أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه السورة الكريمة أن يبلغ الناس ما أوحى إليه من استماع الجن إلى قراءته ، واستجابتهم لدعوته ، وإخبارهم بما كان من سفهائهم وصالحيهم ، وما كان من قعودهم لاستراق السمع ثم طردهم عنه الآن ، وعرضت آيات السورة للمستقيمين على طريقة الإسلام والمعرضين عنه ، وتحدثت عن خلوص المساجد والعبادة لله وحده وعن دعوة الرسول إلى الله ، والتفاف الجن حوله ، وحددت ما لا يملكه الرسول من الأمور وما يملكه ، وحذرت العاصين لله ورسوله من جهنم وخلودهم فيها .
وذكرت في ختامها أن الله مختص بعلم الغيب ، ويطلع عليه من يصطفيه من خلقه ليكون رسولا ، ويحفظ الوحي بحراس حتى يبلغه الناس تاما والله يعلمه كذلك .
1 - قل يا - محمد - لأمتك : أوحى الله إلىَّ أن جماعة من الجن قد استمعوا إلى قراءتي للقرآن ، فقالوا لقومهم : إنا سمعنا قرآناً بديعاً لم نسمع مثله من قبل ، يدعو إلى الهدى والصواب ، فآمنا - بالقرآن الذي سمعناه - ولن نشرك مع ربنا - الذي خلقنا وربانا - أحداً في عبادته .
{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا }
أي : { قُلْ } يا أيها الرسول للناس { أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } صرفهم الله [ إلى رسوله ] لسماع آياته لتقوم عليهم الحجة [ وتتم عليهم النعمة ] ويكونوا نذرا{[1243]} لقومهم . وأمر الله رسوله أن يقص نبأهم على الناس ، وذلك أنهم لما حضروه ، قالوا : أنصتوا ، فلما أنصتوا فهموا معانيه ، ووصلت حقائقه إلى قلوبهم ، { فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } أي : من العجائب الغالية ، والمطالب العالية .
بسم الله الرحمن الرحيم قل أوحي إلي وقرىء أحي وأصله وحى من وحى إليه فقلبت الواو همزة لضمتها ووحى على الأصل وفاعله أنه استمع نفر من الجن والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة و الجن أجسام عاقلة خفية يغلب عليهم النارية أو الهوائية وقيل نوع من الأرواح المجردة وقيل نفوس بشرية مفارقة عن أبدانها وفيه دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله به رسوله فقالوا لما رجعوا إلى قومهم إنا سمعنا قرآنا كتابا عجبا بديعا مباينا لكلام الناس في حسن نظمه ودقة معناه وهو مصدر وصف به للمبالغة .
قرأ جمهور الناس «قل أوحي إلي » من أوحى يوحي . وقرأ أبو أُناس جوية بن عائذ : «قل أوحى إلي » ، من وحى يحي ووحى وأوحى ، بمعنى واحد ، وقال العجاج : «وحى لها القرار فاستقرت »{[11355]} . وقرأ أيضاً جوية فيما روى عنه الكسائي ، «قل أحي » أبدلت الواو همزة كما أبدلوها في وسادة وإسادة ، وغير ذلك وكذلك قرأ ابن أبي عبلة{[11356]} ، وحكى الطبري عن عاصم أنه كان يكسر كل ألف في السورة من «أن » و «إن » إلا قوله تعالى : { وأن المساجد لله } [ الجن : 18 ] . وحكي عن أبي عمرو أنه يكسر من أولها إلى قوله { وإن لو استقاموا على الطريقة } [ الجن : 16 ] فإنه كان يفتح همزة وما بعدها إلى آخر السورة . فعلى ما حكي يلزم أن تكون الهمزة مكسورة في قوله «إنه استمع » ، وليس ما ذكر بثابت . وذكر أبو علي الفارسي أن ابن كثير وأبا عمرو فتحا أربعة أحرف من السورة وكسرا غير ذلك { أنه استمع } ، { وإن لو استقاموا } [ الجن : 16 ] ، { وإن المساجد } [ الجن : 18 ] ، { وإنه لما قام } [ الجن : 19 ] ، وأن نافعاً وعاصماً في رواية أبي بكر والمفضل وافقا في الثلاثة وكسرا { وإنه لما قام } [ الجن : 19 ] مع سائر ما في السورة . وذكر أن ابن عامر وحمزة والكسائي كانوا يقرأون كل ما في السورة بالفتح إلا ما جاء بعد قول أو فاء جزاء ، وكذلك حفص عن عاصم ، فترتب إجماع القراء على فتح الألف من { أنه استمع } و «أن لو استقاموا » «وأن المساجد » . وذكر الزهراوي عن علقمة أنه كان يفتح الألف في السورة كلها . واختلف الناس في الفتح من هذه الألفات وفي الكسر اختلافاً كثيراً يطول ذكره وحصره وتقصي معانيه . قال أبو حاتم : أما الفتح فعلى { أوحي } ، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله . وأما الكسر فحكاية وابتداء وبعد القول . وهؤلاء النفر من الجن هم الذين صادفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ببطن نخلة في صلاة الصبح وهو يريد عكاظ{[11357]} . وقد تقدم قصصهم في سورة الأحقاف في تفسير قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن }{[11358]} [ الأحقاف : 29 ] .
وقول الجن : { إنا سمعنا } الآيات ، هو خطاب منهم لقومهم الذين ولوا إليهم منذرين ، و { قرآناً عجباً } معناه ذا عجب ، لأن العجب مصدر يقع من سامع القرآن لبراعته وفصاحته ومضمناته ، وليس نفس القرآن هو العجب .