قوله تعالى : ( كم أهلكنا من قبلهم من قرن ) : أي قوم كانوا أمنع من هؤلاء . و " كم " لفظة التكثير " فنادوا " أي بالاستغاثة والتوبة . والنداء رفع الصوت ، ومنه الخبر : ( ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا ) أي أرفع . " ولات حين مناص " قال الحسن : نادوا بالتوبة وليس حين التوبة ولا حين ينفع العمل . النحاس : وهذا تفسير منه لقوله عز وجل : " ولات حين مناص " فأما إسرائيل فروى عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس : " ولات حين مناص " قال : ليس بحين نَزْوٍ ولا فرار ، قال : ضبط القوم جميعا . قال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض : مناص ، أي عليكم بالفرار والهزيمة ، فلما أتاهم العذاب قالوا : مناص ، فقال الله عز وجل : " ولات حين مناص " قال القشيري : وعلى هذا فالتقدير : فنادوا مناص فحذف لدلالة بقية الكلام عليه ، أي ليس الوقت وقت ما تنادون به . وفي هذا نوع تحكم ؛ إذ يبعد أن يقال : كل من هلك من القرون كانوا يقولون مناص عند الاضطرار . وقيل : المعنى " ولات حين مناص " أي لا خلاص وهو نصب بوقوع لا عليه . قال القشيري : وفيه نظر لأنه لا معنى على هذا للواو في " ولات حين مناص " وقال الجرجاني : أي فنادوا حين لا مناص ، أي ساعة لا منجى ولا فوت . فلما قدم " لا " وأخر " حين " اقتضى ذلك الواو ، كما يقتضي الحال إذا جعل ابتداء وخبرا ، مثل قولك : جاء زيد راكبا ؛ فإذا جعلته مبتدأ وخبر اقتضى الواو مثل جاءني زيد وهو راكب ، فحين ظرف لقوله : فنادوا " . والمناص بمعنى التأخر والفرار والخلاص ، أي نادوا لطلب الخلاص في وقت لا يكون لهم فيه خلاص . قال الفراء : أمن ذكر ليلى إذ نأتك تَنُوصُ . . . .
يقال : ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا أي فر وزاغ . النحاس : ويقال : ناص ينوص إذا تقدم .
قلت : فعلى هذا يكون من الأضداد ، والنوص الحمار الوحشي . واستناص أي تأخر . قاله الجوهري . وتكلم النحويون في " ولات حين " وفي الوقف عليه ، وكثر فيه أبو عبيدة القاسم بن سلام في كتاب القراءات وكل ما جاء به إلا يسيرا مردود . فقال سيبويه : " لات " مشبهة بليس والاسم فيها مضمر ، أي ليست أحياننا حين مناص . وحكي أن من العرب من يرفع بها فيقول : ولات حين مناص . وحكي أن الرفع قليل ويكون الخبر محذوفا كما كان الاسم محذوفا في النصب ، أي ولات حين مناص لنا . والوقف عليها عند سيبويه والفراء " ولات " بالتاء ثم تبتدئ " حين مناص " هو قول ابن كيسان والزجاج . قال أبو الحسن بن كيسان : والقول كما قال سيبويه ؛ لأن شبهها بليس ، فكما يقال ليست يقال لات . والوقوف عليها عتد الكسائي بالهاء ولاه . وهو قول المبرد محمد بن يزيد . وحكى عنه علي بن سليمان أن الحجة في ذلك أنها دخلت عليها الهاء لتأنيث الكلمة ، كما يقال ثُمه ورُبه . وقال القشيري : وقد يقال ثُمت بمعني ثُم ، وربت بمعنى رب ، فكأنهم زادوا في لا هاء فقالوا لاه ، كما قالوا في ثمه عند الوصل صارت تاء . وقال الثعلبي : وقال أهل اللغة : و " لات حين " مفتوحتان كأنهما كلمة واحدة ، وإنما هي " لا " زيدت فيها التاء نحو رب وربت ، وثم وثمت . قال أبو زبيد الطائي :
طلبوا صلحنا ولاتَ أوَانِ *** فأجبنا أن ليس حينَ بقاءِ
تذكَّر حُبَّ ليلى لاتَ حينَا *** وأمسى الشيب قد قَطَعَ القرينا
ومن العرب من يخفض بها ، وأنشد الفراء :
فلتَعْرِفَنَّ خَلائِقًا مَشْمُولَةً *** ولَتَنْدَمَنَّ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ
وكان الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش يذهبون إلى أن " ولات حين " التاء منقطعة من حين ، ويقولون معناها وليست . وكذلك هو في المصاحف الجدد والعتق بقطع التاء من حين . وإلى هذا كان يذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : الوقف عندي على هذا الحرف " ولا " والابتداء " تحين مناص " فتكون التاء مع حين . وقال بعضهم : " لات " ثم يبتدئ فيقول : " حين مناص " . قال المهدوي : وذكر أبو عبيد أن التاء في المصحف متصلة بحين وهو غلط عند النحويين ، وهو خلاف قول المفسرين . ومن حجة أبي عبيد أن قال : إنا لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن ، وأنشد لأبي وجزة السعدي :
العاطفون تَحِينَ ما مِنْ عاطف *** والمطعمون زمان أيْنَ المُطْعِمُ
طلبوا صلحنا ولا تأوانِ *** فأجبنا أن ليس حين بقاءِ
فأدخل التاء في أوان . قال أبو عبيد : ومن إدخالهم التاء في الآن ، حديث ابن عمر وسأله رجل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فذكر مناقبه ثم قال : اذهب بها تَلانَ معك . وكذلك قول الشاعر :
نَوِّلِي قبل نَأْيِ داري جُمَانَا *** وصِلِينَا كما زعمتِ تَلاَنَا
فال أبو عبيد : ثم مع هذا كله إني تعمدت النظر في الذي يقال له الإمام - مصحف عثمان - فوجدت التاء متصلة مع حين قد كتبت تحين . قال أبو جعفر النحاس : أما البيت الأول الذي أنشده لأبي وجزة فرواه العلماء باللغة على أربعة أوجه ، كلها على خلاف ما أنشده ، وفي أحدها تقديران ، رواه أبو العباس محمد بن يزيد :
والرواية الثانية : العاطفون ولاتَ حين تعاطف
والرواية الثالثة رواها ابن كيسان : العاطفونة حينَ ما من عاطف ، جعلها هاء في الوقف وتاء في الإدراج ، وزعم أنها لبيان الحركة شبهت بهاء التأنيث .
الرواية الرابعة : العاطفونهُ حينَ ما من عاطف ، وفي هذه الرواية تقديران : أحدهما وهو مذهب إسماعيل بن إسحاق أن الهاء في موضع نصب ، كما تقول : الضاربون زيدا فإذا كنيت قلت الضاربوه . وأجاز سيبويه في الشعر الضاربونه ، فجاء إسماعيل بالتأنيث على مذهب سيبويه في إجازته مثله . والتقدير الآخر العاطفون على أن الهاء لبيان الحركة ، كما تقول : مر بنا المسلمونه في الوقف ، ثم أجريت في الوصل مجراها في الوقف ، كما قرأ أهل المدينة : " ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه " [ الحاقة :29 ] وأما البيت الثاني فلا حجة له فيه ؛ لأنه يوقف عليه : ولات أوان ، غير أن فيه شيئا مشكلا ؛ لأنه يروى : ولات أوان بالخفض ، وإنما يقع ما بعد لات مرفوعا أو منصوبا . وإن كان قد روي عن عيسى بن عمر أنه قرأ " ولاتِ حين مناص " بكسر التاء من لات والنون من حين فإن الثبت عنه أنه قرأ " ولات حين مناص " فبنى " لات " على الكسر ونصب " حين " . فأما : ولات أوان ففيه تقديران . قال الأخفش : فيه مضمر أي ولات حين أوان . قال النحاس : وهذا القول بين الخطأ . والتقدير الآخر عن أبي إسحاق قال : تقديره ولات أواننا فحذف ، المضاف إليه فوجب ألا يعرب ، وكسره لالتقاء الساكنين . وأنشده محمد بن يزيد ولات أوان بالرفع . وأما البيت الثالث فبيت مولد لا يعرف قائله ولا تصح به حجة . على أن محمد بن يزيد رواه : كما زعمت الآن . وقال غيره : المعنى كما زعمت أنت الآن . فأسقط الهمزة من أنت والنون . وأما احتجاجه بحديث ابن عمر ، لما ذكر للرجل مناقب عثمان فقال له : اذهب بها تَلاَنَ إلى أصحابك فلا حجة فيه ؛ لأن المحدث إنما يروي هذا على المعنى . والدليل على هذا أن مجاهدا يروي عن ابن عمر هذا الحديث وقال فيه : اذهب فاجهد جهدك . ورواه آخر : اذهب بها الآن معك . وأما احتجاجه بأنه وجدها في الإمام " تحين " . فلا حجة فيه ؛ لأن معنى الإمام أنه إمام المصاحف فإن كان مخالفا لها فليس بإمام لها ، وفي المصاحف كلها " ولات " فلو لم يكن في هذا إلا هذا الاحتجاج لكان مقنعا . وجمع مناص مناوص .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.