وعقب على الاستكبار والمشاقة ، بصفحة الهلاك والدمار لمن كان قبلهم ، ممن كذبوا مثلهم ، واستكبروا استكبارهم ، وشاقوا مشاقتهم . ومشهدهم وهم يستغيثون فلا يغاثون ، وقد تخلى عنهم الاستكبار وأدركتهم الذلة ، وتخلوا عن الشقاق ولجأوا إلى الاستعطاف . ولكن بعد فوات الأوان :
( كم أهلكنا من قبلهم من قرن ، فنادوا ، ولات حين مناص ) !
فلعلهم حين يتملون هذه الصفحة أن يطامنوا من كبريائهم ؛ وأن يرجعوا عن شقاقهم . وأن يتمثلوا أنفسهم في موقف أولئك القرون . ينادون ويستغيثون . وفي الوقت أمامهم فسحة ، قبل أن ينادوا ويستغيثوا ، ولات حين مناص . ولا موضع حينذاك للغوث ولا للخلاص !
القول في تأويل قوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } .
يقول تعالى ذكره : كثيرا أهلكنا من قبل هؤلاء المشركين من قريش الذين كذّبوا رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عندنا من الحقّ مِنْ قَرْنٍ يعني : من الأمم الذين كانوا قبلهم ، فسلكوا سبيلهم في تكذيب رسلهم فيما أتوهم به من عند الله فَنادَوْا يقول : فعجوا إلى ربهم وضجوا واستغاثوا بالتوبة إليه ، حين نزل بهم بأس الله وعاينوا به عذابه فرارا من عقابه ، وهربا من أليم عذابه وَلاتَ حِينَ مَناصٍ يقول : وليس ذلك حين فرار ولا هرب من العذاب بالتوبة ، وقد حقّت كلمة العذاب عليهم ، وتابوا حين لا تنفعهم التوبة ، واستقالوا في غير وقت الإقالة . وقوله : مَناصٍ مفعل من النّوص ، والنوص في كلام العرب : التأخر ، والمناص : المفرّ ومنه قول امرىء القيس :
أمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى إذْ نأَتْكَ تَنُوصُ *** فَتقْصِرُ عَنْها خَطْوَةً وَتَبوصُ
يقول : أو تقدّم يقال من ذلك : ناصني فلان : إذا ذهب عنك ، وباصني : إذا سبقك ، وناض في البلاد : إذا ذهب فيها ، بالضاد . وذكر الفراء أن العقيلي أنشده :
إذا عاشَ إسْحاقٌ وَشَيْخُهُ لَمْ أُبَلْ *** فَقِيدا ولَمْ يَصْعُبْ عَليّ مَناضُ
وَلَوْ أشْرَفَتْ مِنْ كُفّةِ السّتْرِ عاطِلاً *** لَقُلْتُ غَزَالٌ ما عَلَيْهِ خُضَاضُ
والخضاض : الحليّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق عن التميمي ، عن ابن عباس في قوله : وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال : ليس بحين نزو ، ولا حين فرار .
حدثنا أبو كُريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال : ليس بحين نزو ولا فرار ضبط القوم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن التميمي ، قال : سألت ابن عباس ، قول الله وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال : ليس حين نزو ولا فرار .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال : ليس حين نزو ولا فرار .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلاتَ حِينَ مَناصٍ يقول : ليس حين مَغاث .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن . قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال : ليس هذا بحين فرار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَنادُوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال : نادى القوم على غير حين نداء ، وأرادوا التوبة حين عاينوا عذاب الله فلم يقبل منهم ذلك .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال : حين نزل بهم العذاب لم يستطيعوا الرجوع إلى التوبة ، ولا فرارا من العذاب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ يقول : وليس حين فرار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ولات حين مَنْجًى ينجون منه ، ونصب حين في قوله : وَلاتَ حِينَ مَناصٍ تشبيها للات بليس ، وأضمر فيها اسم الفاعل .
وحكى بعض نحوّيي أهل البصرة الرفع مع لات في حين زعم أن بعضهم رفع «وَلاتَ حِينُ مناصٍ » فجعله في قوله ليس ، كأنه قال : ليس وأضمر الحين قال : وفي الشعر :
طَلَبُوا صُلْحَنا وَلاتَ أوَانٍ *** فَأَجَبنا أنْ لَيْسَ حِينَ بَقاءِ
فجرّ «أوانٍ » وأضمر الحين إلى أوان ، لأن لات لا تكون إلا مع الحين قال : ولا تكون لات إلا مع حين . وقال بعض نحويي الكوفة : من العرب من يضيف لات فيخفض بها ، وذكر أنه أنشد :
*** «لاتَ ساعَةِ مَنْدَمٍ » ***
بخفض الساعة قال : والكلام أن ينصب بها ، لأنها في معنى ليس ، وذُكر أنه أنشد :
تَذَكّرَ حُبّ لَيْلَى لاتَ حِينا *** وأضْحَى الشّيْبُ قَدْ قَطَعَ القَرِينا
طَلَبُوا صُلْحَنا وَلاتَ أوَانٍ *** فأَجَبْنا أنْ لَيْسَ حِينَ بَقاءِ
بخفض «أوانِ » قال : وتكون لات مع الأوقات كلها .
واختلفوا في وجه الوقف على قراءة : لاتَ حِينَ فقال بعض أهل العربية : الوقف عليه ولاتّ بالتاء ، ثم يبتدأ حين مناص ، قالوا : وإنما هي «لا » التي بمعنى : «ما » ، وإن في الجحد وُصلت بالتاء ، كما وُصِلت ثم بها ، فقيل : ثمت ، وكما وصلت ربّ فقيل : ربت .
وقال آخرون منهم : بل هي هاء زيدت في لا ، فالوقف عليها لاه ، لأنها هاء زيدت للوقف ، كما زيدت في قولهم :
العاطِفُونَةَ حِينَ ما مِنْ عاطِفٍ *** والمُطْعِمُونَةَ حِينَ أيْنَ المَطْعِمُ
فإذا وُصلت صارت تاء . وقال بعضهم : الوقف على «لا » ، والابتداء بعدها تحين ، وزعم أن حكم التاء أن تكون في ابتداء حين ، وأوان ، والاَن ويستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر :
تَوَلّيْ قَبْلَ يَوْمِ سَبْيٍ جُمانا *** وَصِلِينا كما زَعَمْتِ تَلانا
وأنه ليس ههنا «لا » فيوصل بها هاء أو تاء ويقول : إن قوله : لاتَ حِينَ إنما هي : ليس حين ، ولم توجد لات في شيء من الكلام .
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن «لا » حرف جحد كما ، وإن وُصلت بها تصير في الوصل تاء ، كما فعلت العرب ذلك بالأدوات ، ولم تستعمل ذلك كذلك مع «لا » المُدّة إلا للأوقات دون غيرها ، ولا وجه للعلة التي اعتلّ بها القائل : إنه لم يجد لات في شيء من كلام العرب ، فيجوز توجيه قوله : وَلاتَ حِينَ إلى ذلك ، لأنها تستعمل الكملة في موضع ، ثم تستعملها في موضع آخر بخلاف ذلك ، وليس ذلك بأبعد في القياس من الصحة من قولهم : رأيت بالهمز ، ثم قالوا : فأنا أراه بترك الهمز لما جرى به استعمالهم ، وما أشبه ذلك من الحروف التي تأتي في موضع على صورة ، ثم تأتي بخلاف ذلك في موضع آخر للجاري من استعمال العرب ذلك بينها . وأما ما استشهد به من قول الشاعر : «كما زعمت تلانا » ، فإن ذلك منه غلط في تأويل الكلمة وإنما أراد الشاعر بقوله : «وصِلِينا كما زَعمْتِ تَلانا » : وصِلينا كما زعمت أنتِ الاَن ، فأسقط الهمزة من أنت ، فلقيت التاء من زعمت النون من أنت وهي ساكنة ، فسقطت من اللفظ ، وبقيت التاء من أنت ، ثم حذفت الهمزة من الاَن ، فصارت الكلمة في اللفظ كهيئة تلان ، والتاء الثانية على الحقيقة منفصلة من الاَن ، لأنها تاء أنت . وأما زعمه أنه رأى في المصحف الذي يقال له «الإمام » التاء متصلة بحين ، فإن الذي جاءت به مصاحف المسلمين في أمصارها هو الحجة على أهل الإسلام ، والتاء في جميعها منفصلة عن حين ، فلذلك اخترنا أن يكون الوقف على الهاء في قوله : وَلاتَ حِينَ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.