اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوۡلًا غَيۡرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمۡ فَأَنزَلۡنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجۡزٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (59)

قوله : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } .

لا بُدّ في هذا الكلام من تأويل ؛ إذ الذّم إنما يتوجه عليهم إذا بدّلوا القول الذي قيل لهم ، لا إذا بدَّلوا قولاً غيره .

فقيل : تقديره : فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم ف " بدّل " يتعدّى لمفعول واحد بنفسه ، وإلى آخر بالباء ، والمجرور بها هو المتروك ، والمنصوب هو الموجود ، كقول أبي النجم : [ الرجز ]

517- وَبُدِّلَتْ والدَّهْرُ ذُو تَبَدُّلِ *** هَيْفاً دَبُوراً بِالصَّبَا وَالشَّمْأَلِ

فالمتطوع عنها الصَّبا ، والحاصل لها الهَيْفُ .

قاله أبو البقاء وقال يجوز أن يكون " بدل " محمولاً على المعنى ، تقديره : فقال الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم ؛ لأن تبديل القول كان بقول " فَنَصْبُ " غير عنده في هذين القولين على النِّعت ل " قولاً " .

وقيل : تقديره : فبدل الذين قولاً بغير الذي ، فحذف الحرف ، فانتصب " غير " .

ومعنى التَّبْديل : التغيير كأنه قيل : فغيروا قولاً بغيره ، أي جَاءُوا بقول آخر ، فكان القول الذي أمروا به ، كما يروا في القصّة أنهم قالوا : بدل حطّة حِنْطَة .

والإبْدَال والتبديل والاستبدال : جعل الشيء مكان آخر ، وقد يقال : التبديل : التغيير ، وإن لم يأت ببدله .

وقد تقدم الفرق بين بدل وأَبْدَلَ ، وهو أن بدّل بمعنى غيّر من غَيْر إزالة العين ، وأبدل تقتضي إزالة العين ، إلا أنه قرئ : { عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا }

[ القلم : 32 ] { فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } [ الكهف : 81 ] بالوجهين ، وهذا يقتضي اتِّحَادهما معنى لا اختلافهما والبديل والبدل بمعنى واحد ، وبدله غيره .

ويقال : بِدْل وَبَدل كَشِبْه وَشَبَه ، وَمِثْل وَمَثَل ، وَنِكْل وَنَكَل [ قال أبو عُبَيْدة : لم يسمع في فِعْل وفَعَل غير هذه الأربعة أحرف ] .

فصل في بيان التبديل

قال أبو مُسْلم : قوله : " فبدّل " يدلّ على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به لأجل أنهم أتوا له ببدل ، ويدلّ عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المُخَالفة ، قال تعالى : " سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ " إلى قوله : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ }

[ الفتح : 15 ] ولم يكن تبديلهم الخلاف في الفعل لا في القول ، فكذا هاهنا لما أمروا بالتواضع ، وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله .

وقال جمهور المفسرين : إنَّ المراد بالتبديل أنهم أتوا ببدل له ؛ لأن التبديل مشتقّ من البدل ، فلا بُدّ من حصول البدل ، كما يقال : بدّل دِيْنَهُ أي : انتقل من دِيْنٍ إلى دين ، ويؤيده قوله تعالى : { قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } .

فصل في الباعث على تبديلهم

وقوله : " الَّذِيْنَ ظَلَمُوا " تنبيه على أن الباعث لهم على التبديل هو الظلم ، واختلفوا هل هو مُطْلق الظلم ، فيكونون كلهم بدلوا ، أو الظالمون منهم هم الذين بدلوا ، وهم الرؤساء والأشراف ، وهذا هو الظاهر ، لقوله في سورة " الأعراف " : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 162 ] واختلفوا هل التقوا كلهم على الأشياء التي بَدّلوها ، أو بدّل كلّ أناس منهم شيئاً ، أو بدّلوا في كل وقت شيئاً ؟

فإن قيل : إنّهم قد بدّلوا القول والفعل ، فلم خصّ القول بالتبديل ؟

فالجواب : أن ذكر تبديلهم القول يدلّ على تبديل الفعل كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل : 81 ] أي : والبرد ، فكأنه قال : بدّلوا القول والفعل ، وأيضاً فقد يكون المراد بالقول المبدل هو الأمر ، والأمر يشتمل القول المأمور به والفعل .

واختلفوا في ذلك القول :

فروي عن ابن عَبّاس : أنّهم لم يدخلوا الباب سجداً ، ولم يقولوا حطّة ، بل دخلوا زَاحِفِيْنَ على اسْتَاههم قائلين حِنْطة .

وقال ابن زيد : استهزؤوا بموسى وقالوا ما شاء موسى أن يلعب بنا لا لعب بنا حطة أي شيء حطة .

وقال " مجاهد " : طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم ، ويركعوا ، فدخلوا زَاحِفِيْنَ .

وقيل لهم : قولوا حطة فقالوا : حطّاً شمقاً ما يعني حطة حمراء استخفافاً بأمر الله .

قوله : { فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي : أضروا بأنفسهم ، وأوسعوا في نقصان خيراتهم في الدين والدنيا .

و " الرجز " : هو العذاب .

فصل في لغات الرجز

وفيه لُغة أخرى وهي ضمّ الراء ، وقرئ بهما .

وقيل : المضموم اسم صَنَمٍ ، ومنه : { وَالرُّجْزَ } [ المدثر : 5 ] . والرِّجْز والرِّجْس بالزاي والسين بِمَعْنًى ك : السُّدْغ والزُّدْغ .

والصحيح أن الرِّجْزَ : الْقَذَر ، والرَّجَز : ما يصيب الإبل ، فترتعش منه ، ومنه : بحر الرِّجَز في الشّعر .

قوله : " مِنَ السَّمَاءِ " يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون متعلقاً ب " أَنْزَلْنَا " و " من " لابتداء الغاية ، أي : من جهة السماء ، وهذا الوجه هو الظاهر .

والثاني : أن يكون صفة ل " رِجْزاً " فيتعلّق بمحذوف ، و " من " أيضاً للابتداء .

وقوله : { عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } فأعادهم بذكرهم أولاً ، ولم يقل : " عليهم " تنبيهاً على أن ظُلْمهم سبب في عقابهم ، وهو من إيقاع الظاهر موقع المُضْمَر لهذا الغرض ، وإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر على ضربين : ضرب يقع بعد تمام الكلام كهذه الآية ، وقول الخنساء : [ المتقارب ]

518- تَعَرَّقَنِي الدَّهْرُ [ نَهْساً ] وَحَزَّا *** [ وَأَوْجَعَنِي ] الدَّهْرُ قَرْعاً وَغَمْزا

أي : أصابتني نوائبه جُمَعُ .

وضرب يقع في كلام واحد ؛ نحو قوله : { الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ }

[ الحاقة : 1 ، 2 ] .

وقول الآخر : [ الكامل ]

519 - لَيْتَ الغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِباً *** كَانَ الغُرَابُ مُقَطَّعَ الأَوْدَاجِ

وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال : [ الخفيف ]

520- لاَ أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ *** نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا

قوله : " بِمَا كَانُوا " متعلِّق ب " أنْزَلْنَا " و " الباء " للسببية ، و " ما " يجوز أن تكون مصدرية وهو الظّاهر أي : بسبب فِسْقِهِمْ ، وأن تكون موصولة اسمية ، والعائد محذوف على التدريج المذكور في غير موضع ، والأصل : يفسقونه ، ولا يقوى جعلها نكرة موصولة .

وقرأ " ابن وَثّاب{[3]} " : " يَفْسِقُون " بكسر السين ، وتقدم أنهما لُغَتَان .

فصل في تفسير الظلم

قال أبو مسلم : هذا الفِسْقُ هو الظلم المذكور في قوله : { عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } وفائدة التكرار التأكيد .

قال ابن الخطيب : والحق أنه غيره ؛ لأن الظلم قد يكون من الصَّغائر ، ولذلك قال بعض الأنبياء : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] وقد يكون من الكَبَائر ، قال تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، والفِسْق لا بُدّ وأن يكون من الكبائر ، ويمكن أن يجاب عنه : بأن أبا مُسْلِمٍ لم يقل بأن الفسق مطلق الظلم ، وإنما خصّه بظلم معين ، وهو الذي وصفوا به في أوّل الآية ، ويحتمل أنهم استحقُّوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل ، فنزل الرِّجْزُ عليهم بالفِسْقِ الذي كانوا يفعلوه قبل التبديل ، فيزول التكرار .

احتجّ بعضهم بقوله : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } على أنَّ ما ورد من الأذكار لا يجوز تبديله بغيره ، وعلى هذا لا يجوز تحريم الصَّلاة بلفظ التَّعْظيم ، ولا يجوز القراءة بالفارسية .

وأجاب أبو بكر الرَّازِي : " بأنهم إنما استحقُّوا الذَّم لتبديلهم القول إلى قول يُضَاد معناه معنى الأول ، فلهذا استوجبوا الذم ، فأما تغيير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك " .

قال ابن الخطيب : " والظَّاهر أن هذا بتناول كل من بدّل قولاً يقول آخر سواء اتَّفَقَا أو لم يتفقا " .

فإن قيل : قال هنا : " وإذ قلنا " ، وفي " الأعراف " : { وَإِذْ قِيلَ } [ الأعراف : 161 ] .

قيل : لأن سورة " الأعراف " مكية ، و " البقرة " مدنية فأبهم القائل في الأولى وهي " الأعراف " ليكون لهم وَقْع في القلب ، ثم بَيَّنَهُ في هذه السورة المدنية ، كأنه قال : ذلك القائل هناك هو هذا .

وقال هنا : " ادْخُلُوا " ، وفي " الأعراف " : " اسْكُنُوا " .

قال ابن الخطيب : " لأنّ الدخول مقدّم على السُّكْنَى " .

وهذا يرد عليه ، فإن " الأعراف " قبل " البقرة " ؛ لأنها مكية .

وقال [ هنا ] " فَكُلُوا " بالفاء ، وفي " الأعراف " " وَكُلُوا " بالواو .

والجواب ها هنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } ، وفي " الأعراف " { فَكُلاَ } . [ ولم ذكر قوله : " رغداً " في " البقرة " ، وحذفه في " الأعراف " ؟ لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنْعَام الأعظم وهو أن يأكلوا رغداً ] ، وفي " الأعراف " لما لم يسند الفعل إلى نفسه [ لا جرم ] لم يذكر الإنعام الأعظم .

وقال هنا : { وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ } ، وفي " الأعراف " قدّم المؤخر ؛ لأن الواو للجمع المطلق ، وأيضاً يحتمل أن يكون بعضهم مذنباً ، وبعضهم ليس بمذنب ، فالمُذْنب يكون اشتغاله أولاً بالتوبة ، ثم بالعبادة فكلفوا أن يقولوا أولاً " حطة " ثم يدخلوا الباب سُجَّداً ، وأما الذي ليس بمذنب ، فالأولى به أن يشتغل بالعبادة أولاً ، ثم [ يذكروا ] التوبة ثانياً على سبيل هَضْم النفس ، وإزالة العجب في فعل تلك العبادة فكلفوا أن يدخلوا الباب سجداً أولاً ، ثم يقولوا " حطة " ، فذكر حكم كل قسم في سورة قاله ابن الخطيب .

وفيه نظر ؛ لأن هذا القول إنما كان مَرّة واحدة .

وقال هنا : { وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } بالواو ، وفي " الأعراف " بغير واو .

وقال ابن الخطيب : لأنه ذكر في " الأعراف " أمرين : قول الحطة ، وهو إشارة إلى التوبة ، ودخول الباب سجداً ، وهو إشارة إلى العبادة ، ثم ذكر جزاءين : قوله تعالى : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } ، وهو واقع في مقابلة قول الحطّة ، وقوله : { وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } ، وهو واقع في مُقَابلة دخول الباب سجداً ، [ فترك ] الواو يفيد توزيع كل واحد مِنَ الجَزَاءين على كل واحد من الشرطين .

وأما في " البقرة " فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاءً واحداً لمجموع الفعلين .

وقال هنا : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً } ، وفي " الأعراف " زاد كلمة " منهم " .

قال ابن الخطيب : لأنه تعالى قال : { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ } ، فذكر أن منهم من يفعل ذلك ، ثم عدّد صنوف إنعامه عليهم ، وأوامره لهم فلما انتهت القصّة قال : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } [ فذكر لفظة " مِنْهُمْ " في آخر القصّة كما ذكرها في أول القصة ] ليكون آخر الكلام مطابقاً لأوله ، وأما هنا فلم يذكر في الآيات التي قبل قوله : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } تمييزاً وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص .

وقال هنا : { فَأَنزَلْنَا } وفي [ سورة ] " الأعراف " : { فَأَرْسَلْنَا } ، وأتى بالمضمر دون الظاهر ؛ لأنه تعالى عدّد عليهم في هذه السُّورة نعماً جسيمة كثيرة ، فكان توجيه الذّم عليهم ، وتوبيخهم بكفرانها أَبْلَغ من حيث إنه لم يعدّد عليهم هناك ما عَدّد هنا .

فلفظ " الإنزال " للعذاب أبلغ من لفظ " الإرسال " .

وقال هنا : { يَفْسُقُونَ } ، وفي " الأعراف " : { يَظْلِمُونَ } تنبيهاً على أنهم جامعون بين هذين الوصفين القبيحين .


[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.