اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۖ لَهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَنُذِيقُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (9)

قوله : «ثَانِيَ عِطْفِه » : حال من فاعل «يُجَادِل » أي : مُعْرِضاً ، وهي إضافة لفظية{[30307]} نحو «مُمْطِرُنَا{[30308]} » . والعامة على كسر العين ، وهو الجانب{[30309]} كني به عن التكبر .

والحسن بفتح العين{[30310]} ، وهو مصدر بمعنى التعطف ، وصفه بالقسوة .

قوله : «لِيُضلَّ » متعلق إما ب «يُجَادِلُ » ، وإما ب «ثاني عِطْفِه »{[30311]} وقرأ العامة بضم الياء في «يُضِلّ » والمفعول محذوف أي : ليضل غيره{[30312]} . وقرأ مجاهد وأبو عمرو في رواية بفتحها{[30313]} ، أي : ليضل هو في نفسه .

قوله : { لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ } هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً{[30314]} مقارنة{[30315]} أي : مستحقاً ذلك ، وأن تكون حالاً مقدرة{[30316]} ، وأن تكون مستأنفة{[30317]} . وقرأ زيد بن علي «وأُذِيْقُه » بهمزة المتكلم{[30318]} ، و «عَذَابَ الحَرِيْق » يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته إذ{[30319]} الأصل العذاب الحريق أي : المحرق كالسميع بمنع المسمع . {[30320]}

فصل

قال أبو مسلم{[30321]} : الآية{[30322]} الأولى{[30323]} واردة في الأتباع المقلدين ، وهذه الآية واردة في المتبعة عن المقلدين ، فإن كلا المجادلين جادل بغير علم وإن كان أحدهما تبعاً والآخر متبوع ، وبين ذلك قوله : { وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } فإن مثل ذلك لا يقال في المقلد وإنما يقال فيمن يخاصم{[30324]} بناء على شبهة . فإن قيل : كيف يصح ما قلتم والمقلد لا يكون مجادلاً ؟ قلنا : يجادل تصويباً لتقليده ، وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها وإن كان معتمده الأصلي هو التقليد{[30325]} . وقيل : إن الآية الأولى نزلت في النضر بن الحارث ، وهو قول ابن عباس وفائدة التكرير المبالغة في{[30326]} الذم ، وأيضاً : قد ذكر{[30327]} في الآية الأولى اتباعه تقليداً بغير حجة ، ( وفي الثانية مجادلته في الدين ، وإضلاله غيره بغير حجة{[30328]} ) .

والأول أقرب لما تقدم . ودلت الآية على أن الجدال مع العلم والهدى والكتاب{[30329]} حق حسن .

والمراد بالعلم العلم الضروري ، وبالهدى الاستدلال والنظر ؛ لأنه يهدي إلى المعرفة ، وبالكتاب المنير الوحي . والمعنى يجادل من غير مقدمة ضرورية ، ولا نظريَّة ولا سمعيَّة فهو كقوله تعالى{[30330]} : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ{[30331]} } [ الحج : 71 ] ثم قال { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } ثني العطف عبارة عن التكبر والخيلاء{[30332]} قال مجاهد وقتادة : لاوي عنقه{[30333]} . وقال عطية وابن زيد : معرضاً عما يدعى إليه تكبراً{[30334]} . والعطف الجانب وعطفا{[30335]} الرجل : جانباه عن يمين وشمال ، وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان أي{[30336]} : يلويه ويمليه عند الإعراض عن الشيء ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً{[30337]} } [ لقمان : 7 ] وقوله { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ }{[30338]} {[30339]} [ المنافقون : 5 ] . { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } فمن ضم الياء فمعناه : ليضل غيره عن طريق الحق ، فجمع بين الضلال والكفر وإضلال الغير . ومن فتح الياء فالمعنى : ليضل هو عن دين الله{[30340]} . { لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ }{[30341]} عذاب وهون ، وهو القتل ببدر ، فقتل النضر ، وعقبة بن أبي معيط يوم بدر صبراً . { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق } ويقال له : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ{[30342]} } .


[30307]:انظر معاني القرآن للفراء 2/216، معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/414، مشكل إعراب القرآن 2/92، البيان 2/170، التبيان 2/934، البحر المحيط 6/354.
[30308]:من قوله تعالى: {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا} [الأحقاف: 24]. والاستشهاد بالآية على أن الإضافة في "ممطرنا" إضافة لفظية، فهي في تقدير الانفصال أي: ممطر إيانا، فهو نكرة التبيان 2/1157.
[30309]:في ب: الحال. وهو تحريف وذلك أن العطف: المنكب، وعطفا كل شيء: جانباه. اللسان (عطف).
[30310]:المختصر (94) البحر المحيط 6/354، الإتحاف (313).
[30311]:انظر التبيان 2/934.
[30312]:البحر المحيط 6/354 – 355 الإتحاف (313).
[30313]:البحر المحيط 6/354، الإتحاف (313).
[30314]:في الأصل: حال.
[30315]:الحال المقارنة: هي المقارنة لعاملها في الزمن. نحو قوله تعالى: {وهذا بعلي شيخا} [هود: 72]. المغني 2/465.
[30316]:الحال المقدرة: هي المستقبلة نحو: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدرا ذلك، المغني 2/465.
[30317]:ذكر هذه الأوجه أبو البقاء. التبيان 2/934.
[30318]:البحر المحيط 6/355.
[30319]:في الأصل: إذا.
[30320]:انظر البحر المحيط 6/355.
[30321]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/12.
[30322]:في ب: إن الآية.
[30323]:وهي قوله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} [الآية 3].
[30324]:في الأصل: لا يخاصم. وهو تحريف.
[30325]:في ب: الأصل التقليد.
[30326]:في: سقط من الأصل.
[30327]:في النسختين: قد كرر. والصواب ما أثبته.
[30328]:ما بين القوسين سقط من ب.
[30329]:في ب: وفي الكتاب.
[30330]:تعالى: سقط من الأصل
[30331]:[الحج: 71].
[30332]:آخر ما نقله عن الفخر الرازي 23/12.
[30333]:انظر البغوي 5/556.
[30334]:المرجع السابق.
[30335]:في الأصل: والعطف. وهو تحريف.
[30336]:في الأصل: أن. وهو تحريف.
[30337]:[لقمان: 7].
[30338]:[المنافقون: 5].
[30339]:انظر البغوي 5/556-557.
[30340]:انظر الفخر الرازي 23/12، البحر المحيط 6/354، 355.
[30341]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 5/557.
[30342]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 5/557.