مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوۡلًا غَيۡرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمۡ فَأَنزَلۡنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجۡزٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (59)

أما قوله تعالى : { فبدل الذين ظلموا } ففيه قولان . الأول : قال أبو مسلم قوله تعالى : { فبدل } يدل على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به ، لا على أنهم أتوا له ببدل ، والدليل عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة ، قال تعالى : { سيقول المخلفون من الأعراب } إلى قوله : { يريدون أن يبدلوا كلام الله } ولم يكن تبديلهم إلا الخلاف في الفعل لا في القول فكذا ههنا ، فيكون المعنى أنهم لما أمروا بالتواضع وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله ولم يلتفتوا إليه . الثاني : وهو قول جمهور المفسرين : إن المراد من التبديل أنهم أتوا ببدل له لأن التبديل مشتق من البدل ، فلابد من حصول البدل ، وهذا كما يقال : فلان بدل دينه ، يفيد أنه انتقل من دين إلى دين آخر ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : { قولا غير الذي قيل لهم } ثم اختلفوا في أن ذلك القول والفعل أي شيء كان ؟ فروي عن ابن عباس أنهم دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدا زاحفين على أستاههم ، قائلين حنطة من شعيرة ، وعن مجاهد أنهم دخلوا على أدبارهم وقالوا : حنطة استهزاء ، وقال ابن زيد : استهزاء بموسى وقالوا : ما شاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا حطة حطة أي شيء حطة .

أما قوله تعالى : { الذين ظلموا } فإنما وصفهم الله بذلك إما لأنهم سعوا في نقصان خيراتهم في الدنيا والدين أو لأنهم أضروا بأنفسهم ، وذلك ظلم على ما تقدم .

أما قوله تعالى : { فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء } ففيه بحثان :

الأول : أن في تكرير : { الذين ظلموا } زيادة في تقبيح أمرهم وإيذانا بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم . الثاني : أن الرجز هو العذاب والدليل عليه قوله تعالى : { ولما وقع عليهم الرجز } أي العقوبة ، وكذا قوله تعالى : { لئن كشفت عنا الرجز } وذكر الزجاج أن الرجز والرجس معناهما واحد وهو العذاب .

وأما قوله : { ويذهب عنكم رجز الشيطان } فمعناه لطخه وما يدع إليه من الكفر ، ثم إن تلك العقوبة أي شيء كانت لا دلالة في الآية عليه ، فقال ابن عباس : مات منهم بالفجأة أربعة وعشرون ألفا في ساعة واحدة ، وقال ابن زيد : بعث الله عليهم الطاعون حتى مات من الغداة إلى العشي خمس وعشرون ألفا ، ولم يبق منهم أحد .

أما قوله تعالى : { بما كانوا يفسقون } ، فالفسق هو الخروج المضر ، يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها وفي الشرع عبارة عن الخروج من طاعة الله إلى معصيته ، قال أبو مسلم : هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله تعالى : { على الذين ظلموا } وفائدة التكرار التأكيد والحق أنه غير مكرر لوجهين . الأول : أن الظلم قد يكون من الصغائر ، وقد يكون من الكبائر ، ولذلك وصف الله الأنبياء بالظلم في قوله تعالى : { ربنا ظلمنا أنفسنا } ولأنه تعالى قال : { إن الشرك لظلم عظيم } ولو لم يكن الظلم إلا عظيما لكان ذكر العظيم تكريرا والفسق لابد وأن يكون من الكبائر فلما وصفهم الله بالظلم أولا : وصفهم بالفسق ، ثانيا : ليعرف أن ظلمهم كان من الكبائر لا من الصغائر . الثاني : يحتمل أنهم استحقوا اسم الظالم بسبب ذلك التبديل فنزل الرجز عليهم من السماء بسبب ذلك التبديل بل للفسق الذي كانوا فعلوه قبل ذلك التبديل وعلى هذا الوجه يزول التكرار .

النوع الثاني من الكلام في هذه الآية : اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة الأعراف وهو قوله : { وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم وسنزيد المحسنين ، فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون } واعلم أن من الناس من يحتج بقوله تعالى : { فبدل الذين ظلموا } على أن ما ورد به التوقيف من الأذكار أنه غير جائز تغييرها ولا تبديلها بغيرها ، وربما احتج أصحاب الشافعي رضي الله عنه في أنه لا يجوز تحريم الصلاة بلفظ التعظيم والتسبيح ولا تجوز القراءة بالفارسية وأجاب أبو بكر الرازي بأنهم إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى قول آخر يضاد معناه معنى الأول ، فلا جرم استوجبوا الذم ، فأما من غير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك والجواب أن ظاهر قوله : { فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم } يتناول كل من بدل قولا بقول آخر سواء اتفق القولان في المعنى أو لم يتفقا ، وههنا سؤالات :

السؤال الأول : لم قال في سورة البقرة : { وإذ قلنا } وقال في الأعراف : { وإذ قيل لهم } الجواب أن الله تعالى صرح في أول القرآن بأن قائل هذا القول هو الله تعالى إزالة للإبهام ولأنه ذكر في أول الكلام : { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } ثم أخذ يعدد [ نعمه ] نعمة نعمة فاللائق بهذا المقام أن يقول : { وإذ قلنا } أما في سورة الأعراف فلا يبقى في قوله تعالى : { وإذ قيل لهم } إبهام بعد تقديم التصريح به في سورة البقرة .

السؤال الثاني : لم قال في البقرة : { وإذ قلنا ادخلوا } وفي الأعراف : { اسكنوا } ؟ الجواب : الدخول مقدم على السكون ولابد منهما فلا جرم ذكر الدخول في السورة المتقدمة والسكون في السورة المتأخرة .

السؤال الثالث : لم قال في البقرة : { فكلوا } بالفاء وفي الأعراف : { وكلوا } بالواو ؟ والجواب ههنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة : { وكلا منها رغدا } وفي الأعراف : { فكلا } .

السؤال الرابع : لم قال في البقرة : { نغفر لكم خطاياكم } وفي الأعراف : { نغفر لكم خطيئاتكم } ، الجواب : الخطايا جمع الكثرة والخطيئات جمع السلامة فهو للقلة ، وفي سورة البقرة لما أضاف ذلك القول إلى نفسه فقال : { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } لا جرم قرن به ما يليق جوده وكرمه وهو غفران الذنوب الكثيرة ، فذكر بلفظ الجمع الدال على الكثرة ، وفي الأعراف لما لم يضف ذلك إلى نفسه بل قال : { وإذ قيل لهم } لا جرم ذكر ذلك بجمع القلة ، فالحاصل أنه لما ذكر الفاعل ذكر ما يليق بكرمه من غفران الخطايا الكثيرة [ 5 ] وفي الأعراف لما لم يسم الفاعل لم يذكر اللفظ الدال على الكثرة .

السؤال الخامس : لم ذكر قوله : { رغدا } في البقرة وحذفه في الأعراف ؟ الجواب عن هذا السؤال كالجواب في الخطايا والخطيئات لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنعام الأعظم وهو أن يأكلوا رغدا ، وفي الأعراف لما لم يسند الفعل إلى نفسه لم يذكر الإنعام الأعظم فيه .

السؤال السادس : لم ذكر في البقرة : { وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة } وفي الأعراف قدم المؤخر ؟ الجواب : الواو للجمع المطلق وأيضا فالمخاطبون بقوله : { ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة } ، يحتمل أن يقال : إن بعضهم كانوا مذنبين والبعض الآخر ما كانوا مذنبين ، فالمذنب لابد أن يكون اشتغاله بحط الذنوب مقدما على الاشتغال بالعبادة لأن التوبة عن الذنب مقدمة على الاشتغال بالعبادات المستقبلة لا محالة ، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا أولا «حطة » ثم يدخلوا الباب سجدا ، وأما الذي لا يكون مذنبا فالأولى به أن يشتغل أولا بالعبادة ثم يذكر التوبة ، ثانيا : على سبيل هضم النفس وإزالة العجب في فعل تلك العبادة فهؤلاء يجب أن يدخلوا الباب سجدا أولا ثم يقولوا حطة ثانيا ، فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى هذين القسمين لا جرم ذكر الله تعالى حكم كل واحد منهما في سورة أخرى .

السؤال السابع : لم قال : { وسنزيد المحسنين } في البقرة مع الواو وفي الأعراف : { سنزيد المحسنين } من غير الواو ؟ الجواب : أما في الأعراف فذكر فيه أمرين : أحدهما : قول الحطة وهو إشارة إلى التوبة ، ( وثانيها ) : دخول الباب سجدا وهو إشارة إلى العبادة ، ثم ذكر جزأين : ( أحدهما ) : قوله تعالى : { نغفر لكم خطاياكم } وهو واقع في مقابلة قول الحطة . ( والآخر ) : قوله : { سنزيد المحسنين } وهو واقع في مقابلة دخول الباب سجدا فترك الواو يفيد توزع كل واحد من الجزأين على كل واحد من الشرطين . وأما في سورة البقرة فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاء واحدا لمجموع الفعلين أعني دخول الباب وقول الحطة .

السؤال الثامن : قال الله تعالى في سورة البقرة : { فبدل الذين ظلموا قولا } وفي الأعراف : { فبدل الذين ظلموا منهم قولا } فما الفائدة في زيادة كلمة «منهم » في الأعراف ؟ الجواب : سبب زيادة هذه اللفظة في سورة الأعراف أن أول القصة ههنا مبني على التخصيص بلفظ «من » لأنه تعالى قال : { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } فذكر أن منهم من يفعل ذلك ثم عدد صنوف إنعامه عليهم وأوامره لهم ، فلما انتهت القصة قال الله تعالى : { فبدل الذين ظلموا منهم } فذكر لفظة : { منهم } في آخر القصة كما ذكرها في أول القصة ليكون آخر الكلام مطابقا لأوله فيكون الظالمون من قوم موسى بإزاء الهادين منهم فهناك ذكر أمة عادلة ، وههنا ذكر أمة جابرة وكلتاهما من قوم موسى فهذا هو السبب في ذكر هذه الكلمة في سورة الأعراف ، وأما في سورة البقرة فإنه لم يذكر في الآيات التي قبل قوله : { فبدل الذين ظلموا } تمييزا وتخصيصا حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص فظهر الفرق .

السؤال التاسع : لم قال في البقرة : { فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا } وقال في الأعراف : { فأرسلنا } الجواب : الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصاله لهم بالكلية ، وذلك إنما يحدث بالآخرة .

السؤال العاشر : لم قال في البقرة : { بما كانوا يفسقون } وفي الأعراف : { بما كانوا يظلمون } ، الجواب : أنه تعالى لما بين في سورة البقرة كون ذلك الظلم فسقا اكتفى بلفظ الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان في سورة البقرة ، والله أعلم .