قل - أيها النبي - مُبلغاً عن ربك : يا عبادي الذين آمنوا بي ، اتخذوا وقاية من غضب ربكم ، فإن لِمن أحسن العمل عاقبة حسنة في الدنيا بالتأييد ، وفي الآخرة بالجنة . ولا تقيموا في ذل ، فأرض الله واسعة ، واصبروا على مفارقة الأوطان والأحباب ، إنما يوفي الله الصابرين أجرهم مضاعفاً ، لا يدخل تحت حساب الحاسبين .
{ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } :
أي : قل مناديا لأشرف الخلق ، وهم المؤمنون ، آمرا لهم بأفضل الأوامر ، وهي التقوى ، ذاكرا لهم السبب الموجب للتقوى ، وهو ربوبية اللّه لهم وإنعامه عليهم ، المقتضي ذلك منهم أن يتقوه ، ومن ذلك ما مَنَّ اللّه عليهم به من الإيمان فإنه موجب للتقوى ، كما تقول : أيها الكريم تصدق ، وأيها الشجاع قاتل .
وذكر لهم الثواب المنشط في الدنيا فقال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا } بعبادة ربهم { حَسَنَة } ورزق واسع ، ونفس مطمئنة ، وقلب منشرح ، كما قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً }
{ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } إذا منعتم من عبادته في أرض ، فهاجروا إلى غيرها ، تعبدون فيها ربكم ، وتتمكنون من إقامة دينكم .
ولما قال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } كان لبعض النفوس مجال في هذا الموضع ، وهو أن النص عام ، أنه كل من أحسن فله في الدنيا حسنة ، فما بال من آمن في أرض يضطهد فيها ويمتهن ، لا يحصل له ذلك ، دفع هذا الظن بقوله : { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } وهنا بشارة نص عليها النبي صلى اللّه عليه وسلم ، بقوله ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك ) تشير إليه هذه الآية ، وترمي إليه من قريب ، وهو أنه تعالى أخبر أن أرضه واسعة ، فمهما منعتم من عبادته في موضع فهاجروا إلى غيرها ، وهذا عام في كل زمان ومكان ، فلا بد أن يكون لكل مهاجر ، ملجأ من المسلمين يلجأ إليه ، وموضع يتمكن من إقامة دينه فيه .
{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وهذا عام في جميع أنواع الصبر ، الصبر على أقدار اللّه المؤلمة فلا يتسخطها ، والصبر عن معاصيه فلا يرتكبها ، والصبر على طاعته حتى يؤديها ، فوعد اللّه الصابرين أجرهم بغير حساب ، أي : بغير حد ولا عد ولا مقدار ، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند اللّه ، وأنه معين على كل الأمور .
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالاستمرار على طاعته وتقواه { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } أي : لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في دنياهم وأخراهم .
وقوله : { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } قال مجاهد : فهاجروا فيها ، وجاهدوا ، واعتزلوا الأوثان .
وقال شريك ، عن منصور ، عن عطاء في قوله : { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } قال : إذا دعيتم إلى المعصية فاهربوا ، ثم قرأ : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } [ النساء : 97 ] .
وقوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال الأوزاعي : ليس يوزن لهم ولا يكال ، إنما يغرف لهم غرفا .
وقال ابن جريج : بلغني أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط ، ولكن يزادون على ذلك .
وقال السدي : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يعني : في الجنة .
لما أجري الثناء على المؤمنين بإقبالهم على عبادة الله في أشدّ الآناء وبشدة مراقبتهم إياه بالخوف والرجاء وبتمييزهم بصفة العلم والعقل والتذكر ، بخلاف حال المشركين في ذلك كله ، أُتبع ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإِقبال على خطابهم للاستزادة من ثباتهم ورباطة جأشهم ، والتقديرُ : قل للمؤمنين ، بقرينة قوله : { ياعِبَادِ الذين ءَامنُوا } الخ .
وابتداء الكلام بالأمر بالقول للوجه الذي تقدم في نظيره آنفاً ، وابتداء المقول بالنداء وبوصف العبودية المضاف إلى ضمير الله تعالى ، كل ذلك يؤذن بالاهتمام بما سيقال وبأنه سيقال لهم عن ربهم ، وهذا وضعٌ لهم في مقام المخاطبة من الله وهي درجة عظيمة . وحذفت ياء المتكلم المضاف إليها { عباد } وهو استعمال كثير في المنادَى المضاف إلى ياء المتكلم .
وقرأه العشرة { يَاعِبادِ } بدون ياء في الوصل والوقف كما في « إبراز المعاني » لأبي شامة وكما في « الدرة المضيئة » في القراءات الثلاث المتممة للعشر لعلي الضباع المصري ، بخلاف قوله تعالى : { قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر : 53 ] الآتي في هذه السورة ، فالمخالفة بينهما مجرد تفنن . وقد يوجه هذا التخالف بأن المخاطبين في هذه الآية هم عباد الله المتقون ، فانتسابهم إلى الله مقرر فاستُغني عن إظهار ضمير الجلالة في إضافتهم إليه ، بخلاف الآية الآتية ، فليس في كلمة { يَاعِبَادِ } من هذه الآية إلاَّ وَجه واحد باتفاق العشرة ولذلك كتبها كتّاب المصحف بدون ياء بعد الدال .
وما وقع في « تفسير ابن عطية » من قوله : وقرأ جمهور القراء { قل يا عباديَ } بفتح الياء . وقرأ أبو عمرو أيضاً وعاصم والأعشى وابن كثير { يا عِبَادِ } بغير ياء في الوصل ا ه . سهو ، وإنما اختلف القراء في الآية الآتية { قُل ياعِبَادي الذين أسرفوا على أنفسهم } في هذه السورة [ 53 ] فإنها ثبتت فيه ياء المتكلم فاختلفوا كما سنذكره .
والأمر بالتقوى مراد به الدوام على المأمور به لأنهم متّقون من قبلُ ، وهو يشعر بأنهم قد نزل بهم من الأذى في الدين ما يخشى عليهم معه أن يُقصّروا في تقواهم . وهذا الأمر تمهيد لما سيوجه إليهم من أمرهم بالهجرة للسلامة من الأذى في دينهم ، وهو ما عُرض به في قوله تعالى : { وأرْضُ الله واسِعَة } .
وفي استحضارهم بالموصول وصلته إيماء إلى أن تقَرر إيمانهم مما يقتضي التقوى والامتثال للمهاجرة . وجملة { للذين أحسنوا في هذه الدُّنيا حسنةٌ } وما عطف عليها استئناف بياني لأن إيراد الأمر بالتقوى للمتصفين بها يثير سؤال سائل عن المقصود من ذلك الأمر فأريد بيانه بقوله : { أرض الله واسعة ، } ولكن جُعل قوله { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ } تمهيداً له لقصد تعجيل التكفل لهم بموافقة الحسنى في هجرتهم . ويجوز أن تكون جملة { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ } مسوقة مساق التعليل للأمر بالتقوى الواقع بعدها .
والمراد بالذين أحسنوا : الذين اتقوا الله وهم المؤمنون الموصوفون بما تقدم من قوله : { أمن هو قانت } [ الزمر : 9 ] الآية ، لأن تلك الخصال تدل على الإِحسان المفسر بقول النبي صلى الله عليه وسلم " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكنْ تراه فإنه يراك " ، فعدل عن التعبير بضمير الخطاب بأن يقال : لكم في الدنيا حسنة ، إلى الإِتيان باسم الموصول الظاهر وهو { الذين أحسنوا } ليشمل المخاطبين وغيرهم ممن ثبتت له هذه الصلة . وذلك في معنى : اتقوا ربكم لتكونوا محسنين فإن للذين أحسنوا حسنة عظيمة فكونوا منهم . وتقديم المسند في { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ } للاهتمام بالمحسَن إليهم وأنهم أحرياء بالإِحسان .
والمراد بالحسنة الحالة الحسنة ، واستغني بالوصف عن الموصوف على حد قوله : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } [ البقرة : 201 ] . وقولِه في عكسه { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] . وتوسيط قوله : { في هذه الدنيا } بين { للذين أحسنوا } وبين { حَسَنَةٌ } نظم مما اختص به القرآن في مواقع الكلم لإِكثار المعاني التي يسمح بها النظم ، وهذا من طرق إعجاز القرآن . فيجوز أن يكون قوله : { في هذه الدُّنيا } حالاً من { حَسَنَةٌ } قدم على صاحب الحال للتنبيه من أول الكلام على أنها جزاؤهم في الدنيا ، لقلة خطور ذلك في بالهم ضمن الله لهم تعجيل الجزاء الحسن في الدنيا قبل ثواب الآخرة على نحو ما أثنى على مَن يقول : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } . وقد جاء في نظير هذه الجملة في سورة [ النحل : 30 ] قوله : { ولدار الآخرة خير } ، أي خير من أمور الدنيا ، ويكون الاقتصار على حسنة الدنيا في هذه الآية لأنها مسوقة لتثبيت المسلمين على ما يلاقونه من الأذى ، ولأمرهم بالهجرة عن دار الشرك والفتنة في الدين ، فأما ثواب الآخرة فأمر مقرر عندهم من قبل ومومىً إليه بقوله بعده : إنما يوفَّى الصابِرُون أجرهم بغير حسابٍ } أي يوفون أجرهم في الآخرة . قال السدّي : الحسنة في الدنيا الصحة والعافية . ويجوز أن يكون قوله : « في الدنيا » متعلقاً بفعل { أحسنوا } على أنه ظرف لغوي ، أي فعلوا الحسنات في الدنيا فيكون المقصود التنبيه على المبادرة بالحسنات في الحياة الدنيا قبل الفوات والتنبيه على عدم التقصير في ذلك .
وتنوين { حَسَنَةٌ } للتعظيم وهو بالنسبة لحسنة الآخرة للتعظيم الذاتي ، وبالنسبة لحسنة الدنيا تعظيم وصفي ، أي حسنة أعظم من المتعارف ، وأيّاً ما كان فاسم الإِشارة في قوله : { في هذه الدنيا } لتمييز المشار إليه وإحضاره في الأذهان . وعليه فالمراد ب { حَسَنَةٌ } يحتمل حسنة الآخرة ويحتمل حسنة الدنيا ، كما في قوله تعالى : { الذين يقولون ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } في سورة [ البقرة : 201 ] . وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة [ النحل : 30 ] قولُه تعالى : { وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير } ، فألْحِقْ بها ما قُرر هنا .
وعطف عليه { وأرضُ الله واسعةٌ } عطفَ المقصود على التوطئة . وهو خبر مستعمل في التعريض بالحث على الهجرة في الأرض فراراً بدينهم من الفتن بقرينة أن كون الأرض واسعةً أمر معلوم لا يتعلق الغرض بإفادته وإنما كني به عن لازم معناه ، كما قال إياس بن قبيصة الطائي :
ألم تر أن الأرض رحْب فسيحة *** فَهَلْ تعجزنِّي بقعة من بقاعها
والوجه أن تكون جملة { وأرضُ الله واسِعةٌ } معترضة والواو اعتراضية لأن تلك الجملة جرت مجرى المثل .
والمعنى : إن الله وعدهم أن يلاقوا حسنة إذا هم هاجروا من ديار الشرك . وليس حسن العيش ولا ضده مقصوراً على مكان معين وقد وقع التصريح بما كني عنه هنا في قوله تعالى : { قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } [ النساء : 97 ] .
والمراد : الإِيماء إلى الهجرة إلى الحَبَشَة . قال ابن عباس في قوله تعالى : { قُلْ يا عِبادِ الذين ءَامنُوا اتَّقوا ربَّكُم } يريد جعفرَ بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة . ونكتة الكناية هنا إلقاء الإِشارة إليهم بلطف وتأنيس دون صريح الأمر لما في مفارقة الأوطان من الغمّ على النفس ، وأما الآية التي في سورة النساء فإنها حكاية توبيخ الملائكة لمن لم يهاجروا .
وموقع جملة { إنما يُوفَّى الصَّابِرون أجرهم بغيرِ حسابٍ } موقع التذييل لجملة { للذين أحْسَنُوا } وما عطف عليها لأن مفارقة الوطن والتغرب والسفر مشاق لا يستطيعها إلا صابر ، فذُيّل الأمر به بتعظيم أجر الصابرين ليكون إعلاماً للمخاطبين بأن أجرهم على ذلك عظيم لأنهم حينئذٍ من الصابرين الذين أجرهم بغير حساب .
والصبر : سكون النفس عند حلول الآلام والمصائب بأن لا تضجر ولا تضطرب لذلك ، وتقدم عند قوله تعالى : { وبشر الصابرين } في سورة [ البقرة : 155 ] . وصيغة العموم في قوله : { الصابرين } تشمل كل من صبر على مشقة في القيام بواجبات الدين وامتثال المأمورات واجتناب المنهيات ، ومراتب هذا الصبر متفاوتة وبقدرها يتفاوت الأجر .
والتوفية : إعطاء الشيء وافياً ، أي تاماً . والأجر : الثواب في الآخرة كما هو مصطلح القرآن .
وقوله : { بِغَيرِ حسابٍ } كناية عن الوفرة والتعظيم لأن الشيء الكثير لا يُتصدى لعدِّه ، والشيء العظيم لا يحاط بمقداره فإن الإِحاطة بالمقدار ضرب من الحساب وذلك شأن ثواب الآخرة الذي لا يخطر على قلب بشر .
وفي ذكر التوفية وإضافة الأجر إلى ضميرهم تأنيس لهم بأنهم استحقوا ذلك لا منة عليهم فيه وإن كانت المنة لله على كل حال على نحو قوله تعالى : { لهم أجر غير ممنون } [ الانشقاق : 25 ] .
والحصر المستفاد من { إنما } منصبّ على القيد وهو { بِغيرِ حسابٍ } والمعنى : ما يوفي الصابرون أجرهم إلا بِغير حساب ، وهو قصر قلب مبنيّ على قلب ظن الصَابرين أن أجر صبرهم بمقدار صبرهم ، أي أن أجرهم لا يزيد على مقدار مشقة صبرهم .
والهجرة إلى الحبشة كانت سنة خمس قبل الهجرة إلى المدينة . وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأن عمه أبا طالب كان يمنع ابن أخيه من أضرار المشركين ولا يقدر أن يمنع أصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملِكاً لا يُظلَم عنده أحد حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه » ، فخرج معظم المسلمين مخافة الفتنة فخرج ثلاثة وثمانون رجلاً وتسع عشرة امرأة سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغاراً . وقد كان أبو بكر الصديق استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له فخرج قاصداً بلاد الحبشة فلقيه ابن الدّغِنَة فَصدّه وجعَلَه في جواره .
ولما تعلقت إرادة الله تعالى بنشر الإِسلام في مكة بين العرب لحكمة اقتضت ذلك وعَذر بعض المؤمنين فيما لقُوه من الأذى في دينهم أذن لهم بالهجرة وكانت حكمته مقتضية بقاء رسوله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني المشركين لبثّ دعوة الإِسلام لم يأذن له بالهجرة إلى موطن آخر حتى إذا تم مراد الله من توشج نواة الدين في تلك الأرض التي نشأ فيها رسوله صلى الله عليه وسلم وأصبح انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بلد آخر أسعد بانتشار الإِسلام في الأرض أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة بعد أن هيّأ له بلطفه دخول أهلها في الإِسلام وكل ذلك جرى بقدَر وحكمة ولطف برسوله صلى الله عليه وسلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا} العمل {في هذه الدنيا حسنة} الجنة.
{إنما يوفى الصابرون أجرهم} جزاءهم الجنة وأرزاقهم فيها {بغير حساب}.
هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها، وقد بلغني أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قُلْ" يا محمد لعبادي الذين آمنوا: "يا عِبادِ الّذِينَ آمَنُوا "بالله، وصدقوا رسوله، "اتّقُوا رَبّكُمْ" بطاعته واجتناب معاصيه.
"لِلّذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدّنيْا حَسَنَةٌ".
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: للذين أطاعوا الله حسنة في هذه الدنيا وقال «في» من صلة حسنة، وجعل معنى الحسنة: الصحة والعافية...
وقال آخرون: «في» من صلة أحسنوا، ومعنى الحسنة: الجنة.
وقوله: "وأرْضُ اللّهُ وَاسِعَةٌ" يقول تعالى ذكره: وأرض الله فسيحة واسعة، فهاجروا من أرض الشرك إلى دار الإسلام...
وقوله: "إنّمَا يُوَفّى الصّابُرُونَ أجْرَهُمْ بغَيرِ حسابٍ" يقول تعالى ذكره: إنما يعطي الله أهل الصبر على ما لقوا فيه في الدنيا أجرهم في الآخرة "بغير حساب" يقول: ثوابهم بغير حساب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{اتَّقُوا رَبَّكُمْ} وجوها: اتقوا سخط ربكم، أو اتقوا نقمة ربكم، أو اتقوا مخالفة ربكم ونحوه، وأصل التقى ما به تهلكون أي اتقوا مهالككم.
ثم تحتمل الحسنة وجها آخر هو استغفار الملائكة لهم والأنبياء عليهم السلام؛ لأن الله عز وجل امتحن ملائكته باستغفار المؤمنين والمؤمنات كقوله: {ويستغفرون لمن في الأرض} [الشورى: 5]، وكذلك امتحن رسله بالاستغفار للمؤمنين، وكذلك امتحن المؤمنين؛ يستغفر بعضهم لبعض ونحوه.
{وأرض الله واسعة} ذكر هذا؛ لأن من آمن منهم بمكة كانوا يظهرون الموافقة لأعدائهم، ويقيمون في ما بينهم، وكانت لهم أسباب التعيش في بلدهم، ولم يكن لهم تلك في بلد غيرهم، فخافوا الضياع، إن هم خرجوا من بلدهم، فيهاجروا فيها إلى غير بلدهم، فيمتنعون عن ذلك، فجاءت الآية على الترجي والإطماع لهم بمثل ذلك التعيش وأسبابه في ذلك البلد، وهو ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97].
يحتمل قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بغير تبعة ولا تنويه كقوله صلى الله عليه وسلم:"من نوقش الحساب عذب" [البخاري 6536]...
ويحتمل: {بغير حساب} أي لا يحاسبون لما ليس وراء تلك الدار الآخرة دار أخرى يحاسبون فيها ما أعطوا في الآخرة، ليست كدار الدنيا يحاسبون ما أوتوا فيها في الآخرة.
ويحتمل: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} غير مقدر بالحساب، ولكن {يوفى الصابرون أجرهم} أضعافا مضاعفة.
ويحتمل: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بلا نهاية ولا غاية.
ثم الصبر، هو حبس النفس إما على أداء ما أمر الله به والانتهاء عما نهى الله عنه وإما حبسها وكفها لاحتمال ما حملت من الشدائد والمصائب والمؤن العظام. احتملوا ذلك، ولم يجزعوا، وهو ما ذكر في غير آية من القرآن كقوله تعالى:
{ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35] ونحوه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} بأداء الطاعات، والإحسان: هو الإتيان بجميع وجوه الإمكان.
{وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ}: أي لا تَتَعَلَّلوا بأذى الأعداء؛ إِنْ نَبَأ بِكُم منزلٌ فَتَعَلُّلُكم بمعاداة قوم ومَنْعِهِم إياكم -لا يُسْمَع، فأرضُ اللَّهِ واسعةٌ، فاخْرُجُوا منها إلى موضع آخر تتم لكم فيه عبادتُكم...
الصبر: حَبْسُ النَّفْس على ما تكرهه. ويقال هو تجرُّعُ كاسات التقدير من غير استكراهٍ ولا تعبيس...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"وأرض الله واسعة" قال سعيد بن جبير: من أمر بالمعاصي فليهرب، وفي الآية أمر بالهجرة عن البلد الذي تظهر فيه المعاصي إلى بلد لا تظهر فيه المعاصي، يقال: نزلت الآية في جعفر بن أبي طالب وأصحابه، حيث هاجروا من مكة إلى الحبشة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فِي هذه الدنيا} متعلق ب"أحسنوا" لا بحسنة، معناه: الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة. وهي دخول الجنة، أي: حسنة غير مكتنهة بالوصف. وقد علقه السدي بحسنة، ففسر بحسنة بالصحة والعافية...
{وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة؛ حتى إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإحسان، وصرف الهمم إليه قيل لهم: فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة، فلا تجتمعوا مع العجز، وتحوّلوا إلى بلاد أخر، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم.
{بِغَيْرِ حِسَابٍ} وهو تمثيل للتكثير. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يُهتدى إليه حساب الحساب ولا يُعرف...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الصَّبْرُ مَقَامٌ عَظِيمٌ من مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَمَّا تَكْرَهُهُ من تَسْرِيحِ الْخَوَاطِرِ، وَإِرْسَالِ اللِّسَانِ، وَانْبِسَاطِ الْجَوَارِحِ عَلَى مَا يُخَالِفُ حَالَ الصَّبْرِ، وَمَنْ الَّذِي يَسْتَطِيعُهُ، فَمَا رُوِيَ أَنَّ أَحَدًا انْتَهَى إلَى مَنْزِلَةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى صَبَرَ عَلَى عَظِيمِ الْبَلَاءِ عَنْ سُؤَالٍ كَشَفَهُ بِالدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا عَرَضَ حِينَ خَشِيَ عَلَى دِينِهِ لِضَعْفِ قَلْبِهِ عَنْ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلُوهُ فِي الْآثَارِ نِصْفَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَأْمُورٌ وَمَزْجُورٌ، فَالْمَأْمُورُ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَالْمَزْجُورُ امْتِثَالُهُ بِالْكَفِّ وَالدَّعَةِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ إلَيْهِ وَهُوَ الصَّبْرُ، فَأَعْلَمَنَا رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُقَدَّرٌ من حَسَنَةٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَخَبَّأَ قَدْرَ الصَّبْرِ مِنْهَا تَحْتَ عِلْمِهِ، فَقَالَ: {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}...
اعلم أنه تعالى لما بين نفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم، أتبعه بأن أمر رسوله بأن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام:...
النوع الأول: قوله: {قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم} والمراد أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى، وهذا من أول الدلائل على أن الإيمان يبقى مع المعصية، قال القاضي: أمرهم بالتقوى لكيلا يحبطوا إيمانهم؛ لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم الثواب وبالإقدام عليها يحبط، فيقال له هذا بأن يدل على ضد قولك أولى؛ لأنه لما أمر المؤمنين بالتقوى دل ذلك على أنه يبقى مؤمنا مع عدم التقوى، وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان...
واعلم أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالاتقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد، فقال تعالى: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة}
فقوله: {في هذه الدنيا} يحتمل أن يكون صلة لقوله: {أحسنوا} أو لحسنة، فعلى التقدير الأول معناه للذين أحسنوا في هذه الدنيا كلهم حسنة في الآخرة، وهي دخول الجنة.
التنكير في قوله: {حسنة} للتعظيم يعني حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها.
وأما على التقدير الثاني: فمعناه الذين أحسنوا فلهم في هذه الدنيا حسنة، والقائلون بهذا القول قالوا هذه الحسنة هي الصحة والعافية.
وأقول: الأولى أن تحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: « ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن والصحة والكفاية» ومن الناس من قال القول الأول أولى ويدل عليه وجوه؛
الأول: أن التنكير في قوله: {حسنة} يدل على النهاية والجلالة والرفعة، وذلك لا يليق بأحوال الدنيا فإنها خسيسة ومنقطعة، وإنما يليق بأحوال الآخرة، فإنها شريفة وآمنة من الانقضاء والانقراض.
الثاني: أن ثواب المحسن بالتوحيد والأعمال الصالحة إنما يحصل في الآخرة قال تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت}...
الثالث: أن قوله: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة} يفيد الحصر، بمعنى أنه يفيد أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا، وهذا باطل، أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحصر، فكأن حمله على حسنة الآخرة أولى.
المسألة الثانية: تسمية المنافع التي وعد الله بها على الصبر بالأجر، توهم أن العمل على الثواب؛ لأن الأجر هو المستحق، إلا أنه قامت الدلائل القاهرة على أن العمل ليس عليه الثواب، فوجب حمل لفظ الأجر على كونه أجرا بحسب الوعد، لا بحسب الاستحقاق...
المسألة الثالثة: أنه تعالى وصف ذلك الأجر بأنه بغير حساب، وفيه وجوه:
الأول: قال الجبائي: المعنى أنهم يعطون ما يستحقون ويزدادون تفضلا فهو بغير حساب، ولو لم يعطوا إلا المستحق لكان ذلك حسابا، قال القاضي هذا ليس بصحيح؛ لأن الله تعالى وصف الأجر بأنه بغير حساب، ولو لم يعطوا إلا الأجر المستحق، والأجر غير التفضل.
الثاني: أن الثواب له صفات ثلاثة...
وثانيها: أنها تكون منافع كاملة في أنفسها، وعقل المطيع ما كان يصل إلى كنه ذلك الثواب، قال صلى الله عليه وسلم:"إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" وكل ما يشاهدونه من أنواع الثواب وجدوه أزيد مما تصوروه وتوقعوه، وما لا يتوقعه الإنسان، فقد يقال إنه ليس في حسابه، فقوله: {بغير حساب} محمول على هذا المعنى.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ثبت أن القانت خير، وكان المخالف له كثيراً، وكان أعظم حامل له على القنوت التقوى، وكانت كثرة المخالف أعظم مزلزل، وكان الإنسان -لما له من النقصان- أحوج شيء إلى التثبيت، وكان التثبيت من المجانس، والتأنيس من المشاكل أسكن للقلب وأشرح للصدر، أمر أكمل الخلق وأحسنهم ملاطفة بتثبيتهم فقال: {قل} ولما كان الثبات لا يرسخ مع كثرة المخالف، وتوالي الزلزال والمتالف، إلا إذ كان عن الملك، جعل ذلك عنه سبحانه ليجتمع عليه الخالق والأقرب إليه من الخلائق، فقال: {يا عباد} دون أن يقول: يا عباد الله، مثلاً تذكيراً لهم تسكيناً لقلوبهم بما علم من أن التقدير. قال الله، وتشريفاً لهم بالإضافة إليه بالضمير الدال على اللطف وشدة الخصوصية، وإعلاماً لهم بأنه حاضر لا يغيب عنهم بوجه.
{الذين آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى حالاتها.
ولما كان الإحسان ربما جراً على المحسن، أشار سبحانه إلى سداد قول العارفين:"اجلس على البساط وإياك والانبساط" ونبه بلفت القول عن مظهر التكلم إلى الوصف بما يدل على أن العاقل من أوجب له الإحسان إجلالاً وإكباراً، وأثمر له العطف والتقريب ذلاًّ في نفسه وصغاراً، وخوفاً وانكساراً، مما أقله قطع الإحسان فقال: {اتقوا ربكم} أي اجعلوا بينكم وبين غضب المحسن إليكم وقاية بأن تترقوا في درجات طاعته مخلصين له كما خلقكم لكم لا لغرض له ليرسخ إيمانكم ويقوي إحسانكم، وهذا أدل دليل على أن الإيمان يكون مع عدم التقوى. ولما أرشدهم بالاسم الناظر إلى الإحسان إلى أن يقولوا: فما لنا إن فعلنا؟ قال مجيباً معللاً:
{للذين أحسنوا} أي لكم، ولكنه أظهر الوصف الدال على سبب جزائهم تشويقاً إلى الازدياد منه، ولما كان العمل لا ينفع إلا في دار التكليف قال: {في هذه} باسم الإشارة زيادة في التعيين.
{الدنيا} أي الدنية الوضرة التي لا تطهر الحياة فيها إلا بالتقديس بعبادة الخالق والتخلق بأوصافه.
{حسنة} أي عظيمة في الدنيا بالنصر والمعونة مع كثرة المخالف، وفي الآخرة بالثواب، ويجوز أن يكون معنى {أحسنوا} أوقعوا الإحسان، ومعلوم أنه في هذه الدنيا، فيكون ما بعده مبتدأ وخبراً، لكنه يصير خاصاً بثواب الدنيا، فالأول حسن.
{وأرض الله} أي الذي له الملك كله والعظمة الشاملة {واسعة} ووجوده بعلمه وقدرته في كل أرض على حد سواء، فالمتقيد بمكان منها ضعيف العزم واهن اليقين ولما كان الصبر على هجرة الوطن ولا سيما إن كان ثّم أهل وعشيرة شديداً جداً، ذكر ما للصابر على ذلك لمن تشوف إلى السؤال عنه فقال: {إنما يوفى} أي التوفية العظيمة.
{الصابرون} على ما تكرهه النفوس في مخالفة الهوى واتباع أوامر الملك الأعلى من الهجرة وغيرها.
{أجرهم بغير حساب} أي على وجه من الكثرة لا يمكن في العادة حسبانه، وذلك لأن الجزاء من جنس العمل، وكل عمل يمكن عده وحصره إلا الصبر فإنه دائم مع الأنفاس، وهو معنى من المعاني الباطنة لا يطلع خلق على مقداره في قوته وضعفه وشدته ولينه؛ لأنه مع خفائه يتفاوت مقداره، وتتعاظم آثاره، بحسب الهمم في علوها وسفولها، وسموها ونزولها، ويجوز أن يكون المعنى أن من كمل صبره بما أشارت إليه لام الكمال -لم يكن عليه حساب، لما رواه البزار وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ادع الله لي، قال: "إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرت ولا حساب عليك"، قالت: بل أصبر ولا حساب علي...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتذكير المُؤمنين وحملِهم على التَّقوى والطَّاعة إثرَ تخصيص التَّذكُّر بأولي الألباب إيذاناً بأنَّهم هم، كما سيصرِّح به أي قُل لهم قولي هذا بعينه، وفيه تشريفٌ لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالةِ ومزيدُ اعتناءٍ بشأن المأمور به فإنَّ نقلَ عينِ أمرِ الله أدخلُ في إيجابِ الامتثالِ به...
{للذِينَ أَحْسَنُواْ} تعليلٌ للأمر أو لوجوبِ الامتثال به، وإيراد الإحسان في حيِّز الصِّلةِ التَّقوى للإيذانِ بأنَّه من باب الإحسان، وأنَّهما مُتلازمانِ وكذا الصَّبرُ كما مرَّ في قوله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم محْسِنُونَ} [سورة النحل، الآية 128] وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [سورة يوسف، الآية90]...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} وهنا بشارة نص عليها النبي صلى اللّه عليه وسلم، بقوله (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك) تشير إليه هذه الآية، وترمي إليه من قريب، وهو أنه تعالى أخبر أن أرضه واسعة، فمهما منعتم من عبادته في موضع فهاجروا إلى غيرها، وهذا عام في كل زمان ومكان، فلا بد أن يكون لكل مهاجر، ملجأ من المسلمين يلجأ إليه، وموضع يتمكن من إقامة دينه فيه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
التقوى هي تلك الحساسية في القلب، والتطلع إلى الله في حذر وخشية، وفي رجاء وطمع، ومراقبة غضبه ورضاه في توفز وإرهاف، إنها تلك الصورة الوضيئة المشرقة التي رسمتها الآية السابقة لذلك الصنف الخاشع القانت من عباد الله...
(وأرض الله واسعة) فلا يقعد بكم حب الأرض، وإلف المكان، وأواصر النسب والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها، إذا ضاقت بكم في دينكم، وأعجزكم فيها الإحسان. فإن الالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان؛ ولون من اتخاذ الأنداد لله في قلب الإنسان. وهي لفتة قرآنية لطيفة إلى مداخل الشرك الخفية في القلب البشري، في معرض الحديث عن توحيد الله وتقواه، تنبئ عن مصدر هذا القرآن. فما يعالج القلب البشري هذا العلاج إلا خالقه البصير به، العليم بخفاياه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ياعِبَادِ الذين ءَامنُوا} الخ ابتداء المقول بالنداء وبوصف العبودية المضاف إلى ضمير الله تعالى، كل ذلك يؤذن بالاهتمام بما سيقال وبأنه سيقال لهم عن ربهم، وهذا وضعٌ لهم في مقام المخاطبة من الله وهي درجة عظيمة...
والأمر بالتقوى مراد به الدوام على المأمور به؛ لأنهم متّقون من قبلُ، وهو يشعر بأنهم قد نزل بهم من الأذى في الدين ما يخشى عليهم معه أن يُقصّروا في تقواهم.
وهذا الأمر تمهيد لما سيوجه إليهم من أمرهم بالهجرة للسلامة من الأذى في دينهم، وهو ما عُرض به في قوله تعالى: {وأرْضُ الله واسِعَة}، وفي استحضارهم بالموصول وصلته، إيماء إلى أن تقَرر إيمانهم مما يقتضي التقوى والامتثال للمهاجرة...
وجملة {للذين أحسنوا في هذه الدُّنيا حسنةٌ} وما عطف عليها استئناف بياني؛ لأن إيراد الأمر بالتقوى للمتصفين بها يثير سؤال سائل عن المقصود من ذلك الأمر فأريد بيانه بقوله: {أرض الله واسعة} ولكن جُعل قوله {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ} تمهيداً له لقصد تعجيل التكفل لهم بموافقة الحسنى في هجرتهم. ويجوز أن تكون جملة {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ} مسوقة مساق التعليل للأمر بالتقوى الواقع بعدها، وعطف عليه {وأرضُ الله واسعةٌ} عطفَ المقصود على التوطئة. وهو خبر مستعمل في التعريض بالحث على الهجرة في الأرض فراراً بدينهم من الفتن بقرينة أن كون الأرض واسعةً أمر معلوم لا يتعلق الغرض بإفادته، وإنما كني به عن لازم معناه، والوجه أن تكون جملة {وأرضُ الله واسِعةٌ} معترضة والواو اعتراضية؛ لأن تلك الجملة جرت مجرى المثل، والمعنى: إن الله وعدهم أن يلاقوا حسنة إذا هم هاجروا من ديار الشرك. والمراد: الإِيماء إلى الهجرة إلى الحَبَشَة...
ونكتة الكناية هنا إلقاء الإِشارة إليهم بلطف وتأنيس دون صريح الأمر لما في مفارقة الأوطان من الغمّ على النفس.
{بِغَيرِ حسابٍ}... وفي ذكر التوفية وإضافة الأجر إلى ضميرهم تأنيس لهم بأنهم استحقوا ذلك، لا منة عليهم فيه، وإن كانت المنة لله على كل حال على نحو قوله تعالى: {لهم أجر غير ممنون} [الانشقاق: 25]...
التقوى أنْ تحترز من المعاصي، وأنْ تجعل بينك وبين صفات الجلال من الله وقاية، فالله جبار قهار ذو انتقام، فاجعل بينك وبين هذه الصفات وقاية تحميك.
وقوله {الَّذِينَ آمَنُواْ} للعقائد {اتَّقُواْ رَبَّكُمْ} أي: في التكاليف {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} أي: حسنة في الآخرة، فلم يقل: للذين أحسنوا حسنةً في هذه الدنيا؛ لأن الكفار يتمتعون في الدنيا بحسنات كثيرة من المال والجاه والعلم.. الخ.
فإنْ فسَّرنا الحسنة على أنها النعيم، فالنعيم الذي يكون سبباً في صَرْف الإنسان عن ربه لا يُعَدُّ حسنة إنما سيئة، إذن: فالحسنة المرادة هنا في الآخرة. {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} لكن ما علاقة {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ..} بقوله {اتَّقُواْ رَبَّكُمْ}.
قالوا: يعني: إنْ صادفتَ متاعبَ في أرضك التي تعيش فيها، فإنَّ أرضَ الله واسعةٌ، فالتمس حمايةَ نفسك ودينك في أرض أخرى، كما قال سبحانه: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء: 100].
وقال في نفس المعنى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا..} [النساء: 97].
إذن: حين تضيق بك أرضك، وحين يضيق عليك الخناق بها، فالتمس أرضاً أخرى تأمن فيها على نفسك وعلى دينك، وعلى تطبيق منهج الله دون معاند، ودون معارض.
ولو تنبهنا إلى آية في سورة الرحمن لوجدنا فيها حلاً لكل مشاكل الدنيا المعاصرة، هي قوله تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10].
يعني: جعل الأرض كل الأرض دون تحديد تحت تصرف كل الأنام دون تحديد أيضاً، فكلُّ إنسان له في أرض الله نصيب، فإذا ضاق به مكان فله حَقٌّ في مكان آخر. لكن قوانين البشر ومصالحهم غَيَّرَتْ هذه الصورة، ووضعت العقبات والعراقيل والإجراءات المعقدة في طريق هذه الحرية التي كفلها الخالق سبحانه للحركة على أرضه.
لذلك وجدنا أن مشكلة العالم الاقتصادية تكمن في وجود أرض بلا رجال، أو رجال بلا أرض، ولو تركنا الأرض لله كما خلقها الله لعباده، لو جعلنا الأرض كل الأرض للأنام كل الأنام لقضَيْنا على كل مشاكل الدنيا...
ثم يقول سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] الحث على الصبر بعد قوله {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر: 10] دلَّ على أنه لا بُدَّ أَنْ تُوجَد في الحياة صِعَاب ومشاكل ومتاعب تحتاج إلى صبر...
فالحق سبحانه يريد منا أنْ نتحمل منهج الله، وأن نقوم به لنسعد أنفسنا، ثم نتسامى في الإيمان، ونحاول أن نسعد غيرنا ليحدث استِطراقٌ للخير في المجتمع؛ لِذلك قال صلى الله عليه وسلم:"نَضّر اللهُ امرءاً سمع مَقالتي فَوَعاهَا، ثُمَّ أدَّاها إلى مَنْ لم يَسْمَعْها، فَرُبَّ مُبلِّغْ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ".
إذن: فنقْلُ الخير إلى الغير فيه خير لك أنت، وسوف يعود عليك نفعه، لأنه حين تحجب عِلْم الخير عن الغير سيكون هذا الغير في شَرٍّ، وسوف يتعبك هذا الشر وينالك شيء منه، فمن مصلحتك أنت أنْ يعمَّ الخيرُ الآخرين، ومن مصلحتك أنْ يكون غيرك خَيِّراً، لا يسرق ولا يَسُبّ ولا يخون، ولا يتعدى على الآخرين، فنقْل علم الخير إلى الغير مُفيد لناقله، ليكفّ شرَّ ذي الشر عنه على الأقل.
والصابر هو الذي يصبر على الشدائد والمحن التي تُخرِجه عن: سلامة الجوارح، وسلامة المال، وسلامة الأهل، والصابر واثق بأن إيلاَمه وإيذاءه يعطيه خيراً من النعيم الذي فقده قبل الإيلام والإيذاء، لأن الله قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وإذا كانت التكاليفُ لها حساب عند الله، فالصلاة لها حساب، والزكاة لها حساب.. إلخ أما الصبر فإن أجره بغير حساب يعني: غير معلوم...
والصبر عدم تشكيك في رحمة الله، وعدم اعتراض على حكمه وقضائه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تتمة لما جاء في بحث الآيات السابقة التي قارنت بين المشركين المغرورين والمؤمنين المطيعين لله، وبين العلماء والجهلة، فإنّ آيات بحثنا هذا تبحث الخطوط الرئيسية لمناهج عباد الله الحقيقيين المخلصين وذلك ضمن سبعة مناهج وردت في عدّة آيات تبدأ بكلمة (قل).
الآية الأولي تحثّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على التقوى: (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم) فالتقوى هي الحاجز الذي يصدّ الإنسان عن الذنوب، وتجعله يحسّ بالمسؤولية وبتكاليفه أمام البارئ عز وجل، هي المنهج الأوّل لعباد الله المؤمنين و المخلصين، فالتقوى هي الدرع الذي يقي الإنسان من النّار، والعامل الرئيسي الذي يردعه عن الانحراف، فالتقوى هي ذخيرته الكبيرة في سوق القيامة، وهي ميزان شخصية وكرامة الإنسان عند البارئ عز وجل...
المنهج الثّاني يختص بالإنسان والعمل الصالح في هذه الدنيا التي هي دار العمل، وقد شجعت الآية الناس وحثتهم على عمل الإحسان، من خلال بيان نتيجة ذلك العمل: (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة)...
نعم فالإحسان بصورة مطلقة في هذه الدنيا سواء كان في الحديث، أو في العمل، أو في نوع التفكر والتفكير بالأصدقاء والغرباء يؤدّي إلى نيل ثواب عظيم في الدنيا والآخرة، لأنّ جزاء الإحسان هو الإحسان...
وفي الواقع فإنّ التقوى عامل ردع، والإحسان عامل صلاح، وكلاهما يشمل (ترك الذنب) و (أداء الفرائض والمستحبات)...
المنهج الثّالث يدعو إلى الهجرة من مواطن الشرك والكفر الملوثة بالذنوب، قال تعالى: (و أرض الله واسعة).
مسألة الهجرة هي إحدى أهم المسائل التي لم تلعب دوراً أساسياً في صدر الإسلام بانتصار الحكومة الإسلامية فحسب، بل إنّ لها أهمية في كلّ زمان، لأنّها من جهة تمنع مجموعة من المؤمنين أن يستسلموا لضغط وكبت محيطهم، ومن جهة أخرى تكون عاملا مساعداً لتصدير الإسلام إلى نقاط مختلفة في أنحاء العالم...