{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا } منهم ، ولم يقل فبدلوا لأنهم لم يكونوا كلهم بدلوا { قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } فقالوا بدل حطة : حبة في حنطة ، استهانة بأمر الله ، واستهزاء وإذا بدلوا القول مع خفته فتبديلهم للفعل من باب أولى وأحرى ، ولهذا دخلوا يزحفون على أدبارهم ، ولما كان هذا الطغيان أكبر سبب لوقوع عقوبة الله بهم ، قال : { فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } منهم { رِجْزًا } أي : عذابا { مِنَ السَّمَاءِ } بسبب فسقهم وبغيهم .
يقول تعالى لائمًا لهم على نكولهم عن الجهاد ودخول{[1839]} الأرض المقدسة ، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى ، عليه السلام ، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل ، وقتال من فيها من العماليق الكفرة ، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا ، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم ، كما ذكره تعالى في سورة المائدة ؛ ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس ، كما نص على ذلك السدي ، والرّبيع بن أنس ، وقتادة ، [ وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } الآيات ]{[1840]} . [ المائدة : 21 - 24 ]
وقال آخرون : هي أريحا [ ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد ]{[1841]} وهذا بعيد ؛ لأنها ليست على طريقهم ، وهو قاصدون بيت المقدس لا أريحا [ وأبعد من ذلك قول من ذهب أنها مصر ، حكاه فخر الدين في تفسيره ، والصحيح هو الأول ؛ لأنها بيت المقدس ]{[1842]} . وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون ، عليه السلام ، وفتحها الله عليهم عشية جمعة ، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح ، وأما أريحا فقرية ليست مقصودة لبني إسرائيل ، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب - باب البلد - { سُجَّدًا } أي : شكرًا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ، وردّ بلدهم{[1843]} إليهم وإنقاذهم من التيه والضلال .
قال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله : { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } أي ركعا .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، وعن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } قال : ركعا{[1844]} من باب صغير .
رواه الحاكم من حديث سفيان ، به . ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان ، وهو الثوري ، به{[1845]} . وزاد : فدخلوا من قبل أستاههم .
[ وقال الحسن البصري : أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم ، واستبعده الرازي ، وحكى عن بعضهم : أن المراد بالسجود هاهنا الخضوع لتعذر حمله على حقيقته ]{[1846]} .
وقال خصيف : قال عكرمة ، قال ابن عباس : كان الباب قبل القبلة .
وقال [ ابن عباس و ]{[1847]} مجاهد ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك : هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس ، [ وحكى الرازي عن بعضهم أنه عن باب جهة من جهات القرية ]{[1848]} .
وقال خَصِيف : قال عكرمة : قال ابن عباس : فدخلوا على شق ، وقال السدي ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنُود ، عن عبد الله بن مسعود : وقيل لهم ادخلوا الباب سجدا ، فدخلوا مقنعي رؤوسهم ، أي : رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا .
وقوله : { وَقُولُوا حِطَّةٌ } قال الثوري عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَقُولُوا حِطَّةٌ } قال : مغفرة ، استغفروا .
وروي عن عطاء ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، نحوه .
وقال الضحاك عن ابن عباس : { وَقُولُوا حِطَّةٌ } قال : قولوا : هذا الأمر حق ، كما قيل لكم .
وقال عكرمة : قولوا : لا إله إلا الله .
وقال الأوزاعي : كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه يسأله عن قوله تعالى : { وَقُولُوا حِطَّةٌ }
وقال الحسن وقتادة : أي احطط عنا خطايانا .
{ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ } هذا جواب الأمر ، أي : إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضعفنا لكم الحسنات .
وحاصل الأمر : أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول ، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها ، والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب لله تعالى ، كما قال تعالى : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [ سورة النصر ] فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر ، وفسره ابن عباس بأنه نُعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها ، وأقره على ذلك عمر [ بن الخطاب ]{[1849]} رضي الله عنه . ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ، ونعي إليه روحه الكريمة أيضًا ؛ ولهذا كان عليه السلام يظهر عليه الخضوع جدًا عند النصر ، كما روي أنه كان يوم الفتح - فتح مكة - داخلا إليها من الثنية العليا ، وإنَّه الخاضع لربه حتى إن عُثْنونه ليمس مَوْرِك رحله ، يشكر الله على ذلك . ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضُحى ، فقال بعضهم : هذه صلاة الضحى ، وقال آخرون : بل هي صلاة الفتح ، فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلدًا أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله ، كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات ، والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم ؛ وقيل : يصليها كلها بتسليم واحد ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } قال البخاري : حدثني محمد ، حدثنا{[1850]} عبد الرحمن بن مَهْدي ، عن ابن المبارك ، عن مَعْمَر ، عن هَمَّام بن مُنَبّه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قيل لبني إسرائيل : { ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ } فدخلوا يزحفون على أستاههم ، فبدّلوا وقالوا : حطة : حبة في شعرة " {[1851]} .
ورواه النسائي ، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، عن{[1852]} عبد الرحمن بن مهدي به موقوفا{[1853]} وعن محمد بن عبيد بن محمد ، عن ابن المبارك ببعضه مسندًا ، في قوله تعالى : { حِطَّةٌ } قال : فبدلوا . فقالوا : حبة{[1854]} {[1855]} .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن هَمَّام بن مُنَبه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله لبني إسرائيل : { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } فبدلوا ، ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم ، فقالوا : حبة في شعرة{[1856]} " .
وهذا حديث صحيح ، رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ، ومسلم عن محمد بن رافع . والترمذي عن عبد بن حميد ، كلهم عن عبد الرزاق ، به{[1857]} . وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال محمد بن إسحاق : كان تبديلهم{[1858]} كما حدثني صالح بن كيسان ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة ، وعمن لا أتهم ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدًا - يزحفون على أستاههم ، وهم يقولون : حنطة في شعيرة " {[1859]} .
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح ، وحدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عبد الله بن وهب ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " قال الله لبني إسرائيل : { ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } ثم قال أبو داود : حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن هشام بن سعد ، مثله{[1860]} {[1861]} .
هكذا رواه منفردًا به في كتاب الحروف مختصرًا .
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إبراهيم بن مهدي ، حدثنا أحمد بن محمد بن المنذر القَزّاز ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن{[1862]} هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل ، أجَزْنا في ثنية{[1863]} يقال لها : ذات الحنظل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل : { ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ }{[1864]} .
وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } [ البقرة : 142 ] قال اليهود : قيل لهم : ادخلوا الباب سجدًا ، قال : ركعًا ، وقولوا : حطة : أي مغفرة ، فدخلوا على
أستاههم ، وجعلوا يقولون : حنطة حمراء فيها شعيرة{[1865]} ، فذلك قول الله تعالى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } .
وقال الثوري ، عن السدي ، عن أبي سعد الأزدي ، عن أبي الكَنود ، عن ابن مسعود : { وَقُولُوا حِطَّةٌ } فقالوا : حنطة حبة حمراء فيها شعيرة{[1866]} ، فأنزل الله : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }
وقال أسباط ، عن السدي ، عن مرة ، عن ابن مسعود أنه قال : إنهم قالوا : " هُطِّي سمعاتا أزبة مزبا " فهي بالعربية : حبة حنطة حمراء مثقوبة{[1867]} فيها شعرة سوداء ، فذلك قوله : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }
وقال الثوري ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : { ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } ركعًا من باب صغير ، فدخلوا{[1868]} من قبل أستاههم ، وقالوا : حنطة ، فهو قوله تعالى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }
وهكذا روي عن عطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ويحيى بن رافع .
وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر{[1869]} الله لهم من الخضوع بالقول والفعل ، فأمروا أن يدخلوا سجدًا ، فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رؤوسهم ، وأمروا أن يقولوا : حطة ، أي : احطط عنا ذنوبنا ، فاستهزؤوا فقالوا : حنطة في شعرة{[1870]} . وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ؛ ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم ، وهو خروجهم عن طاعته ؛ ولهذا قال : { فَأَنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }
وقال الضحاك عن ابن عباس : كل شيء في كتاب الله من " الرِّجْز " يعني به العذاب .
وهكذا روي عن مجاهد ، وأبي مالك ، والسدي ، والحسن ، وقتادة ، أنه العذاب . وقال أبو العالية : الرجز الغضب . وقال الشعبي : الرجز : إما الطاعون ، وإما البرد . وقال سعيد بن جبير : هو الطاعون .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وَكِيع ، عن{[1871]} سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن إبراهيم بن سعد - يعني ابن أبي وقاص - عن سعد بن مالك ، وأسامة بن زيد ، وخزيمة بن ثابت ، رضي الله عنهم ، قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطاعون رجْز عذاب عُذِّب{[1872]} به من كان قبلكم " {[1873]} .
وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به{[1874]} . وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت : " إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها " الحديث{[1875]} .
قال{[1876]} ابن جرير : أخبرني يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري ، قال : أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن هذا الوجع والسقم رجْز عُذِّب به بعض الأمم قبلكم " {[1877]} . وهذا الحديث أصله مخرَّج في الصحيحين ، من حديث الزهري ، ومن حديث مالك ، عن محمد بن المُنكَدِر ، وسالم أبي النضر ، عن عامر بن سعد ، بنحوه{[1878]} .
{ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم } بدلوا بما أمروا به من التوبة والاستغفار بطلب ما يشتهون من أعراض الدنيا .
{ فأنزلنا على الذين ظلموا } كرره مبالغة في تقبيح أمرهم وإشعارا بأن الإنزال عليهم لظلمهم بوضع غير المأمور به موضعه ، أو على أنفسهم بأن تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها .
{ رجزا من السماء بما كانوا يفسقون } عذابا مقدرا من السماء بسبب فسقهم ، والرجز في الأصل : ما يعاف عنه ، وكذلك الرجس . وقرئ بالضم وهو لغة فيه والمراد به الطاعون . روي أنه مات في ساعة أربعة وعشرون ألفا .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"الّذِينَ ظَلَمُوا": الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله.
"قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ": بدلوا قولاً غير الذي أمروا أن يقولوه، فقالوا خلافه، وذلك هو التبديل والتغيير الذي كان منهم. وكان تبديلهم بالقول الذي أمروا أن يقولوه قولاً غيره، ما
حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال اللّهُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: ادْخُلُوا البابَ سُجّدا وَقُولُوا حِطّةٌ نَغْفِرُ لَكُمْ خَطاياكُمْ، فَبدلُوا وَدَخَلُوا البابَ يَزْحَفُونَ على أسْتاهِهِمْ وقالُوا: حَبّةٌ في شَعِيرَةٍ». [وفي رواية]: حِنْطَةٌ فِي شَعِيرةٍ.
"فأنْزلْنا عَلى الّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزا مِنَ السمّاءِ".
" فأنْزَلْنا على الّذِينَ ظَلَمُوا": على الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله من تبديلهم القول الذي أمرهم الله جل وعزّ أن يقولوه قولاً غيره، ومعصيتهم إياه فيما أمرهم به وبركوبهم ما قد نهاهم عن ركوبه.
"رِجْزا مِنَ السمّاءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ": والرّجز في لغة العرب: العذاب، وهو غير الرّجْز، وذلك أن الرّجز: البَثْر، ومنه الخبر الذي رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعون أنه قال: «إنّهُ رِجْزٌ عُذّبَ بِهِ بَعْضُ الأمم الّذِينَ قَبْلَكُمْ»...
وحدثني أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا عمر بن حفص، قال: حدثنا أبي عن الشيباني عن رباح بن عبيدة، عند عامر بن سعد، قال: شهدت أسامة بن زيد عند سعد بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنّ الطّاعُونَ رِجْز أُنْزِلَ على مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ أوْ على بَنِي إسْرائيلَ».
قال ابن زيد: الرجز: العذاب، وكل شيء في القرآن رجز فهو عذاب.
وقد دللنا على أن تأويل الرجز: العذاب. وعذابُ الله جل ثناؤه أصناف مختلفة. وقد أخبر الله جل ثناؤه أنه أنزل على الذين وصفنا أمرهم الرجز من السماء، وجائز أن يكون ذلك طاعونا، وجائز أن يكون غيره، ولا دلالة في ظاهر القرآن ولا في أثر عن الرسول ثابت أيّ أصناف ذلك كان.
فالصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عزّ وجل: فأنْزَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزا مِنَ السّماءِ بفسقهم. غير أنه يغلب على النفس صحة ما قاله ابن زيد للخبر الذي ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الطاعون أنه رجز، وأنه عذّب به قوم قبلنا. وإن كنت لا أقول إن ذلك كذلك يقينا لأن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بيان فيه أيّ أمة عذّبت بذلك. وقد يجوز أن يكون الذين عذّبوا به كانوا غير الذين وصف الله صفتهم في قوله: "فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيرَ الذي قِيلَ لَهُمْ".
" بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ": وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى الفسق: الخروج من الشيء. فتأويل قوله: "بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ" إذا: بما كانوا يتركون طاعة الله عزّ وجلّ، فيخرجون عنها إلى معصيته وخلاف أمره.
{فبدل الذين ظلموا} إنما هو في القوم الذين قيل لهم: {ادخلوا الباب سُجَّدا وقولوا حطة}... رُوي عن ابن عباس وغيره من الصحابة وعن الحسن: إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى لفظ في ضد المعنى الذي أمروا به، إذ كانوا مأمورين بالاستغفار والتوبة فصاروا إلى الإصرار والاستهزاء، فأما من غير اللفظ مع اتفاق المعنى فلم تتناوله الآية إذ كانت الآية إنما تضمنت الحكاية عن فعل قوم غيروا اللفظ والمعنى جميعاً فألحق بهم الذم بهذا القول. وإنما يشاركهم في الذم من يشاركهم في الفعل مثلاً بمثل، فأما من غير اللفظ وأتى بالمعنى فلم تتضمنه الآية.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} أي وضعوا مكان حطة {قَوْلاً} غيرها. يعني أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار، فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به، ولم يمتثلوا أمر الله. وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ بعينه وهو لفظ الحطة فجاؤوا بلفظ آخر، لأنهم لو جاؤوا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به، لم يؤاخذوا به. كما لو قالوا مكان حطة: نستغفرك ونتوب إليك. أو اللَّهم اعف عنا وما أشبه ذلك. وقيل: قالوا مكان حطة: حنطة... استهزاء منهم بما قيل لهم، وعدولاً عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون من أغراض الدنيا. وفي تكرير {الذين ظَلَمُواْ} زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بأنّ إنزال الرجز عليهم لظلمهم.
أما قوله تعالى: {فبدل الذين ظلموا} ففيه قولان. الأول: قال أبو مسلم قوله تعالى: {فبدل} يدل على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به، لا على أنهم أتوا له ببدل، والدليل عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة، قال تعالى: {سيقول المخلفون من الأعراب} إلى قوله: {يريدون أن يبدلوا كلام الله} ولم يكن تبديلهم إلا الخلاف في الفعل لا في القول فكذا ههنا، فيكون المعنى أنهم لما أمروا بالتواضع وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله ولم يلتفتوا إليه. الثاني: وهو قول جمهور المفسرين: إن المراد من التبديل أنهم أتوا ببدل له لأن التبديل مشتق من البدل، فلابد من حصول البدل، وهذا كما يقال: فلان بدل دينه، يفيد أنه انتقل من دين إلى دين آخر، ويؤكد ذلك قوله تعالى: {قولا غير الذي قيل لهم}.
أما قوله تعالى: {الذين ظلموا} فإنما وصفهم الله بذلك إما لأنهم سعوا في نقصان خيراتهم في الدنيا والدين أو لأنهم أضروا بأنفسهم، وذلك ظلم على ما تقدم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} منهم، ولم يقل فبدلوا لأنهم لم يكونوا كلهم بدلوا {قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} فقالوا بدل حطة: حبة في حنطة، استهانة بأمر الله، واستهزاء وإذا بدلوا القول مع خفته فتبديلهم للفعل من باب أولى وأحرى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفائدة إظهار لفظ القول دون أن يقال فبدلوه، لدفع توهم أنهم بدلوا لفظ حطة خاصة وامتثلوا ما عدا ذلك، لأنه لو كان كذلك لكان الأمر هيناً. وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة أن القول الذي بدَّلوا به أنهم قالوا: حبة في شَعَرة أو في شعيرة...
وقوله: {فبدل الذين ظلموا} وقوله: {فأنزلنا على الذين ظلموا} اعتنى فيهما بالإظهار في موضع الإضمار ليعلم أن الرجز خص الذين بدَّلوا القول وهم العشرة الذين أشاعوا مذمة الأرض لأنهم كانوا السبب في شقاء أمة كاملة. وفي هذا موعظة وذكرى لكل من ينصب نفسه لإرشاد قوم ليكون على بصيرة بما يأتي ويذر وعلم بعواقب الأمور فمن البر ما يكون عقوقاً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ومن اللافت للنظر أيضاً أن القرآن يؤكد أن هذا العذاب نزل (عَلَى الَّذِينَ ظَلموا) فقط، ولم يشمل جميع بني إسرائيل.
ثم تذكر الآية تأكيداً آخر على سبب نزول العذاب على هذه المجموعة من بني إسرائيل بعبارة: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
والآية الكريمة بعد ذلك تبين بشكل غير مباشر سنة من سنن الله تعالى، هي أن الذنب حينما يتعمق في المجتمع ويصبح عادة اجتماعية، عند ذاك يقترب احتمال نزول العذاب الإِلهي.