قوله تعالى { فبدّل الذين ظلموا } قال أبو البقاء : التقدير فبدلوا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم . يتعدى إلى مفعولين : واحد بنفسه والآخر بالباء . والذي مع الباء يكون هو المتروك ، والذي بغير باء هو الموجود . ويجوز أن يكون { بدل } بمعنى " قال " ، لأن تبديل القول يكون بقول . والمعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ولم يمتثلوا أمر الله . وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ معين وهو لفظ حطة فجاءوا بلفظ آخر ، لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به لم يأخذوا به ، كما لو قالوا مكان حطة نستغفرك ونتوب إليك ، أو اللهم اعف عنا ونحو ذلك . وقيل : قالوا مكان حطة حنطة . وقيل : قالوا بالنبطية والنبط قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين حطاً سمقاثاً أي حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم ، وعدولاً عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ، فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا : حبة في شعرة " .
وفي تكرير { الذين ظلموا } ووضع المظهر موضع المضمر ، زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم ، وهو أن وضعوا غير ما أمروا به مكان ما أمروا به . والرجز العذاب . عن ابن عباس : مات بالفجأة منهم أربعة وعشرون ألفاً في ساعة واحدة . وقال ابن زيد : بعث الله عليهم الطاعون حتى مات من الغداة إلى العشي عشرون ألفاً . وقيل : سبعون ألفاً .
ومعنى { من السماء } يحتمل أن يكون شيئاً نازلاً من جهة العلو كريح ونحوه ، ويحتمل أن يراد من قبل الأمر النازل من عند الله تفظيعاً لشأن العذاب . والفسق هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته بارتكاب الكبيرة ، فالمراد { بما كانوا يفسقون } إما الظلم المذكور وفائدة التكرار التأكيد ، وإما أن يراد أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل . ونزول الرجز عليهم من السماء بالفسق الذي كانوا يفعلون قبل ذلك التبديل مستمراً إلى أوان هذا الظلم ، وهذا أظهر لزوال التكرير ، ولأن لفظة { كانوا } تنبئ عن خصلة مستمرة ، والخصلة الواحدة المعينة لا يتصور فيها الاستمرار . فلو كان المراد ذلك لقيل بما فسقوا .
وربما احتج أصحاب الشافعي بقوله تعالى { فبدل الذين ظلموا } أنه لا يجوز تحريم الصلاة بلفظ التحميد والتعظيم والتسبيح ، ولا تجوز القراءة بالفارسية ، وكذا لا يجوز تبديل ما ورد به التوقيف من الأذكار بغيرها . وأجيب بأنهم إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى قول آخر يضاد معناه معنى الأول ، فلا جرم استوجبوا الذم . فأما من غير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك . ورد بأن ظاهر الآية يتناول كل من بدل قولاً بقول آخر سواء اتفق القولان في المعنى أم لم يتفقا .
( أسئلة ) لم قال في " البقرة " { وإذ قلنا } وفي " الأعراف " { وإذ قيل } لأنه صرح بالقائل في أول القرآن إزالة للإبهام ، ولأن الكلام مرتب على قوله { اذكروا نعمتي } وفي " الأعراف " لم يبق الإبهام . ولم قال ههنا { ادخلوا } وهناك { اسكنوا } ؟ لأن الدخول مقدم على السكون ، " والبقرة " مقدمة في الذكر على " الأعراف " . ولم قال في " البقرة " { فكلوا } وفي " الأعراف " { وكلوا } بالواو ؟ لما بينا في قوله { وكلا منها رغداً } . ولم قال في " البقرة " { خطاياكم } وفي " الأعراف " { خطيئاتكم } ؟ لأن الخطايا جمع الكثرة ، والخطيئات جمع السلامة للقلة ، وقد أضاف القول ههنا إلى نفسه فكان اللائق بكرمه غفران الذنوب الكثيرة ، وهناك لم يذكر الفاعل فلم يكن ذكر اللفظ الدال على الكثرة واجباً . ولمثل هذا الجواب ذكر ههنا { رغداً } ليدل على الإنعام الأتم ، ولم يذكر في " الأعراف " ، ولم قال ههنا { وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة } وفي " الأعراف " بالعكس ؟ لأن الواو للجمع المطلق ، ولأن المخاطبين صنفان : محسن ومذنب . واللائق بالمحسن تقدم العبادة والخضوع ، ثم ذكر التوبة على سبيل هضم النفس وإزالة العجب . واللائق بالمسيء عكس ذلك ، ولأنه ذكر في هذه السورة { ادخلوا هذه القرية } فقدم كيفية الدخول . ولم قال في " البقرة " { وسنزيد } وفي " الأعراف " { سنزيد } ؟ لأنه في " الأعراف " ذكر أمرين : قول الحطة وهو إشارة إلى التوبة ، ودخول الباب وهو إشارة إلى العبادة . ثم ذكر جزئين أحدهما الغفران والآخر الزيادة ، فترك الواو ليفيا توزيع الجزئين على الشرطين . وفي " البقرة " وقع مجموع المغفرة والزيادة جزاء لمجموع الفعلين ، أعني دخول الباب وقول الحطة ، فاحتيج إلى الواو وأيضاً الاتصال اللفظي حاصل في هذه السورة بين قوله { وإذ قلنا } وبين قوله { وسنزيد } بخلاف " الأعراف " لأن اللائق به في الظاهر سيزاد ، فحذف الواو ليكون استئنافاً للكلام . وما الفائدة في زيادة كلمة { منهم } في الأعراف ؟ لأن أول القصة مبني على التخصيص { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } [ الأعراف : 159 ] فذكر أن منهم من يفعل ذلك ، ثم عدد صنوف إنعامه وأوامره عليهم ، فلما انتهت القصة قال { فبدل الذين ظلموا منهم } فهناك ذكر أمة عادلة وأمة جائرة فصار آخر الكلام مطابقاً لأوله ، وأما في البقرة فلم يذكر في أول الآيات تمييزاً وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة مثل ذلك . لم قال في " البقرة " { فأنزلنا } وفي " الأعراف " { فأرسلنا } لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية ، وذلك إنما يحدث بالآخرة . وقيل : لأن لفظ الإرسال في " الأعراف " أكثر فَرُوعي التناسب . لم قال في " البقرة " { بما كانوا يفسقون } وفي " الأعراف " { يظلمون } لأنه لما بين في البقرة كون الظلم فسقاً اكتفى بذلك البيان في " الأعراف " . وأيضاً إنهم ظلموا أنفسهم وخرجوا عن طاعة الله تعالى ، فوصفهم بالأمرين في موضعين والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.