نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوۡلًا غَيۡرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمۡ فَأَنزَلۡنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجۡزٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (59)

ولمّا كان هذا التصريح بالترغيب المتضمن للتلويح بالترهيب مقتضياً للعاقل المبادرة إلى الطاعة بين أنه تسبب عنه أن بعضهم عصوا وكفروا هذه النعمة العظيمة ولم يقتصروا على ترك هذا الأمر بل بدلوه بدخولهم كما في الحديث " يزحفون{[2553]} على أستاههم{[2554]} قائلين : حبة في شعرة " أي جنس الحب في جنس الشعرة أي في الغرائر مطلوبنا لا الحطة{[2555]} وهي غفران الذنوب . قال الحرالي : أمروا بالإخلاص لله نظراً إلى حياة قلوبهم فطلبوا الحنطة نظراً إلى حياة جسومهم فقال تعالى { فبدل } من التبديل{[2556]} وهو تعويض {[2557]}شيء مكان شيء - انتهى .

{ الذين ظلموا } وأسقط : منهم ، لما يأتي في الأعراف{[2558]} { قولاً } أي مكان القول الذي أمروا به .

ولما كان التبديل وإن كان يفهم التغيير{[2559]} لكنه يصدق بأدنى تغيير{[2560]} ولو أنه في اللفظ وإن اتّحد المعنى بيّن أنه مضاد له بحيث لا يمكن اجتماعهما بقوله{[2561]} : { غير الذي قيل لهم } {[2562]}فإن غيراً كما{[2563]} قال الحرالي كلمة تفهم انتفاء وإثبات ضد ما انتفى ، وقال : ذكر{[2564]} تعالى عدولهم عن كل ذلك{[2565]} واشتغالهم ببطونهم وعاجل دنياهم فطلبوا طعام بطونهم التي قد{[2566]} فرغ منها التقدير وأظهر لهم الغناء عنها في حال التيه بإنزال المن والسلوى إظهاراً لبلادة طباعهم وغلبة حب العاجلة عليهم فبدلوا كلمة التوحيد وهي لا إله إلاّ الله وهي الحطة بطلب الحنطة

{ ولو أنهم{[2567]} أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم{[2568]} لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم }[ المائدة : 66 ]

{ ولو أن أهل القرى{[2569]} أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض }[ الأعراف : 96 ] " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل {[2570]}ما أعطي السائلين " انتهى .

وبيّن{[2571]} أنه خصّ المبدلين بالعتاب{[2572]} نعمة منه مع أن له أن يعم فقال{[2573]} { فأنزلنا } أي بعظمتنا بسبب ذلك { على الذين ظلموا } أي خاصة { رجزاً } قال الحرالي : هو أشد العذاب ، وما جره{[2574]} أيضاً يسمى{[2575]} رجزاً مما يجب أن يزجر عنه والزجر كف البهائم عن عدواها - انتهى . ولما كان الإنزال مفهماً للسماء حققه تعظيماً له بقوله : { من السماء بما } أي بسبب ما { كانوا يفسقون * } أي يجددون الخروج من الطاعة إلى المعصية في كل وقت . ففي إفهامه أنهم يعودون إلى الطاعة بعد الخروج منها وذلك مقتض لأن يكون يظلمون أشد منه كما يأتي . قال الحرالي : فبحق يجب على من دخل من باب جبل أو قرية أن يقول في وصيدها{[2576]} : لا إله إلاّ الله ، ليحط عنه ماضي ذنوبه ، فكأنّ ذكر الله في باب المدينة والشعب ذكاة لذلك المدخل ، فمن لم يدخله مذكياً دخله فاسقاً { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق{[2577]} }[ الأنعام : 121 ] فلذلك ما{[2578]} انختم ذكرهم في{[2579]} الآية بالفسق{[2580]} - انتهى .


[2553]:في م: يرجفون.
[2554]:في م: أشباههم.
[2555]:زيد في ظ: فإن غيرا كما – كذا.
[2556]:التبديل تغيير الشيء بآخر، تقول: هذا بدل هذا، أي عوضه ويتعدى لا ثنين الثاني أصله حرف جر، بدلت دينارا بدرهم أي حصلت له دينارا عوضا من درهم "الذين ظلموا" ظاهره انقسامهم إلى ظالمين وغير ظالمين وأن الظالمين هم الذين بدلوا، فإن كان كلهم بدلوا كان ذلك من وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بالعلة وكأنه قيل: فبدلوا، لكنه أظهره تنبيها على علة التبديل وهو الظلم أي لو ظلمهم ما بدلوا، والمبدل به محذوف، تقديره: فبدل الذين ظلموا بقولهم حطة – البحر المحيط 1 / 224.
[2557]:في م: تعريض.
[2558]:زيد في م ومد: إن شاء الله تعالى
[2559]:في م: التعبير.
[2560]:في م: تعبير
[2561]:. قال أبو البركات النسفي: فيه حذف وتقدير: فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولا غير الذي قيل لهم: فبدل إلى مفعول واحد بنفسه وإلى آخر بالباء، فالذي مع الباء متروك والذي بغيرها موجود، يعني وضعوا مكان حطة قولا غيرها أي أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ولم يمتثلوا أمر الله، وقيل: قالوا مكان حطة: حنطة، وقيل: قالوا بالنبطية: حطت سمقاثا، أي حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم وعدولا عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون من أعراض الدنيا – انتهى. وذكر أبو حيان الأندلسي أقوال المفسرين في القول الذي قالوه بدل أن يقولوا: حطة ثم قال: والذي ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر ذلك بأنهم قالوا: حبة في شعرة، فوجب المصير إلى هذا القول واطراح تلك الأقوال، ولو صح شيء من الأقوال السابقة لحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين فيكون بعضهم قال كذا وبعضهم قال كذا فلا يكون فيها تضاد؛ وكل ذلك عدم مبالاة بأوامر الله فاستحقوا بذلك النكال – انتهى كلامه.
[2562]:ليس في ظ، ووقع في م: لكميا – مصحفا.
[2563]:ليس في ظ، ووقع في م: لكميا - مصحفا.
[2564]:ليس في ظ.
[2565]:في م: ذنب.
[2566]:ليس في م.
[2567]:في الأصول: آمنوا واتقوا – كذا راجع القرآن الكريم سورة 5 آية 66.
[2568]:في الأصول: آمنوا واتقوا – كذا، راجع القرآن الكريم سورة 5 آية 66
[2569]:في الأصول: الكتاب راجع القرآن الكريم سورة 7 آية 96.
[2570]:ليس في م.
[2571]:كتب في الأصل فوقه: سبحانه
[2572]:في ظ وم ومد: بالعقاب.
[2573]:قال أبو حيان: كرر الظاهر السابق زيادة في تقبيح حالهم وإشعارا بعلية نزول الرجز - وبعد ذكر ما قيل في الرجز من الأقوال قال: والذي يدل عليه القرآن أنه أنزل عليهم عذاب ولم يبين نوعه إذلا كبير فائدة في تعليق النوع. أما الرجز لغة العذاب وتكسر راؤه وتضم، قيل الرجز مشتق من الرجازة وهي صوف تزين به الهوادج كأنه وسمهم، قال الشاعر: ولو تقفاها ضرجت بدمائها كما ضرجت نضو القرام الرجائز. "من السماء" إن فسر الرجز بالثلج كان كونه من السماء ظاهرا، وإن فسر بغيره فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء عليهم أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء – 1 هـ. وقال البيضاوي: عذابا مقدرا من السماء بسبب فسقهم، والرجز في الأصل ما يعاف عنه، وكذلك الرجس، والمراد به الطاعون روى أنه مات في ساعة أربعة وعشرون ألفا.
[2574]:في م: جزه.
[2575]:في م: نسمي.
[2576]:في م: وعيدها، وهو خطأ.
[2577]:سورة 6 آية 121.
[2578]:كذا في الأصول: والظاهر أن كلمة "ما" زائدة.
[2579]:زيد في ظ: هذه.
[2580]:قال أبو مسلم: هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله "على الذين ظلموا" وفائدة التكرار التأكيد لأن الوصف دال على العلية، فالظاهر أن التبديل سببه الظلم أن إنزال الرجز سببه الظلم أيضا. وقال غير أبي مسلم: ليس مكرر الوجهين: أحدهما أن الظلم قد يكون من الصغائر "ربنا ظلمنا" ومن الكبائر "إن الشرك لظلم عظيم" والفسق لا يكون إلا من الكبائر فلما وصفهم بالظلم أولا وصفهم بالفسق الذي هو لا بد أن يكون من الكبائر، والثاني أنه يحتمل أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل ونزول الرجز عليهم من السماء لا بسبب ذلك التبديل بل بالفسق الذي فعلوه قبل ذلك التبديل على هذا يزول التكرار –انتهى ما قاله أبو حيان في البحر المحيط1 / 224 ثم ذكر احتجاج بعض الناس أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغيره ولا تبديله بلفظ آخر وقال قوم: يجوز ذلك، فالتفصيل يطلب فيه.