كل واحد منهما على ما أفضى به صاحبه ليه ، فيعرفان عند ذلك من الظالم والناشز منهما ، فأتيا عله ، فحكما عليه . فإن كانت المرأة قالا : أنت الظالمة العاصية ، لا ينفق عليك حتى ترجعي إلى الحقّ وتطيعي الله فيه . وإن كان الرجل هو الظالم ، قالا : أنت الظالم المضارّ لا تدخل لها بيتا حتى تنفق عليها وترجع إلى الحقّ والعدل . فإن كانت هي الظالمة العاصية أخذ منها مالها ، وهو له حلال طيب ، وإن كان هو الظالم المسيء إليها المضارّ لها طلقها ، ولم يحلّ له من مالها شيء ، فإن أمسكها أمسكها بما أمر الله وأنفق عليها وأحسن إليها .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : كان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يبعث الحكمين : حكما من أهله وحكما من أهلها ، فيقول الحكم من أهلها : يا فلان ما تنقم من زوجتك ؟ فيقول : أنقم منها كذا وكذا . قال : فيقول : أفرأيت إن نَزَعَتْ عما تكره إلى ما تحبّ ، هل أنت متقي الله فيها ومعاشرها بالذي يحقّ عليك في نفقتها وكسوتها ؟ فإذا قال نعم ، قال الحكم من أهله : يا فلانة ما تنقمين من زوجك فلان ؟ فتقول مثل ذلك ، فإن قالت : نعم ، جمع بينهما . قال : وقال عليّ رضي الله عنه : الحكمان بهما يجمع الله وبهما يفرّق .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن : الحكمان يحكمان في الاجتماع ، ولا يحكمان في الفرقة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثنى عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { واللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ } وهي المرأة التي تنشز على زوجها ، فلزوجها أن يخلعها حين يأمر الحكمان بذلك ، وهو بعد ما تقول لزوجها : والله لا أبرّ لك قسما ، ولاَذننّ في بيتك بغير أمرك . ويقول السلطان : لا نجيز لك خلعا . حتى تقول المرأة لزوجها : والله لا أغتسل لك من جنابة ، ولا أقيم لك صلاة ، فعند ذلك يقول السلطان : اخلع المرأة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { واللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ } قال : تعظها ، فإن أبت وغلبت فاهجرها في مضجعها . فإن غلبت هذا أيضا فاضربها . فإن غلبت هذا أيضا ، بُعث حكم من أهله حكم من أهلها . فإن غلبت هذا أيضا وأرادت غيره ، فإنّ أبي كان يقول : ليس بيد الحكمين من الفرقة شيء ، إن رأيا الظلم من ناحية الزوج قالا : أنت يا فلان ظالم ، انزع ! فإن أبى رفعا ذلك إلى السلطان ، ليس إلى الحكمين من الفراق شيء .

وقال آخرون : بل إنما يبعث الحكمين السلطان على أن حكمهما ماض على الزوجين في الجمع والتفريق . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها } فهذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما ، فأمر الله سبحانه أن يبعثوا رجلاً صالحا من أهل الرجل ، ومثله من أهل المرأة ، فينظران أيهما المسيء ، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة ، وإن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها ، ومنعوها النفقة . فإن اجتمع رأيهما على أن يفرّقا أو يجمعا ، فأمرهما جائز . فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الاَخر ثم مات أحدهما ، فإن الذي رضي يرث الذي كره ، ولا يرث الكاره الراضي ، وذلك قوله : { إنْ يُرِيدَا إصْلاحا } قال : هما الحكمان يوفق الله بينهما .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا عوف ، عن محمد بن سيرين : أن الحكم من أهلها والحكم من أهله يفرّقان ويجمعان إذا رأيا ذلك { فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها } .

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر : قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، قال : سألت سعيد بن جبير عن الحكمين ، فقال : لم أولد إذ ذاك ، فقلت : إنما أعني حكم الشقاق ، قال : يقبلان على الذي جاء الأذى من عنده ، فإن فعل وإلا أقبلا على الاَخر ، فإن فعل ، وإلا حكما ، فما حكما ، فما حكما من شيء فهو جائز .

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن عامر في قوله : { فابْعَثُوا حَكَمَا مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها } قال : ما قضى الحكمان من شيء فهو جائز .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن داود ، عن إبراهيم ، قال : ما حكما من شيء فهو جائز¹ إن فرقا بينهما بثلاث تطليقات أو تطليقتين فهو جائز ، وإن فرقا بتطليقة فهو جائز . وإن حكما عليه بهذا من ماله فهو جائز ، فإن أصلحا فهو جائز ، وإن وضعا من شيء فهو جائز .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا حبان ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها } قال : ما صنع الحكمان من شيء فهو جائز عليهما ، إن طلقا ثلاثا فهو جائز عليهما ، وإن طلقها واحدة أو طلقها على جُعْل فهو جائز ، وما صنعا من شيء فهو جائز .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قال : إن شاء الحكمان أن يفرّقا فرّقا ، وإن شاءا أن يجمعا جمعا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن الشعبي : أن امرأة نشزت على زوجها ، فاختصموا إلى شريح ، فقال شريح : ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ! فنظر الحكمان في أمرهما ، فرأيا أن يفرّقا بينهما ، فكره ذلك الرجل ، فقال شريح : ففيم كانا اليوم ؟ وأجاز قولهما .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عباس ، قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين . قال معمر : بلغني أن عثمان رضي الله عنهما بعثهما ، وقال لهما : إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : ثني ابن أبي مليكة : أن عقيل بن أبي طالب تزوّج فاطمة ابنة عتبة ، فكان بينهما كلام ، فجاءت عثمان فذكرت ذلك له ، فأرسل ابن عباس ومعاوية ، فقال ابن عباس : لأفرّقنّ بينهما ! وقال معاوية : ما كنت لأفرّق بين شيخين من بني عبد مناف ! فأتياهما وقد اصطلحا .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها } يكونان عدلين عليهما وشاهدين . وذلك إذا تدارأ الرجل والمرأة وتنازعا إلى السلطان ، جعل عليهما حكمين : حكما من أهل الرجل وحكما من أهل المرأة ، يكونان أمينين عليهما جميعا . وينظران من أيهما يكون الفساد ، فإن كان من قِبَل المرأة أُجبرت على طاعة زوجها ، وأمر أن يتقي الله ويحسن صحبتها وينفق عليها بقدر ما آتاه الله¹ إمْساكٌ بِمَعْرُوف أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ . وإن كانت الإساءة من قبل الرجل أُمر بالإحسان إليها ، فإن لم يفعل قيل له : أعطها حقها ، وخلّ سبيلها ! وإنما يلي ذلك منهما السلطان .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في قوله : { فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها } أن الله خاطب المسلمين بذلك ، وأمرهم ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما ، ولم يخصص بالأمر بذلك بعضهم دون بعض . وقد أجمع الجميع على أن بعثة الحكمين في ذلك ليست لغير الزوجين وغير السلطان ، الذي هو سائس أمر المسلمين ، أو من أقامه في ذلك مُقام نفسه .

واختلفوا في الزوجين والسلطان ، ومَن المأمور بالبعثة في ذلك : الزوجان ، أو السلطان ؟ ولا دلالة في الاَية تدلّ على أن الأمر بذلك مخصوص به أحد الزوجين ، ولا أثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأمة فيه مختلفة .

وإذ كان الأمر على ما وصفنا ، فأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون مخصوصا من الاَية ما أجمع الجميع على أنه مخصوص منها . وإذ كان ذلك كذلك ، فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن قد شمله حكم الاَية ، والأمر بقوله : { فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها } إذ كان مختلفا بينهما هل هما معنيان بالأمر بذلك أم لا ؟ وكان ظاهر الاَية قد عمهما¹ فالواجب من القول إذ كان صحيحا ما وصفنا أن يقال : إن بعث الزوجان كل واحد منهما حكما من قبله ، لينظر في أمرهما ، وكان لكل واحد منهما ممن بعثه من قبله في ذلك طاقة على صاحبه ولصاحبه عليه ، فتوكيله بذلك من وكل جائز له وعليه ، وإن وكله ببعض ولم يوكله بالجميع ، كان ما فعله الحكم مما وكله به صاحبه ماضيا جائزا على ما وكله به وذلك أن يوكله أحدهما بماله دون ما عليه ، أو لم يوكل كل واحد من الزوجين بماله وعليه ، أو بما له ، أو بما عليه ، فليس للحكمين كليهما إلا ما اجتمعا عليه دون ما انفرد به أحدهما . وإن لم يوكلهما واحدا منها بشيء ، وإنما بعثاهما للنظر ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليشهدا عليهما عند السلطان إن احتاجا إلى شهادتهما ، لم يكن لهما أن يحدثا بينهما شيئا غير ذلك من طلاق أو أخذ مال أو غير ذلك ، ولم يلزم الزوجين ولا واحدا منهما شيء من ذلك .

فإن قال قائل : وما معنى الحكمين إذ كان الأمر على ما وصفت ؟ قيل : قد اختلف في ذلك ، فقال بعضهم : معنى الحكم : النظر العدل ، كما قال الضحاك بن مزاحم في الخبر الذي ذكرناه ، الذي :

حدثنا به يحيى بن أبي طالب ، عن يزيد ، عن جويبر ، عنه : لا ، أنتما قاضيان تقضيان بينهما .

على السبيل التي بينا من قوله .

وقال آخرون : معنى ذلك : أنهما القاضيان يقضيان بينها ما فوّض إليهما الزوجان . وأيّ الأمرين كان فليس لهما ولا لواحد منهما الحكم بينهما بالفرقة ، ولا بأخذ مال إلا برضا المحكوم عليه بذلك ، وإلا ما لزم من حقّ لأحد الزوجين على الاَخر في حكم الله ، وذلك ما لزم الرجل لزوجته من النفقة والإمساك بمعروف إن كان هو الظالم لها . فأما غير ذلك فليس ذلك لهما ولا لأحد من الناس غيرهما ، لا السلطان ، ولا غيره¹ وذلك أن الزوج إن كان هو الظالم للمرأة فللإمام السبيل إلى أخذه بما يجب لها عليه من حقّ ، وإن كانت المرأة هي الظالمة زوجها الناشزة عليه ، فقد أباح الله له أخذ الفدية منها وجعل إليه طلاقها على ما قد بيناه في سورة البقرة . وإذ كان الأمر كذلك لم يكن لأحد الفرقة بين رجل وامرأة بغير رضا الزوج ، ولا أخذ مال من المرأة بغير رضاها بإعطائه ، إلا بحجة يجب التسلم لها من أصل أو قياس . وإن بعث الحكمين السلطانُ ، فلا يجوز لهما أن يحكما بين الزوجين بفرقة إلا بتوكيل الزوج إياهما بذلك ، ولا لهما أن يحكما بأخذ مال من المرأة إلا برضا المرأة¹ يدلّ على ذلك ما قد بيناه قَبْلُ من فعل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك ، والقائلين بقوله . ولكن لهما أن يصلحا بين الزوجين ، ويتعرّفا الظالم منهما من المظلوم ليشهدا عليه إن احتاج المظلوم منهما إلى شهادتهما . وإنما قلنا : ليس لهما التفريق للعلة التي ذكرناها آنفا ، وإنما يبعث السلطان الحكمين إذا بعثهما إذا ارتفع إله الزوجان ، فشكا كل واحد منهما صاحبه ، وأشكل عليه المحقّ منهما من المبطل ، لأنه إذا لم يشكل المحقّ من المبطل ، فلا وجه لبعثة الحكمين في أمر قد عرف الحكم فيه .

القول في تأويل قوله تعالى : { إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُما } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { إنْ يُرِيدَا إصْلاحا } : إن يرد الحكمان إصلاحا بين الرجل والمرأة ، أعني بين الزوجين المخوف شقاق بينهما ، يقول : يوفق الله بين الحكمين ، فيتفقا على الإصلاح بينهما ، وذلك إذا صدق كل واحد منهما فيما أفضى إليه من بعث للنظر في أمر الزوجين .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد ، في قوله : { إنْ يُرِيدا إصْلاحا } قال : أما إنه ليس بالرجل والمرأة ، ولكنه الحكمان .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : { إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُما } قال : هما الحكمان ، إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُما } وذلك الحكمان ، وكذلك كل مصلح يوفقه الله للحقّ والصواب .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُما } يعني بذلك الحكمين .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : { إنْ يُرِيدَا إصْلاحا } قال : إن يرد الحكمان إصلاحا أصلحا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد : { إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُما } : يوفق الله بين الحكمين .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك ، قوله : { إنْ يُرِيدَا إصْلاحا } قال : هما الحكمان إذا نصحا المرأة والرجل جميعا .

القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما خَبِيرا } .

يعني جلّ ثناؤه : إن الله كان عليما بما أراد الحكمان من إصلاح بين الزوجين وغيره ، خبيرا بذلك وبغيره من أمورهما وأمور غيرهما ، لا يخفى عليه شيء منه ، حافظ عليهم ، حتى يجازي كلاّ منهم جزاءه بالإحسان إحسانا ، وبالإساءة غفرانا أو عقابا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا} (35)

قسمت هذه الآية النساء تقسيماً عقلياً ، لأنها إما طائعة ، وإما ناشزة ، والنشز إما من يرجع إلى الطواعية ، وإما من يحتاج إلى الحكمين ، واختلف المتأولون أيضاً في الخوف ها هنا حسب ما تقدم ، ولا يبعث الحكمان إلا مع شدة الخوف ، و «الشقاق » : مصدر شاق يشاق ، وأجري «البين » مجرى الأسماء وأزيل عنه الظرفية ، إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما وصحبتهما ، وهذا من الإيجاز الذي يدل فيه الظاهر على المقدر ، واختلف من المأمور ب «البعثة » ، فقيل : الحاكم ، فإذا أعضل على الحاكم أمر الزوجين ، وتعاضدت عنده الحجج ، واقترنت الشبه ، واغتم وجه الإنفاذ على أحدهما ، بعث حكمين من الأهل ليباشرا الأمر ، وخص الأهل لأنهم مظنة العلم بباطن الأمر ، ومظنة الإشفاق بسبب القرابة ، وقيل : المخاطب الزوجان وإليهما تقديم الحكمين ، وهذا في مذهب مالك ، والأول لربيعة وغيره{[4011]} .

واختلف الناس في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان ، فقال الطبري : قالت فرقة : لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرحا بتقديمهما عليه ، ترجم بهذا ثم أدخل عن علي غيره ، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : ينظر الحكمان في الإصلاح ، وفي الأخذ والإعطاء ، إلا في الفرقة فإنها ليست إليهما ، وقالت فرقة : ينظر الحكمان في كل شيء ، ويحملان على الظالم ، ويمضيان ما رأياه من بقاء أو فراق ، وهذا هو مذهب مالك والجمهور من العلماء ، وهو قول علي بن أبي طالب في المدونة وغيرها ، وتأول الزجّاج عليه غير ذلك ، وأنه وكل الحكمين على الفرقة ، وأنها للإمام ، وذلك وهم من أبي إسحاق{[4012]} .

واختلف المتأولون في من المراد بقوله : { إن يريدا إصلاحاً } فقال مجاهد وغيره : المراد الحكمان ، أي إذا نصحا وقصدا الخير بورك في وساطتهما ، وقالت فرقة : المراد الزوجان ، والأول أظهر ، وكذلك الضمير في { بينهما } ، يحتمل الأمرين والأظهر أنه للزوجين ، والاتصاف ب «عليم خبير » يشبه ما ذكر من إرادة الإصلاح .


[4011]:- قال أبو حيان: "وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للأزواج، إذ لو كان خطابا للأزواج لقال: وإن خافا شقاق بينهما فليبعثا، أو لقال: فإن خفتم شقاق بينكم، لكنه انتقال من خطاب الأزواج إلى خطاب من له الحكم والفصل بين الناس". ثم قال: والضمير في [بينهما] عائد على الزوجين ولم يجر ذكرهما لكن جرى ما يدل عليهما من ذكر الرجال والنساء. والحكم: هو من يصلح للحكومة بين الناس والإصلاح." البحر المحيط3/243.
[4012]:- روى الدارقطني من حديث محمد بن سيرين بن عبيدة في هذه الآية: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله، وحكما من أهلها} قال:جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام (جماعة) من الناس، فأمرهم فبعثوا حكما من أهله، وحكما من أهلها، وقال للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي، وقال الزوج: أما الفرقة فلا، فقال علي: كذبت، والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به. اهـ قال القرطبي تعليقا على هذا الخبر: وهذا إسناد صحيح ثابت روي عن علي من وجوه ثابتة عن ابن سيرين عن عبيدة. اهـ. ولهذا قال ابن عطية: وذلك وهم من أبي إسحاق. يعني الزجاج فيما تأوله على قول الإمام علي رضي الله عنه.