{ 11 } { وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا }
وهذا من جهل الإنسان وعجلته حيث يدعو على نفسه وأولاده وماله بالشر عند الغضب ويبادر بذلك الدعاء كما يبادر بالدعاء في الخير ، ولكن الله -بلطفه{[469]} - يستجيب له في الخير ولا يستجيب له بالشر . { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ }
يخبر تعالى عن عجلة الإنسان ، ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله { بِالشَّرِّ } أي : بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك ، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه ، كما قال تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [ يونس : 11 ] ، وكذا فسره ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وقد تقدم في الحديث : " لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم ، أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها " .
وإنما يحمل ابن آدم على ذلك عجلته وقلقه ؛ ولهذا قال تعالى { وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا }
وقد ذكر سلمان الفارسي وابن عباس - رضي الله عنهما - هاهنا قصة آدم ، عليه السلام ، حين همّ بالنهوض قائمًا قبل أن تصل الروح إلى رجليه ، وذلك أنه جاءته النفخة من قبل رأسه ، فلما وصلت إلى دماغه عطس ، فقال : الحمد لله . فقال الله : يرحمك ربك يا آدم . فلما وصلت إلى عينيه فتحهما ، فلما سرت إلى أعضائه وجسده جعل ينظر إليه ويعجبه ، فهمّ بالنهوض قبل أن تصل إلى رجليه فلم يستطع{[17237]} وقال : يا رب عجل{[17238]} قبل الليل .
{ ويدع الإنسان بالشّر } ويدعو الله تعالى عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله ، أو يدعوه بما حسبه خيرا وهو شر . { دعاءه بالخير } مثل دعائه بالخير . { وكان الإنسان عجولاً } يسارع إلى كل ما يخطر بباله لا ينظر عاقبته . وقيل المراد آدم عليه الصلاة والسلام فإنه لما انتهى الروح إلى سرته ذهب لينهض فسقط . روي : أنه عليه السلام دفع أسيرا إلى سودة بنت زمعة فحرمته لأنينه فأخرت كتافه ، فهرب فدعا عليها بقطع اليد ثم ندم فقال عليه السلام : اللهم إنما أنا بشر فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له فنزلت . ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر وبالدعاء استعجاله بالعذاب استهزاء كقول النضر بن الحارث : اللهم انصر خير الحزبين ، { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية . فأجيب له فضرب عنقه صبرا يوم بدر .
وقوله { ويدع الإنسان } الآية ، سقطت الواو من { يدع } في خط المصحف لأنهم كتبوا المسموع ، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد : هذه الآية نزلت ذامة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأبنائهم في وقت الغضب والضجر ، فأخبر الله أنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت كما تدعون بالخير في وقت التثبت ، فلو أجاب الله دعاءهم أهلكهم ، لكنه يصفح ولا يجيب دعاء الضجر المستعجل ، ثم عذر بعض العذر في أن الإنسان له عجلة فطرية ، و { الإنسان } هنا قيل يريد به الجنس بحسب ما في الخلق من ذلك قاله مجاهد وغيره ، وقال سلمان الفارسي وابن عباس : إشارته إلى آدم في أنه لما نفخ الروح في رأسه عطس وأبصر فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقيه أعجبته نفسه فذهب ليمشي مستعجلاً لذلك فلم يقدر وأشارت ألفاظ هذه الآية إلى هذا والمعنى فأنتم ذووعجلة موروثة من أبيكم ، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أسيراً في قيْد في بيت سودة بنت زمعة فسمعت سودة أنينه فأشفقت فقالت له ما بالك ؟ فقال : ألم القيد ، فقالت : فأرخت من ربطه فسكت ، ثم نامت ، فتحيل في الانحلال وفر ، فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصبح ، فأخبر الخبر ، فقال قطع الله يدها ففزعت سودة ورفعت يديها نحو السماء وهي تخاف الإجابة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إن الله قد جعل دعائي في مثل هذا رحمة على المدعو عليه ، لأني بشر أغضب وأعجل ، فلترد سودة يديها »{[7484]} ، وقالت فرقة هذه الآية نزلت في شأن قريش الذين قالوا { اللهم إن كان الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء }{[7485]} [ الأنفال : 32 ] ، وكان الأولى أن يقولوا فاهدنا إليه وارحمنا به فذمهم الله تعالى في هذه الآية بهذا ، وقالت فرقة : معنى هذه الآية : معاتبة الناس على أنهم إذا نالهم شر وضرعوا وألحوا في الدعاء الذي كان يجب أن يدعوه في حالة الخير ويلتزمه من ذكر الله وحمده والرغبة إليه ، لكنه يقصر حينئذ ، فإذا مسه ضر ألح واستعجل الفرج ، فالآية على هذا من نحو قوله تعالى : { وإذا مس الإنسان الضر دعَانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضُر مسه }{[7486]} [ يونس : 12 ] .
موقع هذه الآية هنا غامض ، وانتزاع المعنى من نظمها وألفاظها أيضاً ، ولم يأت فيها المفسرون بما ينثلج له الصدر . والذي يظهر لي أن الآية التي قبلها لما اشتملت على بشارة وإنذار وكان المنذرون إذا سمعوا الوعيد والإنذار يستهزئون به ويقولون : { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ يس : 48 ] عُطف هذا الكلام على ما سبق تنبيهاً على أن لذلك الوعد أجلاً مسمى . فالمراد بالإنسان الإنسان الذي لا يؤمن بالآخرة كما هو في قوله تعالى : { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً } و { أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً } [ مريم : 66 67 ] وإطلاق الإنسان على الكافر كثير في القرآن .
وفعل يدعو } مستعمل في معنى يطلب ويبتغي ، كقول لبيد
ادْعُو بهن لعَاقر أو مُطْفِل *** بُذِلَت لجيران الجميع لِحَامُها
وقوله : { دعاءه بالخير } مصدر يفيد تشبيهاً ، أي يستعجل الشر كاستعجاله الخير ، يعني يستبطىء حلول الوعيد كما يستبطىء أحد تأخر خير وعد به .
وقوله : { وكان الإنسان عجولاً } تذييل ، فالإنسان هنا مراد به الجنس لأنه المناسب للتذييل ، أي وما هؤلاء الكافرون الذين لا يؤمنون بالآخرة إلا من نوع الإنسان ، وفي نوع الإنسان الاستعجال فإن ( كان ) تدل على أن اسمها متصف بخبرها اتصافاً متمكناً كقوله تعالى : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } [ الكهف : 54 ] .
والمقصود من قوله : { وكان الإنسان عجولاً } الكناية عن عدم تبصره وأن الله أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت الأشياء { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم } [ يونس : 11 ] ، ولكنه دَرّج لهم وصول الخير والشر لطفاً بهم في الحالين .
والباء في قوله : بالشر وبالخير لتأكيد لصوق العامل بمعموله كالتي في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] ؛ أو لتضمين مادة الدعاء معنى الاستعجال ، فيكون كقوله تعالى : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } [ الشورى : 18 ] .
وعجول : صيغة مبالغة في عاجل . يقال : عجل فهو عاجل وعجول .
وكتب في المصحف { ويدع } بدون واو بعد العين إجراء لرسم الكلمة على حالة النطق بها في الوصل كما كتب { سَنْدُع الزبانية } [ العلق : 18 ] ونظائرها . قال الفراء : لو كتبت بالواو لكان صواباً .