إن هي إلا شبهات ، يوحيها إليه الشيطان { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } ومع هذا { ثَانِيَ عِطْفِهِ } أي : لاوي جانبه وعنقه ، وهذا كناية عن كبره عن الحق ، واحتقاره للخلق ، فقد فرح بما معه من العلم غير النافع ، واحتقر أهل الحق وما معهم من الحق ، { لِيُضِلَّ } الناس ، أي : ليكون من دعاة الضلال ، ويدخل تحت هذا جميع أئمة الكفر والضلال ، ثم ذكر عقوبتهم الدنيوية والأخروية فقال : { لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } أي : يفتضح هذا في الدنيا قبل الآخرة ، وهذا من آيات الله العجيبة ، فإنك لا تجد داعيا من دعاة الكفر والضلال ، إلا وله من المقت بين العالمين ، واللعنة ، والبغض ، والذم ، ما هو حقيق به ، وكل بحسب حاله .
{ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } أي : نذيقه حرها الشديد ، وسعيرها البليغ ،
وقوله : { ثَانِيَ عِطْفِهِ } قال ابن عباس وغيره : مستكبرًا عن الحق إذا دعي إليه . وقال مجاهد ، وقتادة ، ومالك عن زيد بن أسلم : { ثَانِيَ عِطْفِهِ } أي : لاوي عنقه ، وهي رقبته ، يعني : يعرض عما يدعى إليه من الحق رقَبَته استكبارًا ، كقوله تعالى : { وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ . فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 38 ، 39 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } [ النساء : 61 ] ، وقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } [ المنافقون : 5 ] : وقال لقمان لابنه : { وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } [ لقمان : 18 ] أي : تميله عنهم استكبارًا عليهم ، وقال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ لقمان : 7 ] .
وقوله : { لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } : قال بعضهم : هذه لام العاقبة ؛ لأنه قد لا يقصد ذلك ، ويحتمل أن تكون لام التعليل . ثم إما أن يكون المراد بها المعاندين{[20041]} ، أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق الذي يجعله ممن يضل عن سبيل الله .
ثم قال تعالى : { لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } وهو الإهانة والذل ، كما أنه لما استكبر عن آيات الله لَقَّاه الله المذلة في الدنيا ، وعاقبه فيها قبل الآخرة ؛ لأنها أكبر هَمّه ومبلغ علمه ، { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدّمَتْ يَدَاكَ وَأَنّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لّلعَبِيدِ } .
يقول تعالى ذكره : يجادل هذا الذي يجادل في الله بغير علم ثانِيَ عِطْفِهِ .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله وصف بأنه يثني عطفه وما المراد من وصفه إياه بذلك ، فقال بعضهم : وصفه بذلك لتكبره وتبختره . وذكر عن العرب أنها تقول : جاءني فلان ثاني عطفه : إذا جاء متبخترا من الكبر ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ثانِيَ عِطْفِهِ يقول : مستكبرا في نفسه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لاوٍ رقبته . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ثانِي عِطْفِهِ قال : رقبته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ثانِيَ عِطْفِهِ قال : لاوٍ عنقه .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، مثله .
وقال آخرون : معنى ذلك أنه يُعْرِضُ عما يُدْعَى إليه فلا يسمع له . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ثانِيَ عِطْفِهِ يقول : يعرض عن ذكري .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ثانِيَ عِطْفِهِ عَنْ سَبِيلِ الله قال : لاويا رأسه ، معرضا موليا ، لا يريد أن يسمع ما قيل له . وقرأ : وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوّوْا رُؤُسَهُمْ ورأيْتَهُمْ يَصُدّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتُنا وَلّى مُسْتَكْبِرا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ثانِيَ عِطْفِهِ قال : يعرض عن الحقّ .
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال الثلاثة متقاربات المعنى وذلك أن من كان ذا استكبار فمن شأنه الإعراضُ عما هو مستكبر عنه ولَيّ عنقه عنه والإعراض .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله وصف هذا المخاصم في الله بغير علم أنه من كبره إذا دُعي إلى الله أعرض عن داعيه لوى عنقه عنه ولم يسمع ما يقال له استكبارا .
وقوله : لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ يقول تعالى ذكره : يجادل هذا المشرك في الله بغير علم معرضا عن الحقّ استكبارا ، ليصدّ المؤمنين بالله عن دينهم الذي هداهم له ويستزلهم عنه . لَهُ فِي الدّنْيا خِزْيٌ يقول جلّ ثناؤه : لهذا المجادل في الله بغير علم في الدنيا خزي وهو القتل والذلّ والمهانة بأيدي المؤمنين ، فقتله الله بأيديهم يوم بدر . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : فِي الدّنيْا خِزْيٌ قال : قُتل يوم بدر .
وقوله : وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِيامَةِ عَذَابَ الحَرِيقِ يقول تعالى ذكره : ونحرقه يوم القيامة بالنار .
{ ثاني عطفه } متكبرا وثنى العطف كناية عن التكبر كلي الجيد ، أو معرضا عن الحق استخفافا به . وقرئ بفتح العين أي مانع تعطفه . { ليضل عن سبيل الله } علة للجدال ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس بفتح الياء على أن إعراضه عن الهدى المتمكن منه بالإقبال على الجدال الباطل خروج من الهدى إلى الضلال ، وأنه من حيث مؤداه كالغرض له . { له في الدنيا خزي } وهو ما أصابه يوم بدر . { ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق } المحروق وهو النار .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.