المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

29- يا أيها الذين آمنوا لا يأخذ بعضكم مال بعض بغير الحق . ولكن تجوز لكم التجارة بالتراضي منكم ، ولا تهلكوا أنفسكم بمخالفة أوامر ربكم ، ولا يجنى أحدكم على أخيه فإنما هي نفس واحدة ، إن الله دائم الرحمة بكم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }

ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل ، وهذا يشمل أكلها بالغصوب والسرقات ، وأخذها بالقمار والمكاسب الرديئة . بل لعله يدخل في ذلك أكل مال نفسك على وجه البطر والإسراف ، لأن هذا من الباطل وليس من الحق .

ثم إنه -لما حرم أكلها بالباطل- أباح لهم أكلها بالتجارات والمكاسب الخالية من الموانع ، المشتملة على الشروط من التراضي وغيره .

{ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : لا يقتل بعضكم بعضًا ، ولا يقتل الإنسان نفسه . ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة ، وفعلُ الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم ، ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها ، ورتب على ذلك ما رتبه من الحدود .

وتأمل هذا الإيجاز والجمع في قوله : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ } { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } كيف شمل أموال غيرك ومال نفسك وقتل نفسك وقتل غيرك بعبارة أخصر من قوله : " لا يأكل بعضكم مال بعض " و " لا يقتل بعضكم بعضًا " مع قصور هذه العبارة على مال الغير ونفس الغير فقط .

مع أن إضافة الأموال والأنفس إلى عموم المؤمنين فيه دلالة على أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ومصالحهم كالجسد الواحد ، حيث كان الإيمان يجمعهم على مصالحهم الدينية والدنيوية .

ولما نهى عن أكل الأموال بالباطل التي فيها غاية الضرر عليهم ، على الآكل ، ومن أخذ ماله ، أباح لهم ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات ، وأنواع الحرف والإجارات ، فقال : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أي : فإنها مباحة لكم .

وشرط التراضي -مع كونها تجارة- لدلالة أنه يشترط أن يكون العقد غير عقد ربا لأن الربا ليس من التجارة ، بل مخالف لمقصودها ، وأنه لا بد أن يرضى كل من المتعاقدين ويأتي به اختيارًا .

ومن تمام الرضا أن يكون المعقود عليه معلوما ، لأنه إذا لم يكن كذلك لا يتصور الرضا مقدورًا على تسليمه ، لأن غير المقدور عليه شبيه ببيع القمار ، فبيع الغرر بجميع أنواعه خال من الرضا فلا ينفذ عقده .

وفيها أنه تنعقد العقود بما دل عليها من قول أو فعل ، لأن الله شرط الرضا فبأي طريق حصل الرضا انعقد به العقد . ثم ختم الآية بقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن عصم دماءكم وأموالكم وصانها ونهاكم عن انتهاكها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

هذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن إن كانت تجارة فكلوها{[3968]} .

وقرأ المدنيون وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : «تجارةٌ » بالرفع على تمام «كان » وأنها بمعنى : وقع ، وقرأت فرقة ، هي الكوفيون حمزة وعاصم والكسائي : «تجارةً » بالنصب على نقصان «كان » ، وهو اختيار أبي عبيد .

قال القاضي أبو محمد : وهما قولان قويان ، إلا أن تمام «كان » يترجح عند بعض ، لأنها صلة «أن » فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها ، وهذا ترجيح ليس بالقوي ولكنه حسن ، و { أن } في موضع نصب ، ومن نصب «تجارة » جعل اسم كان مضمراً ، تقديره الأموال أموال تجارة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، أو يكون التقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة ، ومثل ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إذا كان يوماً ذا كواكبَ أشنعا{[3969]}

أي : إذا كان اليوم يوماً ، والاستثناء منقطع في كل تقدير وفي قراءة الرفع . فأكل الأموال بالتجارة جائز بإجماع الأمّة ، والجمهور على جواز الغبن في التجارة ، مثال ذلك : أن يبيع الرجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة ، فذلك جائز ، ويعضده حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يبع حاضر لبادٍ »{[3970]} لأنه إنما أراد بذلك أن يبيع البادي باجتهاده ، ولا يمنع الحاضر الحاضر من رزق الله في غبنه ، وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود ، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات ، وأما المتفاحش الفادح فلا ، وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله . و { عن تراض } معناه عن رضا ، إلا أنها جاءت من المفاعلة ، إذ التجارة من اثنين ، واختلف أهل العلم في التراضي ، فقالت طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر فيقول : قد اخترت ، وذلك بعد العقدة أيضاً ، فينجزم حينئذ ، هذا هو قول الشافعي وجماعة من الصحابة ، وحجته حديث النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار »{[3971]} وهو حديث ابن عمر وأبي برزة ، ورأيهما - وهما الراويان - أنه افتراق الأبدان .

قال القاضي أبو محمد : والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان ، لأنه من صفات الجواهر ، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله : تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة فتنجزم العقدة بذلك ويرتفع الخيار ، وقالا في الحديث المتقدم : إنه التفرق بالقول ، واحتج بعضهم بقوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته }{[3972]} فهذه فرقة بالقول لأنها بالطلاق ، قال من احتج للشافعي : بل هي فرقة بالأبدان ، بدليل تثنية الضمير ، والطلاق لا حظّ للمرأة فيه ، وإنما حظها في فرقة البدن التي هي ثمرة الطلاق ، قال الشافعي : ولو كان معنى قوله : يتفرقا بالقول الذي هو العقد لبطلت الفائدة في قوله : البيعان بالخيار ، لأنه لا يشك في أن كل ذي سلعة مخير ما لم يعقد ، فجاء الإخبار لا طائل فيه ، قال من احتجّ لمالك : إنما القصد في الحديث الإخبار عن وجوب ثبوت العقد ، فجاء قوله : البيعان بالخيار توطئة لذلك ، وإن كانت التوطئة معلومة ، فإنها تهيىء النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومها ، واستدل الشافعي بقوله عليه السلام :

«لا يسم الرجل على سوم أخيه ، ولا بيع الرجل على بيع أخيه »{[3973]} فجعلها مرتبتين لأن حالة البيعين بعد العقد قبل التفرق تقتضي أن يفسد مفسد بزيادة في السلعة فيختارربها حل الصفقة الأولى ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الإفساد ، ألا ترى أنه عليه السلام قال : «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه »{[3974]} فهي في درجة ؛ لا يسم ، ولم يقل : لا ينكح على نكاح أخيه لأنه لا درجة بعد عقد النكاح تقتضي تخييراً بإجماع من الأمة ، قال من يحتج لمالك رحمه الله : قوله عليه السلام : لا يسم ولا يبع ، هي درجة واحدة كلها قبل العقد ، وقال : لا بيع تجوزاً في لا يسم ، إذ مآله إلى البيع ، فهي جميعاً بمنزلة قوله : لا يخطب ، والعقد جازم فيهما جميعاً .

قال القاضي أبو محمد : وقوله في الحديث «إلا بيع الخيار » معناه عند المالكين : المتساومان بالخيار ما لم يعقدا ، فإذا عقدا بطل الخيار إلا في بيع الخيار الذي عقد من أوله على خيار مدة ما ، فإنه لا يبطل الخيار فيه ، ومعناه عند الشافعيين : المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما ، إلا بيعاً يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار ، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا ، فإن فرض بيع خيار فالمعنى إلا بيع الخيار فإنه يبقي الخيار بعد التفرق بالأبدان ، وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } قرأ الحسن «ولا تقتّلوا » على التكثير ، فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها ، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل ، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه ، فهذا كله يتناوله النهي ، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفاً على نفسه منه ، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه{[3975]} .


[3968]:- إنما كان الاستثناء منقطعا لوجهين: أولهما أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل فتستثنى منها سواء فسرنا الباطل بأنه أخذ المال بغير عوض أو بغير طريق شرعي، وثانيهما أن الاستثناء إنما وقع على الكون، والكون معنى من المعاني، وليس مالا من الأموال. وهذا استثناء لا يدل على الحصر في أنه لا يجوز أكل المال إلا بالتجارة فقط، بل هو ذكر نوع غالب من طرق اكتساب المال وهو التجارة. البحر المحيط 3/ 231. =ونظير هذه الآية في الاستثناء المنقطع قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}، وقوله سبحانه: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى}، ذكر ذلك ابن كثير 2/ 253.
[3969]:- هذا عجز البيت، وهو بتمامه: فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوما ذا كواكب أشهب. على أن (كان) تامة.
[3970]:- الحاضر: هو المقيم في المدينة أو القرية، والبادي: هو المقيم بالبادية- والمنهي عنه في هذا الحديث أن يأتي البدوي المدينة ومعه قوت يبغي بيعه بسرعة ولو رخيصا، فيقول له الحضري: اتركه عندي لأغالي في بيعه، وسئل ابن عباس عن معنى الحديث فقال: "لا يكون له سمسارا". (عن ابن الأثير).
[3971]:- رواه سمرة بن جندب، وأبو برزة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة، وحكيم بن حزام، وغيرهم، وهو ثابت في الصحيحين، وفي لفظ البخاري: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا). وفي رواية: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر). وقوله: (أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر) هو معنى الرواية الأخرى: (إلا بيع الخيار).
[3972]:- من الآية (130) من سورة (النساء).
[3973]:- عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسوم على سومه) قال "في نيل الأوطار": متفق عليه.
[3974]:- رواه الدارمي في سننه عن ابن عمر بلفظ: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه، ولا يبيع على بيع أخيه حتى يأذن له). ورواه أحمد عن ابن عمر أيضا. وأخرجه مسلم أيضا. وأخرجه كذلك البخاري. نيل الأوطار.
[3975]:- أخرج أحمد، وأبو داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عمرو بن العاص قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل، احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت به، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله، إني =احتلمت في ليل باردة شديدة البرد فأشفقت- إن اغتسلت- أن أهلك، وذكرت قول الله: {ولا تقتلوا أنفسكم} فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئا). الدر المنثور 2/ 144، 145.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تأكلوا أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } .

استئناف من التشريع المقصود من هذه السورة . وعلامة الاستئناف افتتاحه ب { يا أيّها الذين آمنوا } ، ومناسبته لما قبله أنّ أحكام المواريث والنكاح اشتملت على أوامر بإيتاء ذي الحقّ في المال حقّه ، كقوله : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] وقوله : { فآتوهن أجورهن فريضة } [ النساء : 24 ] وقوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } [ النساء : 4 ] الآية ، فانتقل من ذلك إلى تشريع عامّ في الأموال والأنفس .

وقد تقدّم أنّ الأكل مجاز في الانتفاع بالشيء انتفاعاً تامّا ، لا يعود معه إلى الغير ، فأكل الأموال هو الاستيلاء عليها بنية عدم إرجاعها لأربابها ، وغالب هذا المعنى أن يكون استيلاء ظلم ، وهو مجاز صار كالحقيقة . وقد يطلق على الانتفاع المأذون فيه كقوله تعالى : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء : 4 ] وقوله : { ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } [ النساء : 6 ] ، ولذلك غلب تقييد المنهي عنه من ذلك بقيد { بالباطل } ونحوه .

والضمير المرفوع ب ( تأكلوا ) ، والضمير المضاف إليه أموال : راجعان إلى { الذين آمنوا } ، وظاهر أنّ المرء لا يُنهى عن أكل مال نفسه ، ولا يسمّى انتفاعه بماله أكلاً ، فالمعنى : لا يأكل بعضهم مال بعض .

والباطل ضدّ الحق ، وهو ما لم يشرعه الله ولا كان عن إذن ربّه ، والباء فيه للملابسة .

والاستثناء في قوله : { إلا أن تكون تجارة } منقطع ، لأنّ التجارة ليست من أكل الأموال بالباطل ، فالمعنى : لكنْ كونُ التجارة غيرُ منهي عنه . وموقع المنقطع هنا بَيِّن جار على الطريقة العربية ، إذ ليس يلزم في الاستدراك شمولُ الكلام السابق للشيء المستدرك ولا يفيدُ الاستدراكُ حصراً ، ولذلك فهو مقتضى الحال . ويجوز أن يجعل قيد { الباطل } في حالة الاستثناء مُلغى ، فيكون استثناء من أكل الأموال ويكون متّصلاً ، وهو يقتضي أن الاستثناء قد حصر إباحة أكل الأموال في التجارة ، وليس كذلك ، وأياماً كان الاستثناء فتخصيص التجارة بالاستدراك أو بالاستثناء لأنّها أشدُّ أنواع أكل الأموال شَبَها بالباطل ، إذ التبرّعات كلّها أكل أموال عن طيب نفس ، والمعاوضات غير التجارات كذلك لأنّ أخذ كلا المتعاوِضين عوضاً عمّا بذَله للآخر مساوياً لقيمته في نظره يُطيَّب نفسَه . وأمّا التجارة فلأجْل ما فيها من أخذ المتصدّي للتجر ما لا زائداً على قيمة ما بذله للمشتري قد تُشبه أكل المال بالباطل فلذلك خصّت بالاستدراك أو الاستثناء . وحكمة إباحة أكل المال الزائد فيها أنّ عليها مدار رواج السلع الحاجية والتحسينية ، ولولا تصدّي التجّار وجلبُهم السلعَ لما وَجد صاحب الحاجة ما يسدّ حاجته عند الاحتياج . ويشير إلى هذا ما في « الموطأ » عن عمر بن الخطاب أنّه قال : في احتكار الطعام « ولكنْ أيُّما جالب جلب على عَمُود كَبِدِه في الشتاء والصيف فذلك ضيفُ عُمَر فليبع كيف شاء ويمسك كيف شاء » .

وقرأ الجمهور : { إلا أن تكون تجارة } برفع تجارة على أنّه فاعل لكانَ مِن كان التامّة ، أي تَقَعَ . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلَف بنصب تجارة على أنّه خبر كان الناقصة ، وتقدير اسمها : إلاّ أن تكون الأموال تجارة ، أي أموال تجارة .

وقوله : { عن تراض منكم } صفة ل ( تجارة ) ، و ( عن ) فيه للمجاوزة ، أي صادرة عن التراضي وهو الرضا من الجانبين بما يدلّ عليه من لفظ أو عرف . وفي الآية ما يصلح أن يكون مستنداً لقول مالك من نفي خِيار المجلس : لأنّ الله جعل مناط الانعقاد هو التراضي ، والتراضي يحصل عند التبايع بالإيجاب والقبول .

وهذه الآية أصل عظيم في حرمة الأموال ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحلّ مالُ امرىء مسلم إلاّ عن طيب نَفس " . وفي خطبة حجّة الوداع " إنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام " . وتقديم النهي عن أكل الأموال على النهي عن قتل الأنفس ، مع أنّ الثاني أخطر ، إمّا لأنّ مناسبة ما قبله أفْضت إلى النهي عن أكل الأموال فاستحقّ التقديم لذلك ، وإمّا لأنّ المخاطبين كانوا قريبي عهد بالجاهلية ، وكان أكل الأموال أسهل عليهم ، وهم أشدّ استخفافاً به منهم بقتللِ الأنفس ، لأنّه كان يقع في مواقع الضعف حيث لا يَدفع صاحبه عن نفسه كاليتيم والمرأةِ والزوجة . فآكِل أموال هؤلاء في مأمَن من التبِعات بخلاف قتل النفس ، فإنّ تبعاته لا يسلم منها أحد ، وإن بلغ من الشجاعة والعزّة في قومه كلّ مبلغ ، ولا أمنع من كُلَيْب وائل ، لأنّ القبائل ما كانت تهدر دماء قتلاها .

{ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما }

قوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } نهي عن أن يقتل الرجل غيرَه ، فالضميرانِ فيه على التوزيع ، إذ قد عُلم أنّ أحداً لا يقتل نفسَه فيُنهى عن ذلك ، وقَتْل الرجل نفسه داخل في النهي ، لأنّ الله لم يبح للإنسان إتلاف نفسه كما أباح له صرف ماله ، أمّا أن يكون المراد هنا خصوص النهي عن قتل المرء نفسَه فلا . وأمّا ما في « مسند أبي داود » : أنّ عَمرو بن العاص رضي الله عنه تيمّم في يوم شديد البَرْد ولم يغتسل ، وذلك في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس ، وبلَغ ذلك رسولَ الله ، فسأله وقال : يا رسول الله إنّ الله يقولُ : { ولا تقتلوا أنفسكم } ، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فذلك من الاحتجاج بعموم ضمير ( تقتلوا ) دون خصوص السبب .