البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوۡلًا غَيۡرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمۡ فَأَنزَلۡنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجۡزٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (59)

التبديل : تغيير الشيء بآخر .

تقول : هذا بدل هذا : أي عوضه ، ويتعدّى لاثنين ، الثاني أصله حرف جر : بدلت ديناراً بدرهم : أي جعلت ديناراً عوض الدرهم ، وقد يتعدّى لثلاثة فتقول : بدلت زيداً ديناراً بدرهم : أي حصلت له ديناراً عوضاً من درهم ، وقد يجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى ، قال تعالى : { فأولئك يبدّل الله سيئاتهم } أي يجعل لهم حسنات عوض السيئات ، وقد وهم كثير من الناس فجعلوا ما دخلت عليه الباء هو الحاصل ، والمنصوب هو الذاهب ، حتى قالوا : ولو أبدل ضاداً بظاء لم تصح صلاته ، وصوابه : لو أبدل ظاء بضاد .

الرجز : العذاب ، وتكسر راؤه وتضم ، والضم لغة بني الصعدات ، وقد قرئ بهما في بعض المواضع ، قال رؤبة :

كم رامنا من ذي عديد مبزي *** حتى وقينا كيده بالرجز

والرجز ، بالضم : اسم صنم مشهور ، والرجزاء : ناقة أصاب عجزها داء ، فإذا نهضت ارتعشت أفخاذها ، قال الشاعر :

هممت بخير ثم قصرت دونه *** كما ناءت الرجزاء شدّ عقالها

قيل : الرجز مشتق من الرجازة ، وهي صوف تزين به الهوادج ، كأنه وسمهم ، قال الشاعر :

ولو ثقفاها ضرجت بدمائها *** كما ضرجت نضو القرام الرجائز

{ فبدّل الذين ظلموا } : ظاهره انقسامهم إلى ظالمين وغير ظالمين ، وأن الظالمين هم الذين بدلوا ، فإن كان كلهم بدلوا ، كان ذلك من وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بالعلة ، وكأنه قيل : فبدّلوا ، لكنه أظهره تنبيهاً على علة التبديل ، وهو الظلم ، أي لولا ظلمهم ما بدلوا ، والمبدّل به محذوف تقديره : فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة .

{ قولاً غير الذي قيل لهم } : ولما كان محذوفاً ناسب إضافة غير إلى الاسم الظاهر بعدها .

والذي قيل لهم هو أن يقولوا حطة ، فلو لم يحذف لكان وجه الكلام فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة قولاً غيره ، لكنه لما حذف أظهر مضافاً إليه غير ليدل ، على أن المحذوف هو هذا المظهر ، وهو الذي قيل لهم .

وهذا التقدير الذي قدرناه هو على وضع بدل إذ المجرور هو الزائل ، والمنصوب هو الحاصل .

واختلف المفسرون في القول الذي قالوه بدل أن يقولوا : حطة ، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد ووهب وابن زيد : حنطة ، وقال السدّي عن أشياخه : حنطة حمراء ، وقيل : حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة سوداء ، وقال أبو صالح : سنبلة ، وقال السدّي ومجاهد أيضاً : هطا شمهاثاً ، وقيل : حطى شمعاثاً ، ومعناها في هذين القولين : حنطة حمراء ، وقيل : حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة .

وقيل : حبة في شعيرة ، وقال ابن مسعود : حنطة حمراء فيها شعير ، وقيل : حنطة في شعير ، رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقيل : حبة حنطة مقلوة في شعرة ، وقيل : تكلموا بكلام النبطية على جهة الاستهزاء والاستخفاف .

وقيل : إنهم غيروا ما شرع لهم ولم يعملوا بما أنزل الله عليهم .

والذي ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر ذلك بأنهم قالوا : حبة في شعرة ، فوجب المصير إلى هذا القول واطراح تلك الأقوال ، ولو صح شيء من الأقوال السابقة لحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين ، فيكون بعضهم قال : كذا ، وبعضهم قال : كذا ، فلا يكون فيها تضاد .

ومعنى الآية : أنهم وضعوا مكان ما أمروا به من التوبة والاستغفار قولاً مغايراً له مشعراً باستهزائهم بما أمروا به ، والإعراض عما يكون عنه غفران خطيآتهم .

كل ذلك عدم مبالاة بأوامر الله ، فاستحقوا بذلك النكال .

{ فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً } : كرر الظاهر السابق زيادة في تقبيح حالهم وإشعاراً بعلية نزول الرجز .

وقد أضمر ذلك في الأعراف فقال : { فأرسلنا عليهم } ، لأن المضمر هو المظهر .

وقرأ ابن محيصن : رجزاً بضم الراء ، وقد تقدّم أنها بالغة في الرجز .

واختلفوا في الرجز هنا ، فقال أبو العالية : هو غضب الله تعالى ، وقال ابن زيد : طاعون أهلك منهم في ساعة سبعين ألفاً ، وقال وهب : طاعون عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا بعد ذلك ، وقال ابن جبير : ثلج هلك به منهم سبعون ألفاً ، وقال ابن عباس : ظلمة وموت مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفاً وهلك سبعون ألفاً عقوبة .

والذي يدل عليه القرآن أنه أنزل عليهم عذاب ولم يبين نوعه ، إذ لا كبير فائدة في تعليق النوع .

{ من السماء } : إن فسر الرجز بالثلج كان كونه من السماء ظاهراً ، وإن فسر بغيره فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء عليهم ، أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء .

{ بما كانوا } ، ما : مصدرية التقدير بكونهم .

{ يفسقون } .

وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى الذي ، وهو بعيد .

وقرأ النخعي وابن وثاب وغيرهما بكسر السين ، وهي لغة .

قال أبو مسلم : هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله : { على الذين ظلموا } .

وفائدة التكرار التأكيد ، لأن الوصف دال على العلية ، فالظاهر أن التبديل سببه الظلم ، وأن إنزال الرجز سببه الظلم أيضاً .

وقال غير أبي مسلم : ليس مكرر الوجهين : أحدهما : أن الظلم قد يكون من الصغائر ، { ربنا ظلمنا } ، ومن الكبائر : { إن الشرك لظلم عظيم } والفسق لا يكون إلا من الكبائر .

فلما وصفهم بالظلم أوّلاً وصفهم بالفسق الذي هو لا بد أن يكون من الكبائر .

والثاني : أنه يحتمل أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل ونزول الرجز عليهم من السماء ، لا بسبب ذلك التبديل بل بالفسق الذي فعلوه قبل ذلك التبديل ، وعلى هذا يزول التكرار . انتهى .

.

وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى : { فبدّل الذين ظلموا } ، وترتيب العذاب على هذا التبديل على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر .

وقال قوم : يجوز ذلك إذا كانت الكلمة تسدّ سدّها ، وعلى هذا جرى الخلاف في قراءة القرآن بالمعنى ، وفي تكبيرة الإحرام ، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك ، وفي نقل الحديث بالمعنى .

وذكروا أن في الآية سؤالات : الأول : قوله هنا ، { وإذ قلنا } ، وفي الأعراف : { وإذ قيل } وأجيب بأنه صرح بالفاعل في البقرة لإزالة الإبهام ، وحذف في الأعراف للعلم به في سورة البقرة .

الثاني : قال هنا : ادخلوا ، وهناك اسكنوا .

وأجيب بأن الدخول مقدّم على السكنى ، فذكر الدخول في السورة المتقدّمة .

والسكنى في المتأخرة .

الثالث : هنا خطاياكم ، وهناك : خطيئتكم .

وأجيب بأن الخطايا جمع كثرة ، فناسب حيث قرن به ما يليق بجوده ، وهو غفران الكثير .

والخطيئات جمع قلة لما لم يضف ذلك إلى نفسه .

الرابع : ذكر هنا : رغداً وهناك : حذف .

وأجيب بالجواب قبل .

الخامس : هنا قدم دخول الباب على القول ، وهناك عكس .

وأجيب بأن الواو للجمع والمخاطبون بهذا مذنبون .

فاشتغاله بحط الذنب مقدّم على اشتغاله بالعبادة ، فكلفوا بقول حطة أولاً ، ثم بالدخول وغير مذنبين .

فاشتغاله أولاً بالعبادة ثم بذكر التوبة ثانياً على سبيل هضم النفس وإزالة العجب ، فلما احتمل الانقسام ذكر حكم كل واحد منهما في سورة بأيهما بدأ .

السادس : إثبات الواو في وسنزيد هنا ، وحذفها هناك .

وأجيب بأنه لما تقدم أمران كإن المجيء بالواو مؤذناً بأن مجموع الغفران والزيادة جزاء واحد لمجموع الأمرين ، وحيث تركت أفاد توزع كل واحد على كل واحد من الأمرين ، فالغفران في مقابلة القول ، والزيادة في مقابلة ادخلوا .

السابع : لم يذكر ههنا منهم وذكر هناك .

وأجيب بأن أول القصة في الأعراف مبني على التخصيص بلفظ من قال : { ومن قوم موسى أمة } فذكر لفظ من آخراً الياطبق آخره أوله ، وهنا لم تبن القصة على التخصيص .

الثامن : هنا فأنزلنا ، وهناك : فأرسلنا .

وأجيب بأن الإنزال مفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية ، وهذا إنما يحدث بالآخر .

التاسع : هنا : يفسقون ، وهناك : يظلمون .

وأجيب بأنه لما بين هنا كون ذلك الظلم فسقاً اكتفى بذكر الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان هنا .

قال بعض الناس : بنو إسرائيل خالفوا الله في قول وفعل ، وأخبر تعالى بالمجازاة على المخالفة بالقول دون الفعل ، وهو امتناعهم عن الدخول بصفة السجود .

وأجاب بأن الفعل لا يجب إلا بأمر ، والأمر قول فحصل بالمجازاة عن القول المجازاة بالأمرين جميعاً ، والجزاء هنا إن كان قد وقع على هذه المخالفة الخاصة ، فيفسقون يحتمل الحال ، وإن كان قد وقع على ما مضى من المخالفات التي فسقوا بها ، فهو مضارع وقع موضع الماضي ، وهو كثير في القرآن وفصيح الكلام .

/خ61