المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (60)

60- لا تُصرف الزكاة المفروضة إلا للذين لا يجدون ما يكفيهم ، والمرضى الذين لا يستطيعون كسباً ولا مال لهم ، والذين يجمعونها ويعملون فيها ، والذين تؤلف قلوبهم ، لأنهم يرجى منهم الإسلام والانتفاع بهم في خدمته ونصرته ، والذين يدعون إلى الإسلام ويبشرون به ، وفي عتق رقاب الأرقاء والأسرى من ربقة العبودية وذل الأسر ، وفي قضاء الديون عن المدينين العاجزين عن الأداء ، إذا لم تكن ناشئة عن إثم أو ظلم أو سفه ، وفي إمداد الغزاة بما يعينهم على الجهاد في سبيل الله ، وما يتصل بذلك من طريق الخير ووجوه البر ، وفي عون المسافرين إذا انقطعت أسباب اتصالهم بأموالهم وأهليهم . شرع الله ذلك فريضة منه لمصلحة عباده ، والله سبحانه عليم بمصالح خلقه ، حكيم فيما يشرع{[84]} .


[84]:الزكاة نظام وضع لتجمع أموال من الغني وترد على الفقير، فهي حق الفقير في مال الغني، ويجمعها ولي الأمر، وينفقها في مصارفها التي يعد أهمها وأجلها محاربة آثار الفقر في الفقير. فهي تعطي للفقراء والمساكين وأبناء السبيل في أمر لا فساد فيه، وفيها باب للقرض الحسن، تطبيقها في وجوه البر، ومنها يسدد دين عجز عن سداده وكان قد اقترضه، وفي صدر الإسلام لم يجعل في المجتمع الإسلامي جائعا يبيت على الطوى، ولا شحاذا تذله الحاجة، حتى أنها لكثرتها كان يشكو عاملها من أنه لا يجد من ينفق عليه منها. ولقد شكا عامل الصدقات على أفريقية إلى عمر بن عبد العزيز أنه لا يجد فقيرا عليه، فقال له: سدد الدين عن المدينين فسدد، ثم شكا ثانية. قال: اشتر عبيدا وأعتقهم، وذلك مصرف من مصارفها، والحقيقة أنها لو جمعت من وجوهها وصرفت في مصارفها لتبين من تطبيقها أنها أعظم نظام للتكافل الاجتماعي.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (60)

وبعد بيان هذا الأدب اللائق في حق اللّه وحق رسوله ، تطوعاً ورضا وإسلاماً ، يقرر أن الأمر -مع ذلك - ليس أمر الرسول ؛ إنما هو أمر اللّه وفريضته وقسمته ، وما الرسول فيها إلا منفذ للفريضة المقسومة من رب العالمين . فهذه الصدقات - أي الزكاة - تؤخذ من الأغنياء فريضة من اللّه ، وترد على الفقراء فريضة من اللّه . وهي محصورة في طوائف من الناس يعينهم القرآن ، وليست متروكة لاختيار أحد ، حتى ولا اختيار الرسول :

( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل اللّه وابن السبيل . فريضة من اللّه واللّه عليم حكيم ) . .

وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة اللّه ، ومكانها في النظام الإسلامي ، لا تطوعاً ولا تفضلا ممن فرضت عليهم . فهي فريضة محتمة . ولا منحة ولا جزافاً من القاسم الموزع . فهي فريضة معلومة . إنها إحدى فرائض الإسلام تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدي بها خدمة اجتماعية محددة . وهي ليست إحساناً من المعطي وليست شحاذة من الآخذ . . كلا فما قام النظام الاجتماعي في الإسلام على التسول ، ولن يقوم !

إن قوام الحياة في النظام الإسلامي هو العمل - بكل صنوفه وألوانه - وعلى الدولة المسلمة أن توفر العمل لكل قادر عليه ، وأن تمكنه منه بالإعداد له ، وبتوفير وسائله ، وبضمان الجزاء الأوفى عليه ، وليس للقادرين على العمل من حق في الزكاة ، فالزكاة ضريبة تكافل اجتماعي بين القادرين والعاجزين ، تنظمها الدولة وتتولاها في الجمع والتوزيع ؛ متى قام المجتمع على أساس الإسلام الصحيح ، منفذاً شريعة اللّه ، لا يبتغي له شرعاً ولا منهجاً سواه .

عن ابن عمر - رضي اللّه عنهما - قال : قال رسول اللّه - [ ص ] - : " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي " .

وعن عبداللّه بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي - [ ص ] - يسألانه من الصدقة ، فقلب فيهما البصر ، فرآهما جلدين ، فقال : " إن شئتما أعطيتكما . ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " .

إن الزكاة فرع من فروع نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام . وهذا النظام أشمل وأوسع كثيراً من الزكاة ؛ لأنه يتمثل في عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها ، ونواحي الارتباطات البشرية بأكملها ، والزكاة خط أساسي من هذه الخطوط :

والزكاة تجمع بنسبة العشر ونصف العشر وربع العشر من أصل المال حسب أنواع الأموال . وهي تجمع من كل من يملك حوالي عشرين جنيهاً فائضة عن حاجته يحول عليها الحول . وبذلك يشترك في حصيلتها معظم أفراد الأمة . ثم تنفق في المصارف التي بينتها الآية هنا ، وأول المستحق لها هم الفقراء والمساكين . والفقراء هم الذين يجدون دون الكفاية ، والمساكين مثلهم ولكنهم هم الذين يتجملون فلا يبدون حاجتهم ولا يسألون .

وإن كثيراً ممن يؤدون الزكاة في عام ، قد يكونون في العام التالي مستحقين للزكاة . بنقص ما في أيديهم عن الوفاء بحاجاتهم . فهي من هذه الناحية تأمين اجتماعي . وبعضهم يكون لم يؤد شيئا في حصيلة الزكاة ولكنه يستحقها . فهي من هذه الناحية ضمان اجتماعي . . وهي قبل هذا وذاك فريضة من اللّه ، تزكو النفس بأدائها وهي إنما تعبد بها اللّه ، وتخلص من الشح وتستعلي عليه في هذا الأداء .

( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) . . وقد سبق بيانهما .

( والعاملين عليها ) . . أي الذين يقومون على تحصيلها .

( والمؤلفة قلوبهم ) . . وهم طوائف ، منهم الذين دخلوا حديثاً في الإسلام ويراد تثبيتهم عليه . ومنهم الذين يرجى أن تتألف قلوبهم فيسلموا . ومنهم الذين أسلموا وثبتوا ويرجى تأليف قلوب أمثالهم في قومهم ليثوبوا إلى الإسلام حين يرون إخوانهم يرزقون ويزادون . . وهناك خلاف فقهي حول سقوط سهم هؤلاء المؤلفة قلوبهم بعد غلبة الإسلام . . ولكن المنهج الحركي لهذا الدين سيظل يواجه في مراحله المتعددة كثيراً من الحالات ، تحتاج إلى إعطاء جماعة من الناس على هذا الوجه ؛ إما إعانة لهم على الثبات على الإسلام إن كانوا يحاربون في أرزاقهم لإسلامهم ، وإما تقريباً لهم من الإسلام كبعض الشخصيات غير المسلمة التي يرجى أن تنفع الإسلام بالدعوة له والذب عنه هنا وهناك . ندرك هذه الحقيقة ، فنرى مظهراً لكمال حكمة اللّه في تدبيره لأمر المسلمين على اختلاف الظروف والأحوال .

( وفي الرقاب ) . . ذلك حين كان الرق نظاماً عالمياً ، تجري المعاملة فيه على المثل في استرقاق الأسرى بين المسلمين وأعدائهم . ولم يكن للإسلام بد من المعاملة بالمثل حتى يتعارف العالم على نظام آخر غير الاسترقاق . . وهذا السهم كان يستخدم في إعانة من يكاتب سيده على الحرية في نظير مبلغ يؤديه له ، ليحصل على حريتهبمساعدة قسطه من الزكاة . أو بشراء رقيق وإعتاقهم بمعرفة الدولة من هذا المال .

( والغارمين ) . . وهم المدينون في غير معصية . يعطون من الزكاة ليوفوا ديونهم ، بدلاً من إعلان إفلاسهم كما تصنع الحضارة المادية بالمدينين من التجار مهما تكن الأسباب ! فالإسلام نظام تكافلي ، لا يسقط فيه الشريف ، ولا يضيع فيه الأمين ، ولا يأكل الناس بعضهم بعضاً في صورة قوانين نظامية ، كما يقع في شرائع الأرض أو شرائع الغاب !

( وفي سبيل اللّه ) . . وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة ، تحقق كلمة اللّه .

( وابن السبيل ) . . وهو المسافر المنقطع عن ماله ، ولو كان غنياً في بلده .

هذه هي الزكاة التي يتقول عليها المتقولون في هذا الزمان ، ويلمزونها بأنها نظام تسول وإحسان . . هذه هي فريضة اجتماعية ، تؤدى في صورة عبادة إسلامية . ذلك ليطهر اللّه بها القلوب من الشح ؛ وليجعلها وشيجة تراحم وتضامن بين أفراد الأمة المسلمة ، تندّي جو الحياة الإنسانية ، وتمسح على جراح البشرية ؛ وتحقق في الوقت ذاته التأمين الاجتماعي والضمان الاجتماعي في أوسع الحدود . وتبقى لها صفة العبادة التي تربط بين القلب البشري وخالقه ، كما تربط بينه وبين الناس :

( فريضة من اللّه ) الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية ، ويدبر أمرها بالحكمة :

( واللّه عليم حكيم ) .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (60)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره : لا تنال الصدقات إلا للفقراء والمساكين ومن سماهم الله جلّ ثناؤه .

ثم اختلف أهل التأويل في صفة الفقير والمسكين ، فقال بعضهم : الفقير : المحتاج المتعفف عن المسألة ، والمسكين : المحتاج السائل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن الحسن : إنّمَا الصّدَقاتُ للفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال : الفقير : الجالس في بيته ، والمسكين : الذي يسعى .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال : المساكين : الطّوافون ، والفقراء فقراء المسلمين .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن جرير بن حازم ، قال : ثني رجل ، عن جابر بن زيد ، أنه سئل عن الفقراء ، قال : الفقراء : المتعففون ، والمساكين : الذين يسألون .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله الحراني ، قال : سألت الزهري عن قوله : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال : الذين في بيوتهم لا يسألون ، والمساكين : الذين يخرجون فيسألون .

حدثنا الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الوارث بن سعيد ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد ، قال : الفقير الذي لا يسأل ، والمسكين : الذي يسأل .

قال : حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال : الفقراء الذين لا يسألون الناس وهم أهل حاجة ، والمساكين : الذين يسألون الناس .

حدثنا الحرث ، قال : ثني عبد العزيز ، قال : حدثنا عبد الوارث ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الفقراء الذين لا يسألون ، والمساكين : الذين يسألون .

وقال آخرون : الفقير هو ذو الزمانة من أهل الحاجة ، والمسكين : هو الصحيح الجسم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال : الفقير من به زمانة ، والمسكين : الصحيح المحتاج .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ أما الفقير : فالزمن الذي به زمانة ، وأما المسكين : فهو الذي ليست به زمانة .

وقال آخرون : الفقراء فقراء المهاجرين ، والمساكين : من لم يهاجر من المسلمين وهو محتاج . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا جرير بن حازم ، عن عليّ بن الحكم ، عن الضحاك بن مزاحم : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال : فقراء المهاجرين ، والمساكين : الذين لم يهاجروا .

13083قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ المهاجرين ، قال : سفيان : يعني : ولا يعطي الأعراب منها شيئا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : كان يقال : إنما الصدقة لفقراء المهاجرين .

قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : كانت تجعل الصدقة في فقراء المهاجرين ، وفي سبيل الله تعالى .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي ، قالا : كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها ويغزو ، فنسبهم الله إلى أنهم فقراء ، وجعل لهم سهما في الزكاة .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : كان يقال : إنما الصدقات في فقراء المهاجرين ، وفي سبيل الله .

وقال آخرون : المسكين : الضعيف الكَسْب . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا ابن عون ، عن محمد ، قال : قال عمر : ليس الفقير بالذي لا مال له ، ولكن الفقير : الأخْلق الكَسْب . قال يعقوب ، قال ابن علية : الأخلق : المُحَارَفُ عندنا .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب رحمة الله تعالى قال ليس المسكين بالذي لا ماله له ولكن المسكين الإخلاق الكسب وقال بعضهم الفقير من المسلمين والمسكين أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عمر بن نافع ، قال : سمعت عكرمة في قوله : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال : لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين ، إنما المساكين مساكين أهل الكتاب .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : الفقير : هو ذو الفقر أو الحاجة ومع حاجته يتعفف عن مسألة الناس والتذلل لهم في هذا الموضع ، والمسكين : هو المحتاج المتذلل للناس بمسألتهم . وإنما قلنا إن ذلك كذلك وإن كان الفريقان لم يعطيا إلا بالفقر والحاجة دون الذلة والمسكنة ، لإجماع الجميع من أهل العلم أن المسكين إنما يعطى من الصدقة المفروضة بالفقر ، وأن معنى المسكنة عند العرب : الذلة ، كما قال الله جلّ ثناؤه : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ يعني بذلك الهون ، والذلة لا الفقر . فإذا كان الله جلّ ثناؤه قد صنف من قسم له من الصدقة المفروضة قسما بالفقر فجعلهم صنفين ، كان معلوما أن كل صنف منهم غير الاَخر . وإذ كان ذلك كذلك كان لا شكّ أن المقسوم له باسم الفقير غير المقسوم له باسم الفقر والمسكنة ، والفقير المعطى ذلك باسم الفقير المطلق هو الذي لا مسكنة فيه ، والمعطى باسم المسكنة والفقر هو الجامع إلى فقره المسكنة ، وهي الذلّ بالطلب والمسألة .

فتأويل الكلام إذ كان ذلك معناه : إنما الصدقات للفقراء المتعفف منهم الذي لا يسأل ، والمتذلل منهم الذي يسأل ، وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك خبر .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن شريك بن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ المِسْكِينُ بالّذِي تَرُدّهُ اللّقْمَةُ وَاللّقْمَتانِ والتّمْرَةُ والتّمْرَتانِ ، إنّمَا المسْكِينُ المُتَعَفّفُ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ لا يَسْألونُ النّاسَ إلْحافا » .

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : «إنّمَا المِسْكِينُ المُتَعَفّفُ » على نحو ما قد جرى به استعمال الناس من تسميتهم أهل الفقر مساكين ، لا على تفصيل المسكين من الفقير . ومما ينبىء عن أن ذلك كذلك ، انتزاعه صلى الله عليه وسلم لقول الله : «اقرءوا إن شِئتم لا يَسأَلُونَ النّاسَ إلْحافا » وذلك في صفة من ابتدأ الله ذكره ووصفه بالفقر ، فقال للْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التّعَفّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسأَلُونَ النّاسَ إلْحافا .

وقوله : وَالعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة في قبضها من أهلها ، ووضعها في مستحقيها يعطون ذلك بالسعاية ، أغنياء كانوا أو فقراء .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله ، قال : سألت الزهري عن العاملين عليها ، فقال : السعاة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَالعامِلِينَ عَلَيْها قال : جباتها الذين يجمعونها ، ويسعون فيها .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَالعامِلِينَ عَلَيْها : الذي يعمل عليها .

ثم اختلف أهل التأويل في قدر ما يُعْطَى العامل من ذلك ، فقال بعضهم : يُعْطَى منه الثمن . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن حسن بن صالح ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : للعاملين عليها الثمن من الصدقة .

حُدثت عن مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَالعامِلِينَ عَلَيْها قال : يأكل العمال من السهم الثامن .

وقال آخرون : بل يعطى على قدر عمالته .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن الأخضر بن عجلان ، قال : حدثنا عطاء بن زهير العامريّ ، عن أبيه ، أنه لقي عبد الله بن عمرو بن العاص ، فسأله عن الصدقة : أيّ مال هي ؟ فقال : مال العرجان والعوران والعميان وكلّ منقطع به . فقال له : إن للعاملين حقّا والمجاهدين . قال : إن المجاهدين قوم أحلّ لهم وللعاملين عليها على قدر عمالتهم . ثم قال : لا تحلّ الصدقة لغنيّ ، ولا لذي مِرّة سويّ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : يكون للعامل عليها إن عمل بالحقّ . ولم يكن عمر رحمه الله تعالى ولا أولئك يعطون العامل الثمن ، إنما يفرضون له بقدر عمالته .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن الحسن : وَالعامِلِينَ عَلَيْها قال : كان يعطى العاملون .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : يعطى العامل عليها على قدر عمالته أجر مثله .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الله جلّ ثناؤه لم يقسم صدقة الأموال بين الأصناف الثمانية على ثمانية أسهم وإنما عرّف خلقه أنّ الصدقات لن تجاوز هؤلاء الأصناف الثمانية إلى غيرهم . وإذ كان كذلك بما سنوضح بعد وبما قد أوضحناه في موضع آخر ، كان معلوما أن من أُعطي منها حقا ، فإنما يعطى على قدر اجتهاد المعطي فيه . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان العامل عليها إنما يعطى على عمله لا على الحاجة التي تزول بالعطية ، كان معلوما أن الذي أعطاه من ذلك إنما هو عوض من سعيه وعمله ، وأن ذلك إنما هو قدر يستحقه عوضا من عمله الذي لا يزول بالعطية وإنما يزول بالعزل .

وأما المؤلّفة قلوبهم ، فإنهم قوم كانوا يُتألّفون على الإسلام ممن لم تصحّ نصرته استصلاحا به نفسه وعشيرته ، كأبي سفيان بن حرب وعيينة بن بدر والأقرع بن حابس ، ونظرائهم من رؤساء القبائل .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمر ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : والمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ ، وهم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد أسلموا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضخ لهم من الصدقات ، فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرا قالوا : هذا دين صالح وإن كان غير ذلك ، عابوه وتركوه .

حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير : أن المؤلفة قلوبهم من بني أمية : أبو سفيان بن حرب ، ومن بني مخزوم : الحرث بن هشام ، وعبد الرحمن بن يربوع ، ومن بني جمح : صفوان بن أمية ، ومن بني عامر بن لؤيّ : سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العُزّى ، ومن بني أسد بن عبد العُزّى : حكيم بن حزام ، ومن بني هاشم : سفيان بن الحرث بن عبد المطلب ، ومن بني فزارة : عيينة بن حصن بن بدر ، ومن بني تميم : الأقرع بن حابس ، ومن بني نصر : مالك بن عوف ، ومن بني سليم : العباس بن مرداس ، ومن ثقيف : العلاء بن حارثة . أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم كلّ رجل منهم مئة ناقة ، إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العُزّى ، فإنه أعطى كلّ رجل منهم خمسين .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، قال : قال صفوان بن أمية : لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الناس إليّ ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إليّ .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : ناس كان يتألفهم بالعطية ، عيينة بن بدر ومن كان معه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن حماد بن سلمة ، عن يونس ، عن الحسن : والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ : الذين يؤلفون على الإسلام .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وأما المؤلّفة قلوبهم ، فأناس من الأعراب ومن غيرهم ، كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله ، قال : سألت الزهريّ عن قوله : والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ فقال : من أسلم من يهودي أو نصراني . قلت : وإن كان غنيا ؟ قال : وإن كان غنيا .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله الحراني ، عن الزهريّ : والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ قال : من هو يهودي أو نصراني .

ثم اختلف أهل العلم في وجود المؤلفة اليوم وعدمها ، وهل يعطى اليوم أحد على التألف على الإسلام من الصدقة ؟ فقال بعضهم : قد بطلت المؤلّفة قلوبهم اليوم ، ولا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلا لذي حاجة إليها وفي سبيل الله أو لعامل عليها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن الحسن : والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ قال : أما المؤلفة قلوبهم فليس اليوم .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، قال : لم يبق في الناس اليوم من المؤلفة قلوبهم ، إنما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا مبارك ، عن الحسن ، قال : ليس اليوم مؤلفة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، قال : إنما كانت المؤلفة قلوبهم على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما وُلي أبو بكر رحمة الله تعالى عليه انقطعت الرشا .

وقال آخرون : المؤلفة قلوبهم في كلّ زمان ، وحقهم في الصدقات . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : في الناس اليوم المؤلفة قلوبهم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، مثله .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي : أن الله جعل الصدقة في معنيين : أحدهما سدّ خلة المسلمين ، والاَخر معونة الإسلام وتقويته فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه فإنه يعطاه الغنيّ والفقير ، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه وإنما يعطاه معونة للدين ، وذلك كما يعطي الذي يعطاه بالجهاد في سبيل الله ، فإنه يعطي ذلك غنيا كان أو فقيرا للغزو لا لسدّ خلته . وكذلك المؤلفة قلوبهم يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء ، استصلاحا بإعطائهموه أمر الإسلام وطلب تقويته وتأييده . وقد أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم ، بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفشا الإسلام وعزّ أهله ، فلا حجة لمحتجّ بأن يقول : لا يتألف اليوم على الإسلام أحد لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم وقد أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت .

وأما قوله : وفِي الرّقابِ فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم ، وهم الجمهور الأعظم : هم المكاتبون ، يعطون منها في فكّ رقابهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن الحسين : أن مكاتبا قام إلى أبي موسى الأشعري رحمه الله تعالى وهو يخطب الناس يوم الجمعة ، فقال له : أيها الأمير حثّ الناس عليّ فحثّ عليه أبو موسى ، فألقي الناس عليه عمامة وملاءة وخاتما ، حتى ألقوا سوادا كثيرا . فلما رأى أبو موسى ما ألقى عليه ، قال : اجمعوه فجمع ثم أمر به فبيع ، فأعطى المكاتب مكاتبته ، ثم أعطى الفضل في الرقاب ولم يردّه على الناس ، وقال : إنما أعطيَ الناسُ في الرقاب .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله ، قال : سألت الزهري عن قوله : وفِي الرّقابِ قال : المكاتبون .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وفِي الرّقابِ قال : المكاتَبُ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن : وَفِي الرّقابِ قال : هم المكاتبون .

ورُوي عن ابن عباس أنه قال : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال : عنى بالرقاب في هذا الموضع المكاتبون ، لإجماع الحجة على ذلك فإن الله جعل الزكاة حقا واجبا على من أوجبها عليه في ماله يخرجها منه ، لا يرجع إليه منها نفع من عرض الدنيا ولا عوض ، والمعتق رقبة منها راجع إليه ولاء من أعتقه ، وذلك نفع يعود إليه منها .

وأما الغارمون : فالذين استدانوا في غير معصية الله ، ثم لم يجدوا قضاء في عين ولا عرض .

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : الغارمون : من احترق بيته ، أو يصيبه السيل فيذهب متاعه ، ويدّان على عياله فهذا من الغارمين .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، في قوله : وَالغارِمينَقال : من احترق بيته ، وذهب السيل بماله ، وادّان على عياله .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : الغارمين : المستدين في غير سرف ، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال .

قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله ، قال : سألنا الزهري ، عن الغارمين ، قال : أصحاب الدين .

قال : حدثنا معقل ، عن عبد الكريم ، قال : ثني خادم لعمر بن عبد العزيز خدمه عشرين سنة ، قال : كتب عمر بن عبد العزيز أن يعطى الغارمون . قال أحمد : أكثر ظني من الصدقات .

قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : الغارمون : المستدين في غير سرف .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أما الغارمون : فقوم غرّقتهم الديون ، في غير إملاق ولا تبذير ولا فساد .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الغارم : الذي يدخل عليه الغرم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : والغارِمِينَ قال : هو الذي يذهب السيل والحريق بماله ، ويدّان على عياله .

قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : المستدين في غير فساد .

قال : ثني أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : الغارمون : الذين يستدينون في غير فساد ، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : هم قوم ركبتهم الديون في غير فساد ولا تبذير ، فجعل الله لهم في هذه الآية سهما .

وأما قوله : وفِي سَبِيلِ اللّهِ فإنه يعني : وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده بقتال أعدائه ، وذلك هو غزو الكفار .

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وفِي سَبِيلِ اللّهِ قال : الغازي في سبيل الله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لا تَحِلّ الصّدَقَةُ لِغَنِيّ إلاّ لِخَمْسَةٍ : رَجُلٍ عَمِلَ عَلَيْها ، أوْ رَجُلٍ اشْتَرَاها بِمالهِ ، أو فِي سَبِيلِ اللّهِ ، أوِ ابْنِ السّبِيلِ ، أوْ رَجُلٍ كانَ لَهُ جارٌ تُصُدّقَ عَلَيْهِ فَأهْدَاها لَهُ » .

قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدريّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لا تَحِلّ الصّدَقَةُ لِغَنِيّ إلاّ لِثَلاثَةٍ : فِي سَبِيلِ اللّهِ ، أوِ ابْنِ السّبِيلِ ، أوْ رَجُلٍ كانَ لَهُ جارٌ فَتُصُدّقَ عَلَيْهِ فَأهْدَاها لَهُ » .

وأما قوله : وَابْنِ السّبِيلِ فالمسافر الذي يجتاز من بلد إلى بلد ، والسبيل : الطريق ، وقيل للضارب فيه ابن السبيل للزومه إياه ، كما قال الشاعر :

أنا ابْنُ الحَرْبِ رَبّتْني وَليدا *** إلى أنْ شِبْتُ وَاكْتَهَلَتْ لِداتِي

وكذلك تفعل العرب ، تسمي اللازم للشيء يعرف بابنه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : ابن السبيل : المجتاز من أرض إلى أرض .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد : وَابْنِ السّبيلِ قال : لابن السبيل حقّ من الزكاة وإن كان غنيا إذا كان منقطعا به .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله ، قال : سألت الزهري ، عن ابن السبيل قال : يأتي عليّ ابن السبيل ، وهو محتاج ، قلت : فإن كان غنيا ؟ قال : وإن كان غنيا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَابْنِ السّبِيلِ الضيف جعل له فيها حقّ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن السبيل : المسافر من كان غنيا أو فقيرا إذا أصيبت نفقته ، أو فقدت ، أو أصابها شيء ، أو لم يكن معه شيء ، فحقّه واجب .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، أنه قال في الغنيّ إذا سافر فاحتاج في سفره ، قال : يأخذ من الزكاة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : ابن السبيل : المجتاز من الأرض إلى الأرض .

وقوله : فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ يقول جلّ ثناؤه : قسم قسمه الله لهم ، فأوجبه في أموال أهل الأموال لهم ، والله عليم بمصالح خلقه فيما فرض لهم وفي غير ذلك لا يخفى عليه شيء . فعلى علم منه فرض ما فرض من الصدقة وبما فيها من المصلحة ، حكيم في تدبيره خلقه ، لا يدخل في تدبيره خلل .

واختلف أهل العلم في كيفية قسم الصدقات التي ذكرها الله في هذه الآية ، وهل يجب لكل صنف من الأصناف الثمانية فيها حقّ أو ذلك إلى ربّ المال ، ومن يتولى قسمها في أن له أن يعطي جميع ذلك من شاء من الأصناف الثمانية ؟ فقال عامة أهل العلم : للمتولي قسمها ووضعها في أيّ الأصناف الثمانية شاء ، وإنما سمى الله الأصناف الثمانية في الآية إعلاما منه خلقه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف الثمانية إلى غيرها ، لا إيجابا لقسمها بين الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن المنهال بن عمرو ، عن زرّ بن حبيش ، عن حذيفة ، في قوله : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها قال : إن شئت جعلته في صنف واحد ، أو صنفين ، أو لثلاثة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الحجاج ، عن المنهال ، عن زرّ ، عن حذيفة ، قال : إذا وضعتها في صنف واحد أجزأ عنك .

قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عمر : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال : أيما صنف أعطيته من هذا أجزأك .

قال : حدثنا ابن نمير ، عن عبد المطلب ، عن عطاء : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ . . . الآية ، قال : لو وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف أجزأك ، ولو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحبّ إليّ .

قال : أخبرنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ . . . وَابْنِ السّبِيلِ فأيّ صنف أعطيته من هذه الأصناف أجزأك .

قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .

قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها قال : إنما هذا شيء أعلمه ، فأيّ صنف من هذه الأصناف أعطيته أجزأ عنك .

قال : حدثنا أبي عن شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال : في أيّ هذه الأصناف وضعتها أجزأك .

قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : إذا وضعتها في صنف واحد مما سمى الله أجزأك .

قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : إذا وضعتها في صنف واحد مما سمى الله أجزأك .

قال : حدثنا خالد بن حيان أبو يزيد ، عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال : إذا جعلتها في صنف واحد من هؤلاء أجزأ عنك .

قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن مسعود ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ . . . . الآية ، قال : أعلم أهلها من هم .

قال : حدثنا حفص ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عمر : أنه كان يأخذ الفرض في الصدقة ، ويجعلها في صنف واحد .

وكان بعض المتأخرين يقول : إذا تولى ربّ المال قسمها كان عليه وضعها في ستة أصناف وذلك أن المؤلفة قلوبهم عنده قد ذهبوا ، وأن سهم العاملين يبطل بقسمه إياها ، ويزعم أنه لا يجزيه أن يعطى من كلّ صنف أقلّ من ثلاثة أنفس . وكان يقول : إن تولى قسمها الإمام كان عليه أن يقسمها على سبعة أصناف ، لا يجزي عنده غير ذلك .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (60)

ثم بين مصارف الصدقات تصويبا وتحقيقا لما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } أي الزكوات لهؤلاء المعدودين دون غيرهم ، وهو دليل على أن المراد باللمز لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم . والفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته من الفقار كأنه أصيب فقاره . والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه من السكون كأن العجز أسكنه ، ويدل عليه قوله تعالى : { أما السفينة فكانت لمساكين } وأنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل المسكنة ويتعوذ من الفقر . وقيل بالعكس لقوله تعالى : { ومسكينا ذا متربة } . { والعاملين عليها } الساعين في تحصيلها وجمعها . { والمُؤلّفة قلوبهم } قوم اسلموا ونيتهم ضعيفة فيه فيستأنف قلوبهم أو أشراف قد يترتب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم ، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس لذلك . وقيل أشراف يستألفون على أن يسلموا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم والأصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله وقد عد منهم من يؤلف قبله بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة . وقيل كان سهم المؤلفة لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله وأكثر أهله سقط . { وفي الرقاب } وللصرف في فك الرقاب بأن يعاون المكاتب بشيء منها على أداء النجوم . وقيل بأن تبتاع الرقاب فتعتق وبه قال مالك وأحمد أو بأن يفدي الأسارى . والعدول عن اللام إلى { في } للدلالة على أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب . وقيل للإيذان بأنهم أحق بها . { والغارمين } والمديونين لأنفسهم غير معصية ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء ، أو لإصلاح ذات البين وإن كانوا أغنياء لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغازٍ في سبيل الله أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني أو لعامل عليها " . { وفي سبيل الله } وللصرف في الجهاد بالإنفاق على المتطوعة وابتياع الكراع والسلاح . وقيل وفي بناء القناطر والمصانع . { وابن السبيل } المسافر المنقطع عن ماله . { فريضة من الله } مصدر لما دل عليه الآية الكريمة أي فرض لهم الله الصدقات فريضة ، أو حال من الضمير المستكن في { للفقراء } . وقرئ بالرفع على تلك { فريضة } . { والله عليم حكيم } يضع الأشياء في مواضعها ، وظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة بالأصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم ومراعاة التسوية بينهم قضية للاشتراك وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وعن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد وبه قال الأئمة الثلاثة واختاره بعض أصحابنا ، وبه كان يفتي شيخي ووالدي رحمهما الله تعالى على أن الآية بيان أن الصدقة لا تخرج منهم لا إيجاب قسمها عليهم .