{ 98 } { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }
يقول تعالى : { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ْ } من قرى المكذبين { آمَنَتْ ْ } حين رأت العذاب { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ْ } أي : لم يكن منهم أحد انتفع بإيمانه ، حين رأى العذاب ، كما قال تعالى عن فرعون ما تقدم قريبًا ، لما قال : { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ْ } فقيل له { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ْ }
وكما قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ْ }
وقال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا ْ }
والحكمة في هذا ظاهرة ، فإن الإيمان الاضطراري ، ليس بإيمان حقيقة ، ولو صرف عنه العذاب والأمر الذي اضطره إلى الإيمان ، لرجع إلى الكفران .
وقوله : { إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا ْ } بعدما رأوا العذاب ، { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ْ } فهم مستثنون من العموم السابق .
ولا بد لذلك من حكمة لعالم الغيب والشهادة ، لم تصل إلينا ، ولم تدركها أفهامنا .
قال الله تعالى : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ْ } إلى قوله : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ْ } ولعل الحكمة في ذلك ، أن غيرهم من المهلكين ، لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه .
وأما قوم يونس ، فإن الله علم أن إيمانهم سيستمر ، [ بل قد استمر فعلا وثبتوا عليه ] والله أعلم .
يقول تعالى : فهلا كانت قرية آمنت بكمالها من الأمم السالفة الذين بعثنا إليهم الرسل ، بل ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول إلا كذبه قومه ، أو أكثرهم كما قال تعالى : { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ يس : 30 ] ، { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 52 ] ، { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ]{[14426]}-{[14427]} وفي الحديث الصحيح : " عرض علي الأنبياء ، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس ، والنبي معه الرجل والنبي معه الرجلان ، والنبي ليس معه أحد " {[14428]} ثم ذكر كثرة أتباع موسى ، عليه السلام ، ثم ذكر كثرة أمته ، صلوات الله وسلامه عليه ، كثرة سدت الخافقين الشرقي{[14429]} والغربي .
والغرض أنه لم توجد{[14430]} قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى ، إلا قوم يونس ، وهم أهل نِينَوى ، وما كان إيمانهم إلا خوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم ، بعد ما عاينوا أسبابه ، وخرج رسولهم من بين أظهرهم ، فعندها جأروا إلى الله واستغاثوا به ، وتضرعوا{[14431]} لديه . واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم ، وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم . فعندها رحمهم الله ، وكشف عنهم العذاب وأخروا ، كما قال تعالى : { إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } .
واختلف المفسرون : هل كُشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي ؟ أو إنما كشف عنهم في الدنيا فقط ؟ على قولين ، أحدهما : إنما كان ذلك في الحياة الدنيا ، كما هو مقيد في هذه الآية . والقول الثاني فيهما لقوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ الصافات : 147 ، 148 ] فأطلق عليهم الإيمان ، والإيمان منقذ من العذاب الأخروي ، وهذا هو الظاهر ، والله أعلم .
قال قتادة في تفسير هذه الآية : لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب ، فتركت ، إلا قوم يونس ، لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم ، قذف الله في قلوبهم التوبة ، ولبسوا المسوح ، وفَرّقوا بين كل بهيمة وولدها ثم عَجّوا إلى الله أربعين ليلة . فلما عرف الله منهم الصدق من قلوبهم ، والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم - قال قتادة : وذكر أن قوم يونس كانوا بنينوى أرض الموصل .
وكذا روي عن ابن مسعود ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف ، وكان ابن مسعود يقرؤها : " فَهَلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ " .
وقال أبو عمران ، عن أبي الجَلْد قال : لما نزل بهم{[14432]} العذاب ، جعل يدور على رءوسهم كقطع الليل المظلم ، فمشوا إلى رجل من علمائهم فقالوا : علمنا دعاء ندعو به ، لعل الله يكشف{[14433]} عنا العذاب ، فقال : قولوا : يا حيّ حين لا حيّ ، يا محيي الموتى{[14434]} لا إله إلا أنت . قال : فكشف عنهم العذاب .
وقوله { فلولا كانت قرية آمنت } الآية ، في مصحف أبيّ وابن مسعود «فهلا » والمعنى فيهما واحد ، وأصل «لولا » في الكلام التحضيض أو الدلالة على منع أمر لوجود غيره ، فأما هذه فبعيدة عن هذه الآية لكنها من جملة التي هي للتحضيض بها ، أن يكون المحضض يريد من المخاطب فعل ذلك الشيء الذي يخصه عليه ، وقد تجيء «لولا » ، وليس من قصد المخاطب أن يحض المخاطب على فعل ذلك الشيء فتكون حينئذ لمعنى توبيخ كقول جرير : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . لولا الكمي المقنعا{[6231]}
وذلك أنه لم يقصد حضهم على عقر الكمي ، كقولك لرجل قد وقع في أمر صعب : لولا تحرزت ، وهذه الآية من هذا القبيل .
قال القاضي أبو محمد : ومفهوم من معنى الآية نفى إيمان أهل القرى ، ومعنى الآية فهلا آمن من أهل قرية وهم على مهل لم يلتبس العذاب بهم فيكون الإيمان نافعاً في هذه الحالة ، ثم استثنى قوم يونس ، فهو بحسب اللفظ استثناء منقطع ، وكذلك رسمه النحويون أجمع وهو بحسب المعنى متصل ، لأن تقديره ما آمن من أهل قرية إلا قوم يونس والنصب في قوله { إلا قوم } هو الوجه ، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصب ، وكذلك مع انقطاع الاستثناء ويشبه الآية قول النابغة :
إلا الأواري *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[6232]}
وذلك هو حكم لفظ الآية ، وقالت فرقة : يجوز فيه الرفع وهذا اتصال الاستثناء{[6233]} ، وقال المهدوي : والرفع على البدل من { قرية } وروي في قصة قوم موسى : أن القوم لما كفروا أوحى الله إليه : أن أنذرهم بالعذاب الثلاثة ، ففعل فقالوا : هو رجل لا يكذب فارقبوه ، فإن قام بين أظهركم فلا عليكم ، وإن ارتحل عنكم فهو نزول العذاب لا شك ، فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا ودعوا الله وآمنوا ولبسوا المسوح وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم ، والعذاب منهم فيما روي عن ابن عبّاس على ثلثي ميل ، وروي عن علي ميل ، وقال ابن جبير غشيهم العذاب كما يغشي الثوب القبر فرفع الله عنهم العذاب فلما مضت الثلاثة وعلم يونس أن العذاب لم ينزل قال كيف أنصرف وقد وجدوني في كذب فذهب مغاضباً كما ذكر الله في هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وذهب الطبري إلى أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب ذكر ذلك عن جماعة من المفسرين وليس كذلك ، والمعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي تلبس العذب أو الموت بشخص الإنسان كقصة فرعون ، وأما قوم يونس فلم يصلوا هذا الحد ، وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف وعيسى بن عمر وابن وثاب والأعمش «يونِس » بكسر النون وفيه للعرب ثلاث لغات ضم النون وفتحها وكسرها وكذلك في «يوسف » ، وقوله : { إلى حين } ، يريد إلى آجالهم المفروضة في الأزل ، وروي أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل ويقتضي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له إنه من أهل نينوى ، من قرية الرجل الصالح يونس بن متى الحديث ، الذي في السيرة لابن إسحاق .
الفاء لتفريع التغليط على امتناع أهل القرى من الإيمان بالرسل قبل أن ينزل بهم العذاب على الإخبار بأن الذين حقت عليهم كلمة الله أن لا يؤمنوا لا يؤمنون حتى يروا العذاب فإن أهل القرى من جملة الذين حقت عليهم الكلمة بأن لا يؤمنوا . والغرض من ذكر أهل القرى التعريض بالمقصود ، وهم أهل مكة فإنهم أهل قرية فكان ذلك كالتخلص بالتعريض إلى المخصوصين به ، وللإفضاء به إلى ذكر قوم يونس فإنهم أهل قرية .
و ( لولا ) حرف يرد لمعان منها التوبيخ ، وهو هنا مستعمل في لازم التوبيخ كناية عن التغليط ، لأن أهل القرى قد انقضوا ، وذلك أن أصل معنى ( لولا ) التحضيض ، وهو طلب الفعل بحَثّ ، فإذا دخلت على فعل قد فات وقوعه كانت مستعملة في التغليط والتنديم والتوبيخ على تفويته ، ويكون ما بعدها في هذا الاستعمال فعل مضي مثل قوله تعالى : { ولَولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا } [ النور : 16 ] . وإذا توجه الكلام الذي فيه ( لولا ) إلى غير صاحب الفعل الذي دخلت عليه كانت مستعملة في التعجيب من حال المتحدث عنه ، كقوله : { لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء } [ النور : 13 ] وقوله : { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } [ الأنعام : 43 ] وهذه الآية أصرح في ذلك لوجود ( كان ) الدالة على المضي والانقضاء . والمقصود : التعريض بأن مشركي أهل مكة يوشك أن يكونوا على سنَن أهل القرى . قال تعالى : { ما آمنتْ قبلهم من قرية أهلكناها أفَهُم يؤمنون } [ الأنبياء : 6 ] ، ونظير هذه الآية استعمالاً ومعنى قوله تعالى : { فلولا كان من القرون من قبلكم أولُوا بقيّة ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم } [ هود : 116 ] ، وذلك تعريض بتحريض أهل مكة على الإيمان قبل نزول العذاب .
والمستخلص من الروايات الواردة في قوم يونس أنهم بادروا إلى الإيمان بعد أن فارقهم يونس ، توقعاً لنزول العذاب ، وقبل أن ينزل بهم العذاب ، وذلك دليل على أن معاملة الله إياهم ليست مخالفة لما عامل به غيرهم من أهل القرى ، وأن ليست لقوم يونس خصوصية ، وبذلك لا يكون استثنائهم استثناءاً منقطعاً .
وإذ كان الكلام تغليطاً لأهل القرى المعرضين عن دعوة الرسل ، وتعريضاً بالتحذير مما وقعوا فيه . كان الكلام إثباتاً صريحاً ووقوع قرية وهو نكرة في مساق الإثبات أفاد العموم بقرينة السياق مثل قول الحريري : « يا أهل ذا المغْنَى وقيتم ضُراً » أي كل ضر لا ضراً معيناً ، وبقرينة الاستثناء فإنه معيار العموم ، وهذا الاستثناء من كلام موجب فلذلك انتصب قوله : { إلا قومَ يونس } فهذا وجه تفسير الآية . وجرى عليه كلام العُكبري في « إعراب القرآن » ، والكواشي في « التخليص » وجمهور المفسرين جعلوا جملة : { فلولا كانت قرية آمنت } في قوة المنفية ، وجعلوا الاستثناء منقطعاً منصوباً ولا داعي إلى ذلك .
وجملة : { لمّا آمنوا } مستأنفة لتفصيل مجمَل معنى الاستثناء . وفي الآية إيماء إلى أن أهل مكة يعاملهم الله معاملة قوم يونس إذ آمنوا عند رؤية العذاب . وذلك حالهم عندما تسامعوا بقدوم جيش غزوة الفتح الذي لا قبل لهم به عدة وعُدة ، فيكاد يحل بهم عذاب استئصال لولا أنهم عجّلوا بالإيمان يوم الفتح . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم « أنتُم الطلقاء » .
وقوم يونس هم أهل قرية نَيْنَوَى{[249]} من بلاد العراق . وهم خليط من الأشوريين واليهود الذين كانوا في أسر ملوك بابل بعد بختنصر . وكانت بعثة يونس إليهم في أول القرى الثامن قبل المسيح . وقد تقدم ذكر يونس وترجمته في سورة الأنعام .
ولما كذّبه أهل نَيْنَوَى توعدهم بخسف مدينتهم بعد أربعين يوماً ، وخرج من المدينة غاضباً عليهم ، فلمّا خرج خافوا نزول العذاب بهم فتابوا وآمنوا بالله فقبل الله إيمانهم ولم يعذّبهم . والمذكور أنهم رأوا غيماً أسود بعد مضي خمسة وثلاثين يوماً من حين توعدهم يونس عليه السلام بحلول العذاب فعلموا أنه مقدمة العذاب فآمنوا وخضعوا لله تعالى فأمسك عنهم العذاب . وسيجيء ذكر ما حل بيونس عليه السلام في خروجه ذلك من ابتلاع الحوت إياه في سورة الأنبياء .
والكشف : إزالة ما هو ساتر لشيء ، وهو هنا مجاز في الرفع . والمراد : تقدير الرفع وإبطال العذاب قبل وقوعه فعبر عنه بالكشف تنزيلاً لمقاربة الوقوع منزلة الوقوع .
والخزي : الإهانة والذل . وإضافة العذاب إلى الخزي يجوز كونها بيانية لأن العذاب كله خزي ، إذ هو حالة من الهلاك غير معتادة فإذا قدرها الله لقوم فقد أراد إذلالهم ، ويجوز أن تكون الإضافة حقيقية للتخصيص ، ويكون المراد من الخزي الحالة المتصورة من حلوله . وهي شناعة الحالة لمن يشاهدهم مثل الخسف والحرق والغرق ، وأشنع الخزي ما كان بأيدي أناس مثلهم ، وهو عذاب السيف الذي حل بصناديد قريش يوم بدر ، والذي كاد أن يحل بجميع قريش يوم فتح مكة فنجاهم الله منه كما نجّى قوم يونس .
و { في الحياة الدنيا } صفة ل { عذاب الخزي } للإشارة إلى أن العذاب الذي يحل بالأمم الكافرة هو عقاب في الدنيا وبعده عقاب في الآخرة ، وأن الأمم التي لم تعذب في الدنيا قد أدخر لها عذاب الآخرة .
وإبهام { حين } لأنه مختلف باختلاف آجال أحادهم ، والمراد به التمتيع بالحياة لا بكشف العذاب ، لأنهم بعد موتهم ناجون من العذاب إذ كانوا قد آمنوا وأخلصوا .
ولعل الحكمة في نجاة قوم يونس تتمثل في أمرين :
أحدهما : أن الله علم أن تكذيبهم يونس عليه السلام في ابتداء دعوته لم يكن ناشئاً عن تصميم على الكفر واستخفاف بعظمة الله ، ولكنه كان شكاً في صدق يونس عليه السّلام . ولعل ذلك أنهم كانوا على بقية من شريعة موسى عليه السّلام وإنما حرّفوا وحادوا عن طريق الإيمان مما يعلمه الله ، فإن في نَيْنَوَى كثيراً من أسرى بني إسرائيل الذين كانوا في أسر الأشوريين كما علمت آنفاً ، فلما أوعدهم يونس عليه السّلام بالعذاب بعد أربعين يوماً ورأوا أماراته بعد خمسة وثلاثين يوماً اهتدَوا وآمنوا إيماناً خالصاً .
وثانيهما : أن يونس عليه السّلام لمّا صدرت منه فلتة المغاضبة كان قد خلط في دعوته شيئاً من حظ النفس وإن كان لفائدة الدين ، فقدر الله إيمان قومه لعلمه كمال الإيمان والصبر والتسليم لله ، وهذا عتاب وتأديب بينه وبين ربه ، ولذلك حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمةَ من توهم أنّ ما جرى ليونس عليه السّلام من المغاضبة والمعاقبة ينقص من قدره فقال صلى الله عليه وسلم « لا ينبغي لأحد أن يقول أنَا خير من يونس بن متّى » يعني في صحة الرسالة لا في التفاضل فيها .
وقد كان حال أهل مكة كحال قوم يونس إذ بادروا إلى الإيمان بمجرد دخول جيش الفتح مكة وقبل أن يقعُوا في قبضة الأسر ، ولذلك لم ينج منهم عبدُ الله بن خطل ، لأنه لم يأت مُؤمناً قبل أن يتمكن منه المسلمون ولم ينفعه التعلق بأستار الكعبة لأن ذلك التعلق ليس بإيمان وإنما هو من شعار العوذ في الجاهلية بما أبطله الإسلام إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم « إن الحرم لا يعيذ عاصياً » وقد بيّنّا في آخر سورة غافر ( 84 ) عند قوله تعالى : { فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده } إلى آخر السورة فانظره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها} الإيمان عند نزول العذاب،
{إلا قوم يونس لما ءامنوا} يعني صدقوا وتابوا...
{كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} إلى منتهى آجالهم، فأخبرهم يا محمد أن التوبة لا تنفعهم عند نزول العذاب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فهلا كانت قرية آمنت...
ومعنى الكلام: فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب ونزول سخط الله بها بعصيانها ربها واستحقاقها عقابه، فنفعها إيمانها ذلك في ذلك الوقت، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق بعد تماديه في غيّه واستحقاقه سخط الله بمعصيته. "إلاّ قَوْمَ يُونُسَ "فإنهم نفعهم إيمانهم بعد نزول العقوبة وحلول السخط بهم. فاستثنى الله قوم يونس من أهل القرى الذين لم ينفعهم إيمانهم بعد نزول العذاب بساحتهم، وأخرجهم منهم، وأخبر خلقه أنه نفعهم إيمانهم خاصة من بين سائر الأمم غيرهم...
عن قتادة، قوله: "فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعها إيمانْها إلاّ قَوْمَ يُونسَ لمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحيَاةِ الدّنْيا وَمَتّعْناهُمْ إلى حِينٍ" يقول: لم يكن هذا في الأمم قبلهم لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتركت، إلا قوم يونس لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة... فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم. قال: وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى أرض الموصل...
وقوله: "لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحيَاةِ الدّنْيا" يقول: لما صدقوا رسولهم وأقرّوا بما جاءهم به بعدما أظلهم العذاب وغشيهم أمر الله ونزل بهم البلاء، كشفنا عنهم عذاب الهوان والذلّ في حياتهم الدنيا. "وَمَتّعْناهُمْ" إلى حينٍ يقول: وأخرنا في آجالهم ولم نعاجلهم بالعقوبة، وتركناهم في الدنيا يستمتعون فيها بآجالهم إلى حين مماتهم ووقت فناء أعمارهم التي قضيت فناءها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قومُ يونس تداركتْهم رحمةُ أزليةُ فيما أجرى من توفيقِ التضرع، فَكَشَفَ عنهم العذابَ، وصَرَفَ عنهم ما أظلَّ عليهم من العقوبة بعد ما عاينوا من تلك الأبواب؛ فبرحمته وصلوا إلى تضرعهم، لا بتضرعهم وصلوا إلى رحمته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلَوْلاَ كَانَتْ} فهلا كانت {قَرْيَةٌ} واحدة من القرى التي أهلكناها، تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل المعاينة وقت بقاء التكليف، ولم تأخر كما أخر فرعون إلى أن أخذ بمخنقه {فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} بأن يقبله الله منها لوقوعه في وقت الاختيار. وقرأ أبيّ وعبد الله: «فهلا كانت» {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} استثناء من القرى؛ لأنّ المراد أهاليها، وهو استثناء منقطع بمعنى: ولكن قوم يونس لما آمنوا. ويجوز أن يكون متصلاً والجملة في معنى النفي، كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلاّ قوم يونس...روي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه، فذهب عنهم مغاضباً، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب... وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا، فرحمهم الله وكشف عنهم...
إن قال قائل إنه تعالى حكى عن فرعون أنه تاب في آخر الأمر ولم يقبل توبته وحكى عن قوم يونس أنهم تابوا وقبل توبتهم فما الفرق؟ والجواب: أن فرعون إنما تاب بعد أن شاهد العذاب، وأما قوم يونس فإنهم تابوا قبل ذلك فإنهم لما ظهرت لهم أمارات دلت على قرب العذاب تابوا قبل أن شاهدوا فظهر الفرق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا موضع أن يقال: إنما تطلب الآيات لما يرجى من تسبب الإيمان عنها، تسبب عنه أن يجاب بقوله تعالى: {فلولا} أي فهلا {كانت قرية} أي واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها {آمنت} أي آمن قومها عند إتيان الآيات أو عند رؤية أسباب العذاب {فنفعهآ} أي فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها -{إيمانها} ولما كان المعنى "لولا "النفي، كان التقدير: لكن لم تؤمن قرية منهم إلاّ عند صدم العذاب كما فعل فرعون، لو آمن عند رؤية البحر على حال الفلق أو عند توسطه وقبل انسيابه عليه قُبِل، ولكنه ما آمن إلا بعد انهماره ومسه. وذلك حين لا ينفع لفوات شرطه من الإيمان بالغيب {إلاّ قوم يونس} فإنهم آمنوا عند المخايل وقت بقاء التكليف فنفعهم ذلك فإنهم {لمآ آمنوا} ودل على أنه قد كان أظلهم بقوله: {كشفنا} أي بعظمتنا {عنهم} أي حين إيمانهم... {عذاب الخزي} أي الذي كان يوجب لهم لو برك عليهم هوان الدارين {في الحياة الدنيا} أي فلم يأخذهم وقت رؤيتهم له {ومتعناهم} أي تمتيعاً عظيماً {إلى حين} وهو انقضاء آجالهم مفرقة كل واحد منهم في وقته المضروب له، وما ذكرته في معنى الآية نقله القاضي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره المسند عن ابن أبي عمر قال: قال سفيان الثوري: {فلولا كانت قرية آمنت} قال: فلم تكن قرية آمنت، وهذا تفسير معنى الكلام، وأما "لولا" فهو بمعنى هلا، وهي على وجوه تحضيض وتأنيث، أي توبيخ، وهي هنا للتوبيخ. ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى "لم لا"، ويلزم كلا من المعنيين النفي؛ والنفع: إيجاب اللذة بفعلها أو ما يؤدي إليها كالدواء الكريه المؤدي إلى اللذة؛ والخزي هو أن يفضح صاحبه، وهو وضع من القدر للغم الذي يلحق به، وأصله التعب.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} لولا هذه للتخضيض كما قال أئمة اللغة والنحو. والمراد بالقرية أهلها، وهم أقوام الأنبياء، فإنهم كلهم بعثوا في أهل الحضارة والعمران دون البادية. أي فهلا كان أهل قرية من قرى أقوام أولئك الرسل آمنت بدعوتهم وإقامة الحجة عليهم، فنفعها قبل وقوع العذاب الذي أنذروا به، أي أنه لم يؤمن قوم منهم برمتهم، فإن التحضيض يستلزم الجحد.
{إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ} قبل وقوع العذاب بهم بالفعل، وكانوا علموا بقربه من خروج نبيهم من بينهم، وروي أنهم رأوا علاماته، ويجوز في هذا الاستثناء الاتصال والانفصال.
{كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي صرفنا عنهم عذاب الذل والهوان في الدنيا؛ لأن نبيهم خرج بدون إذن الله تعالى له، فلم تتم عليهم الحجة، ولا حقت عليهم كلمة العذاب، وقد استدلوا بذهابه مغاضبا لهم على قرب وقوع العذاب كما أنذرهم فتابوا وآمنوا فكشفناه عنهم.
{ومَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي ومتعناهم بمنافعها إلى زمن معلوم هو عمرهم الطبيعي الذي يعيشه كل منهم بحسب سنته تعالى في استعداد بنيته ومعيشته. وقد فصلنا الكلام في الأجل الذي يسمى الطبيعي وغيره في تفسير {ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده} [الأنعام: 2] من سورة الأنعام، ولا محل للبحث عن تعذيبهم في الآخرة كما فعل بعض المفسرين، فإن شهادة الله تعالى لهم بالإيمان النافع ظاهرة في قبوله منهم صريحة في أنه لا يعذبهم في الآخرة على سابق كفرهم، وإنما يجزون بغيره من أعمالهم بعد الإيمان.
هذا الذي فسرنا به الآية هو المتبادر من عبارتها، والموافق للسياق، ولسنة الله تعالى في أقوام الأنبياء عليهم السلام. وفيه تعريض بأهل مكة، وإنذار لهم، وحض على أن يكونوا كقوم يونس الذين استحقوا عذاب الخزي بعنادهم حتى إذا أنذرهم نبيهم قرب وقوعه، وخرج من بينهم، اعتبروا وآمنوا قبل اليأس، وحلول البأس، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ما ثبت من خبره عليه السلام في تفسير سورتي الأنبياء والصافات، وهو موافق في جملته لما عند أهل الكتاب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أولهما: الإهابة بالمكذبين أن يتعلقوا بخيوط النجاة الأخيرة، فلعلهم ناجون كما نجا قوم يونس من عذاب الخزي في الحياة الدنيا. وهو الغرض المباشر من سياقة القصة هذا المساق..
وثانيهما: أن سنة الله لم تتعطل ولم تقف بكشف هذا العذاب، وترك قوم يونس يتمتعون فترة أخرى. بل مضت ونفذت. لأن مقتضى سنة الله كان أن يحل العذاب بهم لو أصروا على تكذيبهم حتى يجيء. فلما عدلوا قبل مجيئه جرت السنة بإنجائهم نتيجة لهذا العدول. فلا جبرية إذن في تصرفات الناس، ولكن الجبرية في ترتيب آثارها عليها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمستخلص من الروايات الواردة في قوم يونس أنهم بادروا إلى الإيمان بعد أن فارقهم يونس، توقعاً لنزول العذاب، وقبل أن ينزل بهم العذاب، وذلك دليل على أن معاملة الله إياهم ليست مخالفة لما عامل به غيرهم من أهل القرى، وأن ليست لقوم يونس خصوصية، وبذلك لا يكون استثنائهم استثناءاً منقطعاً. وإذ كان الكلام تغليطاً لأهل القرى المعرضين عن دعوة الرسل، وتعريضاً بالتحذير مما وقعوا فيه. كان الكلام إثباتاً صريحاً ووقوع قرية وهو نكرة في مساق الإثبات أفاد العموم بقرينة السياق... والكشف: إزالة ما هو ساتر لشيء، وهو هنا مجاز في الرفع. والمراد: تقدير الرفع وإبطال العذاب قبل وقوعه فعبر عنه بالكشف تنزيلاً لمقاربة الوقوع منزلة الوقوع. والخزي: الإهانة والذل...