التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ فَنَادَواْ وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٖ} (3)

ثم خوفهم - سبحانه - بما أصاب الأمم من قبلهم ، وحذرهم من أن يكون مصيرهم كمصير المكذبين السابقين فقال : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } .

و { كم } هنا خبرية . ومعناها : الإِخبار عن عدد كثير . وهى فى محل نصب على أنها مفعول به لأهلكنا .

وصيغة الجمع فى أهلكنا للتعظيم و " من " فى قوله { مِن قَبْلِهِم } لابتداء الغاية ، وفى قوله : { مِّن قَرْنٍ } مميزة لِكَمْ . والقرن : يطلق على الزمان الذى يعيش فيه جيل من الناس ، ومدته - على الراجح - مائة سنة والمراد به هنا أهل الزمان .

والمراد بالنداء فى قوله - تعالى - : { فنادوا } الاستغاثة والضراعة إلى الله أن يكشف عنهم العذاب .

و { لات } هى لا المشبهة بليس - وهذا رأى سيبويه - فهى حرف نفى زيدت فبيه التاء لتأكيد هذا النفى .

وأشهر أقوال النحويين فيها أنها تعمل عمل ليس ، وأنها لا تعمل إلى فى الحين خاصة ، أو فى لفظ الحين ونحوه من الأزمنة ، كالساعة والأوان ، وأنها لابد أن يحذف اسمها أو خبرها ، والأكثر حذف المرفوع منهما وإثبات المنصوب .

والحين : ظرف مبهم يتخصص بالإِضافة .

وقوله : { مناص } مصدر ميميى بمعنى الفرار والخلاص . يقال : ناص فلان من عدوه - من باب قال - فهو ينوص نوصا ومناصا ، إذا فر منه ، وهرب من لقائه . أو بمعنى النجاة والفوت . يقال : ناصه ينوصه إذا فاته ونجا منه .

والمراد بقوله - تعالى - : { أَهْلَكْنَا } الشروع فى الإِهلاك بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك { فَنَادَواْ } إذ من المعروف أن من هلك بالفعل لا يستغيث ولا ينادى . والمعنى : إن هؤلاء الكافرين المستكبرين عن طاعتنا وعبادتنا ، قد علموا أننا أهلكنا كثيرا من السابقين أمثالهم ، وأن هؤلاء السابقين عندما رأوا أمارات العذاب ومقدماته ، جأروا إلينا بالدعاء أن نكشفه عنهم ، واستغاثوا جاءت فى غير وقتها ، ولقد قلنا لهم عندما استغاثوا بنا عند فوات الأوان : { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } . أى : ليس الوقت الذى استغثتم بنا فيه وقت نجاة وفرار من العقاب ، بل هو وقت تنفيذ العقوبة فيكم ، بعد أن تماديتم فى كفركم ، وأعرضتم عن دعوة الحق بدون إنابة أو ندم .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا . . } وقوله - سبحانه - { حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ . لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ }