{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
وهذه الآية نزلت ردا لمن قال من أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالإيمان به ودعاهم إلى طاعته : أتريد يا محمد أن نعبدك مع الله ، فقوله { ما كان لبشر } أي : يمتنع ويستحيل على بشر من الله عليه بإنزال الكتاب وتعليمه ما لم يكن يعلم وإرساله للخلق { أن يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } فهذا من أمحل المحال صدوره من أحد من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام ، لأن هذا أقبح الأوامر على الإطلاق ، والأنبياء أكمل الخلق على الإطلاق ، فأوامرهم تكون مناسبة لأحوالهم ، فلا يأمرون إلا بمعالي الأمور وهم أعظم الناس نهيا عن الأمور القبيحة ، فلهذا قال { ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } أي : ولكن يأمرهم بأن يكونوا ربانيين ، أي : علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم ، بصغار العلم قبل كباره ، عاملين بذلك ، فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة ، وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل ، والباء في قوله { بما كنتم تعلمون } إلخ ، باء السببية ، أي : بسبب تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه ، التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى ، تكونون ربانيين .
قال محمد بن إسحاق : حدثنا محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القُرَظِي ، حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران ، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدكَ كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أوَ ذاك تريد منا يا محمد ، وإليه تدعوننا ؟ أو كما قال . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَعَاذَ اللهِ أنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ ، أو أنْ نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِه ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي ، ولا بِذَلِكَ أَمَرَنِي " . أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ } [ الآية ]{[5244]} إلى قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }{[5245]} .
فقوله{[5246]} { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحُكْم والنبوة أن يقول للناس : اعبدوني من دون الله ، أي : مع الله ، فإذا{[5247]} كان هذا لا يصلح{[5248]} لنبي ولا لمرسل ، فلأن لا يصلح{[5249]} لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى ؛ ولهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته . قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا - يعني أهل الكتاب - كانوا يَتعبَّدون لأحبارهم ورهبانهم ، كما قال الله تعالى :
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ]{[5250]} } [ التوبة : 31 ] وفي المسند ، والترمذي - كما سيأتي - أن عَديّ بن حاتم قال : يا رسول الله ، ما عبدوهم . قال : " بَلَى ، إنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ وحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلالَ ، فَاتَّبَعُوهُمْ ، فَذَلِكَ{[5251]} عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ " .
فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين ، فإنما يأمرون بما أمَرَ الله به وبلغتهم إياه رسله الكرام . إنما يَنْهَوْنهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام . فالرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعينَ ، هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة ، فقاموا بذلك أتم قيام ، ونصحوا الخلق ، وبلغوهم الحق .
وقوله : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } أي : ولكن يقول الرسول للناسِ : كونوا رَبَّانيين . قال ابن عباس وأبو رَزِين وغير واحد ، أي : حكماء علماء حلماء . وقال الحسن وغير واحد : فقهاء ، وكذا رُوِي عن ابن عباس ، وسعيد بن جُبير ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، وعطية العوفي ، والربيع بن أنس . وعن الحسن أيضا : يعني أهل عبادة وأهل تقوى .
وقال الضحاك في قوله : { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } حَقٌ على من تعلم القرآن أن يكون فَقيهًا : " تَعْلَمُون " أي : تفهمون{[5252]} معناه . وقرئ { تُعَلِّمُون } بالتشديد من التعليم { وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } تحفظون{[5253]} ألفاظه .
اعتراض واستطراد : فإنه لما ذكر لَيّ اليهودِ ألسنتَهم بالتوراة ، وهو ضرب من التحريف ، استطرد بذكر التحريف الذي عند النصارى لمناسبة التشابه في التحريف إذ تقَوّل النصارى على المسيح أنه أمرهم بعبادته فالمراد بالبشر عيسى عليه السلام ، والمقصود تنزيه عيسى عن أن يكون قال ذلك ، ردّاً على النصارى ، فيكون رجوعاً إلى الغرض الذي في قوله : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء إلى قوله بأنا مسلمون } [ آل عمران : 64 ] .
وفي « الكشاف » قيل نزلت لأنّ رجلاً قال : يا رسول الله نُسلمُ عليك كما يُسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك . قال : " لا ينبغي أن يُسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيئكم واعرِفوا الحق لأهله " قلت : أخرجه عبد بن حميد عن الحسن ، فعلى تقدير كونه حديثاً مقبولاً فمناسبة ذكر هذه الآية أنها قص منها الردّ على جميع هذه المعتقدات . ووقع في أسباب النزول للواحدي مِن رواية الكلبي ، عن ابن عباس : أنّ أبا رافع اليهودي والسيدَ مِن نصارى نجران قالا يا محمد : « أتريد أن نعبدك » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " معاذ الله أن يُعبد غير الله " ونزلت هذه الآية .
وقوله : { ما كان لبشر } نفي لاستحقاق أحد لذلك القول واللام فيه للاستحقاق . وأصل هذا التركيب في الكلام ما كان فُلان فاعلاً كذا ، فلما أريدت المبالغة في النفي عدل عن نفي الفعل إلى نفي المصدر الدال على الجنس ، وجعل نفي الجنس عن الشخص بواسطة نفي الاستحقاق إذ لا طريقة لِحمل اسم ذات على اسم ذات إلاّ بواسطة بعض الحروف ، فصار التركيب : ما كان له أن يفعل ، ويقال أيضاً : ليس له أن يفعل ، ومثل ذلك في الإثبات كقوله تعالى : { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى } [ طه : 118 ] .
فمعنى الآية : ليس قولُ { كونوا عباداً لي } حقاً لبشر أيِّ بشر كان . وهذه اللام هي أصل لام الجحود التي في نحو { وما كان الله ليعذّبهم } [ الأنفال : 33 ] ، فتراكيب لام الجحود كلّها من قبيل قلب مثل هذا التركيب لقصد المبالغة في النفي ، بحيث ينفي أن يكون وجود المسند إليه مجعولاً لأجل فِعْل كذا ، أي فهو بريء منه بأصل الخلقة ولذلك سميت جحوداً .
والمنفي في ظاهر هذه الآية إيتاء الحكم والنبوءة ، ولكن قد علم أنّ مصبّ النفي هو المعطوف من قوله : { ثم يقول للناس كونوا عباداً لي } أي ما كان له أن يقول كونوا عباداً لي إذا آتاه الله الكتاب إلخ .
والعباد جمع عبد كالعبيد ، وقال ابن عطية : « الذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع عبد لا يقصد معه التحقير ، والعبيد يقصد منه ، ولذلك قال تعالى : « يا عبادي » وسمّت العرب طوائف من العرب سكنوا الحِيرة ودخلوا تحت حكم كِسرى بالعباد ، وقيل لأنهم تنصّروا فسموْهم بالعباد ، بخلاف جمعه على عَبيد كقولهم : هم عبيد العَصا ، وقال حمزةُ بنُ المطلب هل أنتم إلاّ عبيدٌ لأبي ومنه قول الله تعالى : { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] ؛ لأنّه مكان تشفيق وإعْلام بقلة مقدرتهم وأنه تعالى ليس بظلاّم لهم مع ذلك ، ولما كان لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك آنس بها في قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر : 53 ] فهذا النوع من النظر يُسلك به سُبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن على الطريقة العربية السلبية » . اهـ .
وقوله : { من دون الله } قيد قصد منه تشنيع القول بأن يكونوا عباداً للقائل بأنّ ذلك يقتضي أنهم انسلخوا عن العبودية لله تعالى إلى عبودية البشر ، لأنّ حقيقة العبودية لا تقبل التجزئة لمعبودين ، فإنّ النصارى لما جعلوا عيسى ربّاً لهم ، وجعلوه ابناً للَّه ، قد لزمهم أنهم انخلعوا عن عبودية الله فلا جدوى لقولهم : نحن عبد الله وعبيدُ عيسى ، فلذلك جعلت مقالتُهم مقتضية أنّ عيسى أمرهم بأن يكونوا عباداً له دون الله ، والمعنى أنّ لآمِر بأن يكون الناس عباداً له هو آمر بانصرافهم عن عبادة الله . { ولكن كونوا ربانيين } أي ولكن يقول كونوا ربانيين أي كونوا منسوبين للربّ ، وهو الله تعالى ، لأنّ النسب إلى الشيء إنما يَكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه .
ومعنى ذلك أن يَكونوا مخلصين لله دون غيره .
والربّاني نسبة إلى الرب على غير قياس كما يقال اللِّحياني لعظيم اللحية ، والشَّعراني لكثير الشعرَ .
وقوله : { بما كنتم تعلمون الكتاب } أي لأنّ علمكم الكتاب من شأنه أن يصدّكم عن إشراك العبادة ، فإنّ فائدة العلم العمل .
وقرأ الجمهور : بما كنتم تعلمون بفتح المثناة الفوقية وسكون العين وفتح اللام مضارع عَلِم . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : بضم ففتح فلاممٍ مشدّدة مكسورة مضارع عَلَّم المضاعف .
{ وتدرسون } معناه تقرؤون أي قراءة بإعادة وتكرير : لأنّ مادّة درس في كلام العرب تحوم حول معاني التأثر من تكرّر عمل يُعمل في أمثاله ، فمنه قولهم : دَرَسَت الريحُ رسمَ الدار إذا عفته وأبلته ، فهو دارس ، يقال منزل دارس ، والطريق الدارس العافي الذي لا يتبين . وثوْب دارس خَلَقٌ ، وقالوا : دَرَس الكتاب إذا قرأه بتمهّل لحفظه ، أو للتدبّر ، وفي الحديث : " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاّ نزلت عليهم السكينة إلخ " رواه الترمذي فعطَفَ التدارس على القراءة فعُلم أنّ الدراسة أخصّ من القراءة . وسموا بيت قراءة اليهود مِدْرَاساً كما في الحديث : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج في طائفة من أصحابه حتى أتى مدراس اليهود فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلخ . ومادة درس تستلزم التمكن من المفعول فلذلك صار درس الكتاب مجازاً في فهمه وإتقانه ولذلك عطف في هذه الآية { وبما كنتم تدرسون } على { بما كنتم تعلمون الكتاب } .
وفعله من باب نصر ، ومصدره في غالب معانيه الدرس ، ومصدر درس بمعنى قرأ يجيء على الأصل دَرْساً ومنه سمي تعليم العِلم درساً .
ويجيء على وزن الفِعالة دِراسة وهي زنة تدل على معالجة الفعل ، مثل الكتابة والقراءة ، إلحاقاً لذلك بمصادر الصناعات كالتجارة والخياطة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما كان لبشر}: عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم. {أن يؤتيه الله}: أن يعطيه الله {الكتاب}: التوراة والإنجيل، {والحكم}: الفهم، {والنبوة ثم يقول للناس}: بني إسرائيل: {كونوا عبادا لي من دون الله ولكن}، يقول لهم: {كونوا ربانيين}: متعبدين لله عز وجل، {بما كنتم تعلمون الكتاب}: يعني التوراة والإنجيل، {وبما كنتم تدرسون}: تقرؤون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وما ينبغي لأحد من البشر، والبشر: جمع بني آدم، لا واحد له من لفظه، مثل القوم والخلق، وقد يكون اسما لواحد. {أنْ يُؤتِيَهُ اللّهُ الكِتابَ}: أن ينزل الله عليه كتابه، {والحُكْمَ}: ويعلمه فصل الحكمة، {وَالنُبُوّةَ}: ويعطيه النبوّة. {ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ كُونُوا عِبادا لي مِنْ دُونِ اللّهِ}: ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله، وقد آتاه الله ما آتاه من الكتاب والحكم والنبوّة. ولكن إذا آتاه الله ذلك فإنما يدعوهم إلى العلم بالله، ويحدوهم على معرفة شرائع دينه، وأن يكونوا رؤساء في المعرفة بأمر الله ونهيه، وأئمة في طاعته وعبادته بكونهم معلمي الناس الكتاب، وبكونهم دارسيه.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أتدعونا إلى عبادتك؟
{وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ}: ولكن يقول لهم: كونوا ربانيين، فترك القول استغناء بدلالة الكلام عليه.
وأما قوله: {كُونُوا رَبّانِيّينَ} فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضهم: معناه: كونوا حكماء علماء فقهاء.
وقال آخرون: بل هم الحكماء الأتقياء... الربانيون: الذين يربون الناس ولاة هذا الأمر، يربونهم: يلونهم. وقرأ: {لولا يَنْهَاهُمُ الرّبّانِيّونَ والأحْبارُ} قال: الربانيون: الولاة، والأحبار: العلماء.
وأولى الأقوال عندي بالصواب في الربانيين: أنهم جمع ربانيّ، وأن الربانيّ المنسوب إلى الرّبّان: الذي يربّ الناس، وهو الذي يصلح أمورهم ويربها، ويقوم بها، يقال منه: ربّ أمري فلان فهو بربّه رَبّا وهو رابّه، فإذا أريد به المبالغة في مدحه قيل: هو رَبّان...
فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا، وكان الربان ما ذكرنا، والرباني: هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفت، وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين، يربّ أمور الناس بتعليمه إياهم الخير، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم، وكان كذلك الحكيم التقيّ لله، والولي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وليه المقسطون من المصلحين أمور الخلق بالقيام فيهم، بما فيه صلاح عاجلهم وآجلهم، وعائدة النفع عليهم في دينهم ودنياهم¹ كانوا جميعا مستحقين أنهم ممن دخل في قوله عزّ وجلّ {وَلَكِنْ كُونُوا رَبانِيّينَ}. فالربانيون إذا، هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا، ولذلك قال مجاهد: «وهم فوق الأحبار»، لأن الأحبار هم العلماء. والرباني: الجامع إلى العلم والفقه، البصرَ بالسياسة والتدبير، والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم.
{بِمَا كُنْتُمْ تعَلّمُونَ الكِتابَ، وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}.
اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه عامة قراء أهل الحجاز وبعض البصريين: «بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» بفتح التاء وتخفيف اللام، يعني: بعلمكم الكتاب، ودراستكم إياه وقراءتكم. واعتلّوا لاختيارهم قراءة ذلك كذلك، بأن الصواب لو كان التشديد في اللام وضمّ التاء، لكان الصواب في «تدرسون» بضم التاء وتشديد الراء. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلّمُونَ الكِتابَ} بضم التاء من تعلّمون وتشديد اللام، بمعنى: بتعليمكم الناس الكتاب، ودراستكم إياه. واعتلّوا لاختيارهم ذلك بأن من وصفهم بالتعليم فقد وصفهم بالعلم، إذ لا يعلّمون إلا بعد علمهم بما يعلمون. قالوا: ولا موصوف بأنه يعلم، إلا وهو موصوف بأنه عالم. قالوا: فأما الموصوف بأنه عالم، فغير موصوف بأنه معلم غيره. قالوا: فأولى القراءتين بالصواب، أبلغهما في مدح القوم، وذلك وصفهم بأنهم كانوا يعلّمون الناس الكتاب.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأه بضم التاء وتشديد اللام، لأن الله عزّ وجلّ وصف القوم بأنهم أهل عماد للناس في دينهم ودنياهم، وأهل إصلاح لهم ولأمورهم وتربية، يقول جلّ ثناؤه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ} على ما بينا قبل من معنى الرباني. ثم أخبر تعالى ذكره عنهم أنهم صاروا أهل إصلاح للناس، وتربية لهم بتعليمهم إياهم كتاب ربهم. ودراستهم إياه: تلاوته، وقد قيل: دراستهم الفقه.
وأشبه التأويلين بالدراسة ما قلنا من تلاوة الكتاب، لأنه عطف على قوله: {تُعَلّمُونَ الكِتابَ}، والكتاب: هو القرآن، فلأن تكون الدراسة معنيا بها دراسة القرآن أولى من أن تكون معنيا بها دراسة الفقه الذي لم يجر له ذكر. فمعنى الآية: ولكن يقول لهم: كونوا أيها الناس سادة الناس وقادتهم في أمر دينهم ودنياهم، ربانيين بتعليمكم إياهم كتاب الله، وما فيه من حلال وحرام، وفرض وندب، وسائر ما حواه من معاني أمور دينهم، وبتلاوتكم إياه ودراستكموه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
تُبَيِّن [هذه الآية] أنهم إنما أضافوا دينهم الذي فيه عبادة غير الله إلى أنبيائهم كذبة، وأن الله يجعل رسالته عند من يعصمه من مثله بقوله: {والله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] لا يجعلها حيث يخان،... وفي الآية دليل عصمة الرسل والأنبياء عليهم السلام عن الكفر بقوله: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله} [وخاصة في عصمة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم... وفيه دلالة جواز الاجتهاد لأنه إنما يوصل إلى ما فيه من المعنى والفقه بالاجتهاد، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ولكن "يقول لهم: "كونوا ربانيين"، وحذف يقول لدلالة الكلام عليه...
وإنما دخلت الباء في قوله: "بما كنتم تعلمون "لأحد ثلاثة أشياء: أحدها -كونوا معلمي الناس بعلمكم، كما تقول: انفعوهم بما لكم. الثاني- كونوا ممن يستحق أن يطلق عليه صفة عالم بعلمه على جهة المدح له بإخلاصه مما يحبطه. الثالث -كونوا ربانيين في علمكم ودراستكم ووقعت الباء في موضع في...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{كونوا ربانيين} الآية: أي يقول كونوا معلمي الناس بعلمكم ودرسكم علموا الناس وبينوا لهم وكذا كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود لأنهم كانوا أهل كتاب يعلمون ما لا تعلمه العرب...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
والرباني من طريق المعني: هو أن يكون على دين الرب وعلى طريق الرب...
وقيل هو من التربية، فالرباني هو الذي ربي بصغار العلم حتى بلغ كباره،... وروى: أن ابن عباس لما توفي، قام محمد بن الحنفية على قبره، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والحكم} والحكمة: وهي السنة... والربانيّ: منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون؛ ... وهو الشديد التمسك بدين الله وطاعته...
وكانوا يقولون: الشارع الرباني: العالم العامل المعلم. {بِمَا كُنتُمْ} بسبب كونكم عالمين وبسبب كونكم دارسين للعلم أوجب أن تكون الربانية التي هي قوّة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة، وكفى به دليلاً على خيبة سعي من جهد نفسه وكدّ روحه في جمع العلم، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل، فكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها... ويجوز أن يكون معناه ومعنى تدرسون بالتخفيف: تدرسونه على الناس كقوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس} [الإسراء: 106] فيكون معناهما معنى تدرسون من التدريس. وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من الله في شيء، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع، حيث لم يثبت النسبة إليه إلا للمتمسكين بطاعته...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا الكلام لفظه النفي التام، كقول أبي بكر رضي الله عنه: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يعلم مبلغها من النفي بقرينة الكلام الذي هي فيه، كقوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله} وقوله تعالى: {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} فهذا منتف عقلاً، وأما آيتنا هذه فإن النفي على الكمال لأنّا نقطع أن الله تعالى لا يؤتي النبوة للكذبة والمدعين، و {الكتاب} في هذه الآية اسم جنس،...
و {ثم} في قوله تعالى: {ثم يقول} معطية تعظيم الذنب في القول، بعد مهلة من هذا الإنعام..
والذي استقريت في لفظة العباد، أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن وانظر قوله تعالى: {والله رؤوف بالعباد} [البقرة: 207] [آل عمران: 30] و {عباد مكرمون} [الأنبياء: 26] {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض لرحمة الله {إن تعذبهم فإنهم عبادك} فنوه بهم، وقال بعض اللغويين: إن نصارى الحيرة وهم عرب لما أطاعوا كسرى ودخلوا تحت أمره سمتهم العرب العباد فلم ينته بهم إلى اسم العبيد، وقال قوم بل هم قوم من العرب من قبائل شتى اجتمعوا وتنصروا وسموا أنفسهم العباد كأنه انتساب إلى عبادة الله، وأما العبيد فيستعمل في التحقير، ومنه قول الله تعالى: {وما ربك بظلاّم للعبيد} لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم، وأنه تعالى ليس بظلاّم لهم مع ذلك، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أنس بها في قوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم}. قال الإمام أبو محمد: فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة،... قال بعض العلماء: أرادت الأحبار أن تلزم هذا القول محمداً صلى الله عليه وسلم، لما تلا عليهم {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} [آل عمران: 31] وإنما معنى الآية، فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من طاعة الله، فحرفوها بتأويلهم، وهذا من نوع ليِّهم الكتاب بألسنتهم،... و {تعلمون} بمعنى تعرفون،...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}.
المعنى: وإنَّ عِلْمَهم بالكتاب، ودَرْسَهم له يوجِبُ ذلك عليهم؛ لأنَّ هذا من المعاني التي شُرِحت فيه لهم.
المسألة الخامسة: حرَّم الله تعالى على الأنبياء أنْ يتخذوا الناسَ عباداً يتألّهون لهم، ولكن ألزمَ الْخَلْقَ طاعتهم.
وقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقولنَّ أحدكم عبدي وأمَتي، وليقُلْ فَتاي وفتَاتي، ولا يَقُلْ أحدكم رَبّي وليقل سيِّدي».
اعلم أنه تعالى لما بين أن عادة علماء أهل الكتاب التحريف والتبديل أتبعه بما يدل على أن من جملة ما حرفوه ما زعموا أن عيسى عليه السلام كان يدعي الإلهية، وأنه كان يأمر قومه بعبادته فلهذا قال: {ما كان لبشر} الآية... أن اليهود لما ادعوا أن أحدا لا ينال من درجات الفضل والمنزلة ما نالوه، فالله تعالى قال لهم: إن كان الأمر كما قلتم، وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم ولكن يجب أن تأمروا الناس بالطاعة لله والانقياد لتكاليفه وحينئذ يلزمكم أن تحثوا الناس على الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن ظهور المعجزات عليه يوجب ذلك، وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله {ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله} مثل قوله {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} [التوبة: 31]...
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله} على وجوه:
الأول: قال الأصم: معناه، أنهم لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الدليل عليه قوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين} [الحاقة: 44، 45] قال: {لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} [الإسراء: 74، 75].
الثاني: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام موصوفون بصفات لا يحسن مع تلك الصفات ادعاء الإلهية والربوبية منها أن الله تعالى آتاهم الكتاب والوحي وهذا لا يكون إلا في النفوس الطاهرة والأرواح الطيبة، كما قال الله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124] وقال: {ولقد اخترناهم على علم على العالمين} [الدخان: 32] وقال الله تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} [الحج: 75] والنفس الطاهرة يمتنع أن يصدر عنها هذه الدعوى، ومنها أن إيتاء النبوة لا يكون إلا بعد كمال العلم وذلك لا يمنع من هذه الدعوى، وبالجملة فللإنسان قوتان: نظرية وعملية، وما لم تكن القوة النظرية كاملة بالعلوم والمعارف الحقيقية ولم تكن القوة العملية مطهرة عن الأخلاق الذميمة لا تكون النفس مستعدة لقبول الوحي والنبوة، وحصول الكمالات في القوة النظرية والعملية يمنع من مثل هذا القول والاعتقاد.
الثالث: أن الله تعالى لا يشرف عبده بالنبوة والرسالة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل هذا الكلام.
الرابع: أن الرسول ادعى أنه يبلغ الأحكام عن الله تعالى، واحتج على صدقه في هذه الدعوى فلو أمرهم بعبادة نفسه فحينئذ تبطل دلالة المعجزة على كونه صادقا، وذلك غير جائز،
واعلم أنه ليس المراد من قوله {ما كان لبشر} ذلك أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق، وظاهر الآية يدل على أنه إنما لم يكن له ذلك لأجل أن الله آتاه الكتاب والحكم والنبوة، وأيضا لو كان المراد منه التحريم لما كان ذلك تكذيبا للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح عليه السلام لأن من ادعى على رجل فعلا فقيل له إن فلان لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن تكذيبا له فيما ادعى عليه وإنما أراد في ادعائهم أن عيسى عليه السلام قال لهم: اتخذوني إلها من دون الله فالمراد إذن ما قدمناه، ونظيره قوله تعالى: {ما كان لله أن يتخذ من ولد} [مريم: 35] على سبيل النفي لذلك عن نفسه، لا على وجه التحريم والحظر، وكذا قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يغل} [آل عمران: 161] والمراد النفي لا النهي والله أعلم...
المسألة الثالثة: قوله {أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة} إشارة إلى ثلاثة أشياء ذكرها على ترتب في غاية الحسن، وذلك لأن الكتاب السماوي ينزل أولا ثم إنه يحصل في عقل النبي فهم ذلك الكتاب وإليه الإشارة بالحكم، فإن أهل اللغة والتفسير اتفقوا على أن هذا الحكم هو العلم، قال تعالى: {وآتيناه الحكم صبيا} [مريم: 12] يعني العلم والفهم، ثم إذا حصل فهم الكتاب، فحينئذ يبلغ ذلك إلى الخلق وهو النبوة فما أحسن هذا الترتيب...
ويحتمل أن يكون الوالي سمي ربانيا، لأنه يطاع كالرب تعالى، فنسب إليه...
وحاصل الكلام أن العلم والتعليم والدراسة توجب على صاحبها كونه ربانيا والسبب لا محالة مغاير للمسبب، فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانيا، أمرا مغايرا لكونه عالما، ومعلما، ومواظبا على الدراسة، وما ذاك إلا أن يكون بحيث يكون تعلمه لله، وتعليمه ودراسته لله، وبالجملة أن يكون الداعي له إلى جميع الأفعال طلب مرضاة الله، والصارف له عن كل الأفعال الهرب عن عقاب الله، وإذا ثبت أن الرسول يأمر جميع الخلق بهذا المعنى ثبت أنه يمتنع منه أن يأمر الخلق بعبادته، وحاصل الحرف شيء واحد، وهو أن الرسول هو الذي يكون منتهى جهده وجده صرف الأرواح والقلوب عن الخلق إلى الحق، فمثل هذا الإنسان كيف يمكن أن يصرف عقول الخلق عن طاعة الحق إلى طاعة نفسه. وعند هذا يظهر أنه يمتنع في أحد من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يأمر غيره بعبادته...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الآية متصلة بما قبلها فهي في سياق الرد على أهل الكتاب إبطال لما ادعاه بعضهم من أن لله تعالى ابنا أو أبناء حقيقة، وأن بعض الأنبياء أثبت ذلك لنفسه. وصرح بأن هذه الدعوى مما يدخل في لي اللسان بالكتاب وتحريفه بالتأويل. ويصح أن يكون ردا على أصحاب هذه الدعوى ابتداء مستأنفا بيانيا كأن النفس تتشوف بعد بيان حال فرق اليهود إلى بيان حال النصارى وما يدعون في المسيح فجاءت الآيتان في ذلك.
فقوله: {ما كان لبشر} نفي للشأن وهو أبلغ من نفي الوقوع خاصة، لأنه نفي للوقوع مع بيان السبب والدليل، وهو أن هذا غير ممكن {أن يؤتيه الله الكتاب والحكم} به والعمل بإرشاده. قال في الكشاف: الحكم الحكمة التي هي السنة. ووافقه الأستاذ الإمام قائلا: إن عبارات الكتاب ربما تذهب النفس فيها مذاهب التأويل فالعمل هو الذي يقرر الحق فيها. وقد تقدم عنه تفسير الحكمة بفقه الكتاب ومعرفة أسراره وأن ذلك يستلزم العمل به. وإنما قال: {والنبوة} بعد قوله يؤتيه الله الكتاب لأن المرسل إليهم يقال إنهم أوتوا الكتاب {ثم يقول للناس كونوا عباد لي} العباد: جمع عبد بمعنى عابد والعبيد جمع له بمعنى مملوك أي بأن تتخذوني إلها أو ربا لكم {من دون الله} أي كائنين لي من دون الله، أو كونوا عابدين لي من دونه. وقيل معناه حال كونهم متجاوزين الله تعالى أي متجاوزين ما يجب من إفراده بالعبادة وتخصيصه بالعبودية. وقطع أبو السعود بأن ذلك يصدق بعبادة غيره استقلالا أو اشتراكا. وله عندي وجهان: (أحدهما) أن العبادة الصحيحة لله تعالى لا تتحقق إلا إذا خلصت له وحده فلم تشبها شائبة ما من التوجه إلى غيره كما قال: {قل الله أعبد مخلصا له ديني} [الزمر: 14] وقال: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} [البينة: 5] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فمن دعا إلى عبادة نفسه فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله وإن لم ينههم عن عبادة الله، بل وإن أمرهم بعبادة الله. ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء فقد عبد هذه الواسطة من دون الله لأن هذه الوساطة تنافي الإخلاص له وحده. ومتى انتفى الإخلاص انتفت العبادة ولذلك قال: {فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم} [الزمر: 2] فلم يمنع توسلهم بالأولياء إليه تعالى أن يقول إنهم اتخذوهم من دونه. ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم:
" قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه وفي رواية فأنا منه بريء، هو للذي عمل له "رواه مسلم وغيره. وقوله صلى الله عليه: وسلم: "إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك "رواه أحمد.
و (الوجه الثاني): إن من يتوجه بعبادته إلى غير الله تعالى على أنه وسيلة إليه ومقرب منه وشفيع عنده، أو على أنه متصرف بالنفع ودفع الضر لقربه منه فتوجهه هذا إليه عبادة له مقدرة بقدرها فهو عبد له في هذا القدر من التوجه إليه من دون الله. وهذا الوجه معقول في نفسه، والأول أقوى لأن النصوص مؤيدة له. وقد غفل عنه من أجازوا للعامة اتخاذ أولياء يتوجهون إليهم بالدعاء وطلب الحاجات ويسمون ذلك توسلا بهم إلى الله وإنما هو عبادة لهم من دون الله. ففي الحديث الصحيح" الدعاء هو العبادة "وتلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وقال ربكم ادعوني} [غافر: 60] رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم.
{ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} أي ولكن يأمرهم النبي الذي أوتي الكتاب والحكم بأن يكونوا منسوبين إلى الرب مباشرة من غير توسطه هو ولا التوسل بشخصه وإنما يهديهم إلى الوسيلة الحقيقية الموصلة إلى ذلك وهي تعليم الكتاب ودراسته. فبعلم الكتاب وتعليمه والعمل به يكون الإنسان ربانيا مرضيا عند الله تعالى. فالكتاب هو واسطة القرب من الله تعالى، والرسول هو الواسطة المبلغة للكتاب كما قال تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} [الشورى: 48] فلا يمكن لأحد أن يتقرب إلى الله بشخص الرسول بل بما جاء به الرسول. (راجع تفسير آية 31 {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله} ) والآيات المقررة لهذه الحقيقة كثيرة جدا.
قال الأستاذ الإمام ما مثاله مفصلا: أفادت الآية أن الإنسان يكون ربانيا بعلم الكتاب ودرسه وبتعليمه للناس ونشره. ومن المقرر أن التقرب إلى الله تعالى لا يكون إلا بالعمل والعلم، والعلم الذي لا يبعث إلى العمل لا يعد علما صحيحا. لأن العلم الصحيح ما كان صفة للعالم وملكة راسخة في نفسه، وإنما الأعمال آثار الصفات والملكات، والمعلم يعبر عما رسخ في نفسه. ومن لم يحصل من علم الكتاب إلا صورا وتخيلات تلوح في الذهن ولا تستقر في النفس لا يمكنه أن يكون معلما له يفيض العلم على غيره، كما أنه لا يكون عاملا به على وجهه كما ثبت بالمشاهدة والاختبار أي في نحو العلوم الفنية. فإن من لا يعرف من الهندسة إلا بعض الاصطلاحات والمسائل الناقصة لا يمكنه أن يكون مهندسا بالفعل ولا أن يكون معلما للهندسة. ومراد الأستاذ أن العلم لما كان يستلزم العمل استغنى بذكره عن التصريح بالعمل كما يستغنى عن ذكر العلم عندما يعلق الجزاء على العمل. لأن العمل الصحيح لا يكون إلا عن العلم الصحيح فتارة يذكر الملزوم وتارة يذكر اللازم ولكل مقام مقال.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن أعظم فرية افتراها بعض أهل الكتاب هي ادعاؤهم ان بعض النبيين دعوهم على أن يعبدوهم من دون الله تعالى، أو يتخذوهم أربابا، ولقد أشار الله سبحانه وتعالى-إلى هذه الفرية العظيمة ببيان انها غير معقولة في ذاتها، أعظم الافتراء ما كان منافيا لطبيعة من ينسب إليه؛ ولقد قال تعالى في بطلان هذه الفرية: {ما كان لبشر ان يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله}.
لقد ادعى النصارى ان المسيح إله وعبدوه، وادعوا ان ذلك من رسالته، واتخذ اليهود والنصارى الأحبار والرهبان أربابا من دون الله تعالى بمعنى انهم لم يتصلوا في معرفة الدين بنصوص كتابهم من غير حجاب، بل اتصلوا به عن طريق تفسير الأحبار والرهبان،وأولئك حرفوا وبدلوا، وكانوا ينشرون كلامهم على انه من دين الله، وما هو منه.
وقوله تعالى: {ما كان لبشر} استعمال قرآني يفيد نفي الشأن وعدم اتفاق هذا المعنى مع الحقيقة المفروضة في الرسول، وقد قالوا إن كلمة "ما كان "في هذا المقام وما يشبهه في معنى ما ينبغي. وذلك مثل قوله تعالى: {ما كان لله ان يتخذ من ولد...35} [مريم].وقوله تعالى: {ما يكون لنا ان نتكلم بهذا سبحانك...16} [النور].
والنفي في هذا النص القرآني منصب على اجتماع الرسالة مع القول الذي يكذبون به على أنبياء الله،ومعنى النسق هذا،لا ينبغي لبشر ان يخاطبه الله تعالى ويعطيه الحكم والنبوة ان يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله فليس النفي بالبداهة منصبا على إيتاء الله الكتاب والحكم والنبوة،بل هو منصب على المعطوف،وهو ان يكون منه-مع ما آتاه الله-ذلك الادعاء فيدعو الناس إلى عبادته.
و"الكتاب" المراد به سجل الشريعة التي جاءت،و"الحكم" قيل المراد به الحكمة،ومن ذلك قول اكتم بن صيفي (الصمت حكم، وقليل فاعله)، وأنا أرجح ان المراد هو الشريعة المنزلة التي يحكم بها بين الناس، و"النبوة" هي الرسالة الإلهية التي حملها النبي من أنبياء الله تعالى،وتلك النعم التي انعم الله بها على هذا النبي لا تتفق مع ما ينسب إليه،فالكتاب الذي آتاه حجة عليه والشريعة التي جاء بها تتجافى عن هذا الادعاء،والأمانة التي تحملها برسالة عن الله تعالى تمنعه من ان ينطق بهذا البهتان الصريح؛ فإنه ليس في كتابه ولا شريعته،ولا يتفق مع معنى رسالته،وإذا كان من المستحيل أن يدعي تلك الدعوة فإن المعقول ان تكون دعوته متفقة مع هذه الأمور،ولذا قال سبحانه في دعوته: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} أي: ولكن يقول أولئك الذين أوتوا علم الكتاب، وعلم الشريعة،وفضل النبوة والسفارة الإلهية للناس: {كونوا ربانيين} والربانيون، نسبة إلى الرب سبحانه وتعالى وقويت النسبة بزيادة اللف والنون، ومعنى هذه النسبة إلى الله تعالى يتضمن أنوارا يتخلق بها المؤمن.
أولها: ألا يعبد إلا الله وحده، فيكون بعقله وقلبه وأحاسيسه خالصا لله سبحانه وتعالى ولا يشرك فيها أحد سواه.
وثانيها: ألا يعرف حقيقة شرع إلا عن الله، فلا يوسط في تعرفها عبادا لهم أهواء وشهوات،يحرفون الكلم عن مواضعه إلا أن يكونوا ذوي فهم في كتاب الله تعالى قد حرم هو منه،فيستعين بهم على فهم كتابه سبحانه لا ان يأخذ أقوالهم على انها دين الله.
ثالثها: ألا ينفذ من الحكام إلا أحكام الرب سبحانه وتعالى.
رابعها: أن تكون كل أعماله خالصة لوجه الله فلا يماري ولا ينافق.
خامسها: أن يخضع للحق لذات الحق،وقد بين سبحانه-حكاية عما ينبغي ان يقوله الرسل وقد قالوه-كيف تتربى الربانية في نفس المؤمن،فذكر انها علم الكتاب المنزل والعكوف على دراسته، فقال: {بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}. أي ان الذي يربي الربانية هو الاستمرار والدؤوب على أمرين اثنين:
أولهما:دراسة الكتاب المنزل الذي بينه الرسول،فهو يدرسه مع شارحه،ويقطع كل الحجزات التي تحول بينه وبين هذه الدراسة،فلا يأخذ دين الله عن غير كتاب الله الذي بينه رسول الله تعالى.
ثانيهما:استيعاب علم الكتاب وتعليمه من البعض ليتمكن الدارسون من ان يعرفوا حقيقة كتاب الله،والاهتداء بهديه.وقدم تعليم علم الكتاب على دراسته لأمرين:
أولهما:الإشارة إلى جرم اهل الكتاب الذين اتجهوا إلى تعليم الناس أهواءهم بدل ان يعلموهم كتاب الله.
وثانيهما:أن بيان الدراسة من غير تعليم وتدريس خبط عشواء.وسير في ظلماء؛ كما يحاول ملاحدة اليوم الذين يريدون أن يفهموا القرآن من غير ان يعلموا شيئا حتى علم العربية.