غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوۡلًا غَيۡرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمۡ فَأَنزَلۡنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجۡزٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (59)

58

قوله تعالى { فبدّل الذين ظلموا } قال أبو البقاء : التقدير فبدلوا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم . يتعدى إلى مفعولين : واحد بنفسه والآخر بالباء . والذي مع الباء يكون هو المتروك ، والذي بغير باء هو الموجود . ويجوز أن يكون { بدل } بمعنى " قال " ، لأن تبديل القول يكون بقول . والمعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ولم يمتثلوا أمر الله . وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ معين وهو لفظ حطة فجاءوا بلفظ آخر ، لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به لم يأخذوا به ، كما لو قالوا مكان حطة نستغفرك ونتوب إليك ، أو اللهم اعف عنا ونحو ذلك . وقيل : قالوا مكان حطة حنطة . وقيل : قالوا بالنبطية والنبط قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين حطاً سمقاثاً أي حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم ، وعدولاً عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ، فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا : حبة في شعرة " .

وفي تكرير { الذين ظلموا } ووضع المظهر موضع المضمر ، زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم ، وهو أن وضعوا غير ما أمروا به مكان ما أمروا به . والرجز العذاب . عن ابن عباس : مات بالفجأة منهم أربعة وعشرون ألفاً في ساعة واحدة . وقال ابن زيد : بعث الله عليهم الطاعون حتى مات من الغداة إلى العشي عشرون ألفاً . وقيل : سبعون ألفاً .

ومعنى { من السماء } يحتمل أن يكون شيئاً نازلاً من جهة العلو كريح ونحوه ، ويحتمل أن يراد من قبل الأمر النازل من عند الله تفظيعاً لشأن العذاب . والفسق هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته بارتكاب الكبيرة ، فالمراد { بما كانوا يفسقون } إما الظلم المذكور وفائدة التكرار التأكيد ، وإما أن يراد أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل . ونزول الرجز عليهم من السماء بالفسق الذي كانوا يفعلون قبل ذلك التبديل مستمراً إلى أوان هذا الظلم ، وهذا أظهر لزوال التكرير ، ولأن لفظة { كانوا } تنبئ عن خصلة مستمرة ، والخصلة الواحدة المعينة لا يتصور فيها الاستمرار . فلو كان المراد ذلك لقيل بما فسقوا .

وربما احتج أصحاب الشافعي بقوله تعالى { فبدل الذين ظلموا } أنه لا يجوز تحريم الصلاة بلفظ التحميد والتعظيم والتسبيح ، ولا تجوز القراءة بالفارسية ، وكذا لا يجوز تبديل ما ورد به التوقيف من الأذكار بغيرها . وأجيب بأنهم إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى قول آخر يضاد معناه معنى الأول ، فلا جرم استوجبوا الذم . فأما من غير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك . ورد بأن ظاهر الآية يتناول كل من بدل قولاً بقول آخر سواء اتفق القولان في المعنى أم لم يتفقا .

( أسئلة ) لم قال في " البقرة " { وإذ قلنا } وفي " الأعراف " { وإذ قيل } لأنه صرح بالقائل في أول القرآن إزالة للإبهام ، ولأن الكلام مرتب على قوله { اذكروا نعمتي } وفي " الأعراف " لم يبق الإبهام . ولم قال ههنا { ادخلوا } وهناك { اسكنوا } ؟ لأن الدخول مقدم على السكون ، " والبقرة " مقدمة في الذكر على " الأعراف " . ولم قال في " البقرة " { فكلوا } وفي " الأعراف " { وكلوا } بالواو ؟ لما بينا في قوله { وكلا منها رغداً } . ولم قال في " البقرة " { خطاياكم } وفي " الأعراف " { خطيئاتكم } ؟ لأن الخطايا جمع الكثرة ، والخطيئات جمع السلامة للقلة ، وقد أضاف القول ههنا إلى نفسه فكان اللائق بكرمه غفران الذنوب الكثيرة ، وهناك لم يذكر الفاعل فلم يكن ذكر اللفظ الدال على الكثرة واجباً . ولمثل هذا الجواب ذكر ههنا { رغداً } ليدل على الإنعام الأتم ، ولم يذكر في " الأعراف " ، ولم قال ههنا { وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة } وفي " الأعراف " بالعكس ؟ لأن الواو للجمع المطلق ، ولأن المخاطبين صنفان : محسن ومذنب . واللائق بالمحسن تقدم العبادة والخضوع ، ثم ذكر التوبة على سبيل هضم النفس وإزالة العجب . واللائق بالمسيء عكس ذلك ، ولأنه ذكر في هذه السورة { ادخلوا هذه القرية } فقدم كيفية الدخول . ولم قال في " البقرة " { وسنزيد } وفي " الأعراف " { سنزيد } ؟ لأنه في " الأعراف " ذكر أمرين : قول الحطة وهو إشارة إلى التوبة ، ودخول الباب وهو إشارة إلى العبادة . ثم ذكر جزئين أحدهما الغفران والآخر الزيادة ، فترك الواو ليفيا توزيع الجزئين على الشرطين . وفي " البقرة " وقع مجموع المغفرة والزيادة جزاء لمجموع الفعلين ، أعني دخول الباب وقول الحطة ، فاحتيج إلى الواو وأيضاً الاتصال اللفظي حاصل في هذه السورة بين قوله { وإذ قلنا } وبين قوله { وسنزيد } بخلاف " الأعراف " لأن اللائق به في الظاهر سيزاد ، فحذف الواو ليكون استئنافاً للكلام . وما الفائدة في زيادة كلمة { منهم } في الأعراف ؟ لأن أول القصة مبني على التخصيص { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } [ الأعراف : 159 ] فذكر أن منهم من يفعل ذلك ، ثم عدد صنوف إنعامه وأوامره عليهم ، فلما انتهت القصة قال { فبدل الذين ظلموا منهم } فهناك ذكر أمة عادلة وأمة جائرة فصار آخر الكلام مطابقاً لأوله ، وأما في البقرة فلم يذكر في أول الآيات تمييزاً وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة مثل ذلك . لم قال في " البقرة " { فأنزلنا } وفي " الأعراف " { فأرسلنا } لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية ، وذلك إنما يحدث بالآخرة . وقيل : لأن لفظ الإرسال في " الأعراف " أكثر فَرُوعي التناسب . لم قال في " البقرة " { بما كانوا يفسقون } وفي " الأعراف " { يظلمون } لأنه لما بين في البقرة كون الظلم فسقاً اكتفى بذلك البيان في " الأعراف " . وأيضاً إنهم ظلموا أنفسهم وخرجوا عن طاعة الله تعالى ، فوصفهم بالأمرين في موضعين والله أعلم .