67- واذكر - يا محمد - حين قال موسى لقومه وقد قُتل فيهم قتيل لم يعرفوا قاتله : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ليكون ذلك مفتاحاً لمعرفة القاتل ، ولكنهم استغربوا أن تكون هناك صلة بين قتل القتيل وذَبح البقرة قائلين : أَتسخر منا يا موسى ؟ ، فرد عليهم قائلاً : إني أعتصم بتأديب الله لي أن أكون من الجاهلين الذين يستهزئون بعباده .
أي : واذكروا ما جرى لكم مع موسى ، حين قتلتم قتيلا ، وادارأتم فيه ، أي : تدافعتم واختلفتم في قاتله ، حتى تفاقم الأمر بينكم وكاد - لولا تبيين الله لكم - يحدث بينكم شر كبير ، فقال لكم موسى في تبيين القاتل : اذبحوا بقرة ، وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره ، وعدم الاعتراض عليه ، ولكنهم أبوا إلا الاعتراض ، فقالوا : { أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } فقال نبي الله : { أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه ، وهو الذي يستهزئ بالناس ، وأما العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل ، استهزاءه بمن هو آدمي مثله ، وإن كان قد فضل عليه ، فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه ، والرحمة لعباده .
{ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } أول هذه القصة قوله تعالى : { وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها } وإنما فكت عنه وقدمت عليه لاستقلالها بنوع آخر من مساويهم ، وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة إلى الامتثال وقصته : أنه كان فيهم شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه طمعا في ميراثه وطرحوه على باب المدينة ، ثم جاءوا يطالبون بدمه ، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبر بقاتله .
{ قالوا أتتخذنا هزوا } أي مكان هزؤ ، أو أهله ومهزوءا بنا ، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء استبعادا لما قاله واستخفافا به ، وقرأ حمزة وإسماعيل عن نافع بالسكون ، وحفص عن عاصم بالضم وقلب الهمزة واوا . { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } لأن الهزؤ في مثل ذلك جهل وسفه ، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان ، وأخرج ذلك في صورة الاستعاذة استفظاعا له .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 67 )
وقوله تعالى : { وإذ قال موسى لقومه } الآية( {[757]} ) : { إذ } عطف على ما تقدم ، والمراد تذكيرهم بنقض سلفهم للميثاق ، وقرأ أبو عمرو «يأمرْكم » بإسكان الراء ، وروي عنه اختلاس الحركة ، وقد تقدم القول في مثله في «بارئكم »( {[758]} ) .
وسبب هذه الآية على ما روي ، أن رجلاً من بني إسرائيل أسنّ وكان له مال ، فاستبطأ ابن أخيه موته ، وقيل أخوه ، وقيل ابنا عمه ، وقيل ورثة كثير غير معينين ، فقتله ليرثه وألقاه في سبط آخر غير سبطه ، ليأخذ ديته ويلطخهم بدمه ، وقيل : كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين ، فألقاه إلى باب إحدى المدينتين ، وهي التي لم يقتل فيها ، ثم جعل يطلبه هو وسبطه حتى وجده قتيلاً ، فتعلق بالسبط أو بسكان المدينة التي وجد القتيل عندها ، فأنكروا قتله ، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء( {[759]} ) حتى دخلوا في السلاح ، فقال أهل النهي منهم : أنقتل ورسول الله معنا ؟ فذهبوا إلى موسى عليه السلام فقصوا عليه القصة ، وسألوه البيان ، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة فيضرب القتيل ببعضها ، فيحيى ويخبر بقاتله فقال لهم : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ، فكان جوابهم أن قالوا : { أتتخذنا هزواً } ؟ .
قرأ الجحدري «أيتخذنا » بالياء ، على معنى أيتخذنا الله( {[760]} ) ، وقرأ حمزة : «هزْؤاً » بإسكان الزاي والهمز ، وهي لغة ، وقرأ عاصم بضم الزاي والهاء والهمز ، وقرأ أيضاً : دون همز «هزواً » ، حكاه أبو علي ، وقرأت طائفة من القراء بضم الهاء والزاء والهمزة بين بين ، وروي عن أبي جعفر وشيبة( {[761]} ) ضم الهاء وتشديد الزاي «هُزّاً » ، وهذا القول من بني إسرائيل ظاهره فساد اعتقاد ممن قاله ، ولا يصح الإيمان ممن يقول لنبي قد ظهرت معجزاته ، وقال : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ، { أتتخذنا هزواً } ، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره ، وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية ، على نحو ما قال القائل( {[762]} ) للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين : «إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله » ، وكما قال له الآخر : «اعدل يا محمد » ، وكلٌّ محتمل( {[763]} ) ، والله أعلم .
تعرضت هذه الآية لقصة من قصص بني إسرائيل ظهر فيها من قلة التوقير لنبيهم ومن الإعنات في المسألة والإلحاح فيها إما للتفصي من الامتثال وإما لبعد أفهامهم عن مقصد الشارع ورومهم التوقيف على ما لاقصد إليه . قيل : إن أول هذه القصة هو المذكور بقوله تعالى : { وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها } [ البقرة : 72 ] الآية وإن قول موسى : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ناشىء عن قتل النفس المذكورة ، وإن قول موسى قدم هنا لأن خطاب موسى عليه السلام لهم قد نشأ عنه ضرب من مذامهم في تلقي التشريع وهو الاستخفاف بالأمر حين ظنوه هزؤاً والإعنات في المسألة فأريد من تقديم جزء القصة تعدد تقريعهم ، هكذا ذكر صاحب « الكشاف » والموجهون لكلامه ، ولا يخفى أن ما وجهوا به تقديم جزء القصة لا يقتضي إلا تفكيك القصة إلى قصتين تعنون كل واحدة منهما بقوله : { وإذ } مع بقاء الترتيب ، على أن المذام قد تعرف بحكايتها والتنبيه عليها بنحو قوله : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين وقوله : { وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] .
فالذي يظهر لي أنهما قصتان أشارت الأولى وهي المحكية هنا إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة وهذه هي القصة التي أشارت إليها التوراة في السفر الرابع وهو سفر التشريع الثاني ( تثنية ) في الإصحاج 21 أنه « إذا وجد قتيل لا يعلم قاتله فإن أقرب القرى إلى موقع القتيل يخرج شيوخها ويخرجون عجلة من البقر لم يحرث عليها ولم تنجُر بالنير فيأتون بها إلى واد دائم السيلان لم يحرث ولم يزرع ويقطعون عنقها هنالك ويتقدم الكهنة من بني لاوى فيغسل شيوخ تلك القرية أيديهم على العجلة في الوادي ويقولون لم تسفك أيدينا هذا الدم ولم تبصر أعيننا سافكه فيغفر لهم الدم » اهـ . هكذا ذكرت القصة بإجمال أضاع المقصود وأبهم الغرض من هذا الذبح أهو إضاعة ذلك الدم باطلاً أم هو عند تعذر معرفة المتهم بالقتل ؟ وكيفما كان فهذه بقرة مشروعة عند كل قتل نفس جُهل قاتلها وهي المشار إليها هنا ، ثم كان ما حدث من قتل القتيل الذي قتله أبناء عمه وجاءوا مظهرين المطالبة بدمه وكانت تلك النازلة نزلت في يوم ذبح البقرة فأمرهم الله بأن يضربوا القتيل ببعض تلك البقرة التي شأنها أن تذبح عند جهل قاتل نفس . وبذلك يظهر وجه ذكرهما قصتين وقد أجمل القرآن ذكر القصتين لأن موضع التذكير والعبرة منهما هو ما حدث في خلالهما لا تفصيل الوقائع فكانت القصة الأولى تشريعاً سيق ذكره لما قارنه من تلقيهم الأمر بكثرة السؤال الدال على ضعف الفهم للشريعة وعلى تطلب أشياء لا ينبغي أن يظن اهتمام التشريع بها ، وكانت القصة الثانية منة عليهم بآية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسولهم بينها الله لهم ليزدادوا إيماناً ولذلك ختمت بقوله :
{ ويريكم آياته لعلكم تعقلون } [ البقرة : 73 ] وأتبعت بقوله : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } [ البقرة : 74 ] .
والتأكيد في قوله : { إن الله يأمركم } حكاية لما عبر به موسى من الاهتمام بهذا الخبر الذي لو وقع في العربية لوقع مؤكداً بإنَّ .
وقولهم : { تتخذنا هزؤاً } استفهام حقيقي لظنهم أن الأمر بذبح بقرة للاستبراء من دم قتيل كاللعب و { تتخذنا } بمعنى تجعلنا وسيأتي بيان أصل فعل اتخذ عند قوله تعالى : { أتتخذ أصناماً آلهة } في سورة الأنعام ( 74 ) .
والهزؤ بضم الهمزة والزاي وبسكون الزاي مصدر هزأ به هزءاً وهو هنا مصدر بمعنى المفعول كالصيد والخلق .
وقرأ الجمهور { هزؤًا } بضمتين وهمز بعد الزاي وصلاً ووقفاً ، وقرأ حمزة بسكون الزاي وبالهمز وصلاً ، ووقف عليه بتخفيف الهمز واواً وقد رسمت في المصحف واواً ، وقرأ حفص بضم الزاي وتخفيف الهمز واواً في الوصل والوقف .
وقول موسى : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } تبرؤٌ وتنزه عن الهزء لأنه لا يليق بالعقلاء الأفاضل فإنه أخص من المزح لأن في الهزؤِ مزحاً مع استخفاف واحتقار للمزوح معه على أن المزح لا يليق في المجامع العامة والخطابة ، على أنه لا يليق بمقام الرسول ولذا تبرأ منه موسى بأنه نفى أن يكون من الجاهلين كناية عن نفي المزح بنفي ملزومه ، وبالغ في التنزه بقوله { أعوذ بالله } أي منه لأن العياذ بالله أبلغ كلمات النفي فإن المرء لا يعوذ بالله إلا إذا أراد التغلب على أمر عظيم لا يغلبه إلا الله تعالى . وصيغة { أن أكون من الجاهلين } أبلغ في انتفاء الجهالة من أن لو قال أعوذ بالله أن أجهل كما سيأتي في سورة الأنعام ( 56 ) عند قوله : { وما أنا من المهتدين } .
والجهل ضد العلم وضد الحلم وقد ورد لهما في كلام العرب ، فمن الأول قول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومن الثاني قول الحماسي : فليس سواء عالم وجهول . . . وقول النابغة : وليس جاهل شيء مثل من علما . . .