المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ} (198)

198- ولقد كان منكم من يجد حرجاً في مزاولة التجارة وابتغاء الرزق في موسم الحج ، فلا حرج عليكم في ذلك ، بل لكم أن تزاولوا التكسب بطرقه المشروعة وتبتغوا فضل الله ونعمته ، وإذا صدر الحجاج راجعين من عرفات بعد الوقوف بها ، ووصلوا المزدلفة ليلة عيد النحر فليذكروا الله عند المشعر الحرام - وهو جبل المزدلفة - بالتهليل والتلبية والتكبير ، وليمجدوه وليحمدوه على هدايته إياهم إلى الدين الحق والعبادة القويمة في الحج وغيره ، وقد كانوا من قبل ذلك في ضلال عن صراط الهدى والرشاد .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ} (198)

{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }

لما أمر تعالى بالتقوى ، أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره ، ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج ، وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله ، لا منسوبا إلى حذق العبد ، والوقوف مع السبب ، ونسيان المسبب ، فإن هذا هو الحرج بعينه .

وفي قوله : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } دلالة على أمور :

أحدها : الوقوف بعرفة ، وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج ، فالإفاضة من عرفات ، لا تكون إلا بعد الوقوف .

الثاني : الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام ، وهو المزدلفة ، وذلك أيضا معروف ، يكون ليلة النحر بائتا بها ، وبعد صلاة الفجر ، يقف في المزدلفة داعيا ، حتى يسفر جدا ، ويدخل في ذكر الله عنده ، إيقاع الفرائض والنوافل فيه .

الثالث : أن الوقوف بمزدلفة ، متأخر عن الوقوف بعرفة ، كما تدل عليه الفاء والترتيب .

الرابع ، والخامس : أن عرفات ومزدلفة ، كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها ، وإظهارها .

السادس : أن مزدلفة في الحرم ، كما قيده بالحرام .

السابع : أن عرفة في الحل ، كما هو مفهوم التقييد ب " مزدلفة "

{ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } أي : اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال ، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، فهذه من أكبر النعم ، التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ} (198)

189

ثم يمضي في بيان أحكام الحج وشعائره ، فيبين حكم مزاولة التجارة أو العمل بأجر بالنسبة للحاج . وحكم الإفاضة ومكانها . وما يجب من الذكر والاستغفار بعدها :

( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم . فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين . ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله ، إن الله غفور رحيم ) . .

قال البخاري - بإسناده - عن ابن عباس . قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية . فتأثموا أن يتجروا في الموسم . فنزلت : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم )في مواسم الحج .

وروى أبو داود - بإسناده من طريق آخر - إلى ابن عباس . قال : كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج ، يقولون : أيام ذكر . فأنزل الله : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) . .

وفي رواية عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر : إنا نكري . فهل لنا من حج ؟ قال : أليس تطوفون بالبيت ، وتأتون بالمعروف ، وترمون الجمار ، وتحلقون رؤوسكم ؟ قال : قلنا : بلى . فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي [ ص ] فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) .

وفي رواية عن أبي صالح مولى عمر [ رواها ابن جرير ] قال : قلت : يا أمير المؤمنين . كنتم تتجرون في الحج ؟ قال : وهل كانت معايشهم إلا في الحج ؟

وهذا التحرج الذي تذكره الروايتان الأوليان من التجارة ، والتحرج الذي تذكره الرواية الثالثة عن الكراء أو العمل بأجر في الحج . . هو طرف من ذلك التحرج الذي أنشأه الإسلام في النفوس من كل ما كان سائغا في الجاهلية ، وانتظار رأي الإسلام فيه قبل الإقدام عليه . وهي الحالة التي تحدثنا عنها في أوائل هذا الجزء ، عند الكلام عن التحرج من الطواف بالصفا والمروة .

وقد نزلت إباحة البيع والشراء والكراء في الحج ، وسماها القرآن ابتغاء من فضل الله :

( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) . .

ليشعر من يزاولها أنه يبتغي من فضل الله حين يتجر وحين يعمل بأجر وحين يطلب أسباب الرزق : إنه لا يرزق نفسه بعمله . إنما هو يطلب من فضل الله ، فيعطيه الله . فأحرى ألا ينسى هذه الحقيقة ؛ وهي أنه يبتغي من فضل الله ، وأنه ينال من هذا الفضل حين يكسب وحين يقبض وحين يحصل على رزقه من وراء الأسباب التي يتخذها للارتزاق . ومتى استقر هذا الإحساس في قلبه ، وهو يبتغي الرزق ، فهو إذن في حالة عبادة لله ، لا تتنافى مع عبادة الحج ، في الاتجاه إلى الله . . ومتى ضمن الإسلام هذه المشاعر في قلب المؤمن أطلقه يعمل وينشط كما يشاء . . وكل حركة منه عبادة في هذا المقام .

لهذا يجعل الحديث عن طلب الرزق جزءاً من آية تتحدث عن بقية شعائر الحج ، فتذكر الإفاضة والذكر عند المشعر الحرام :

( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام . واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) . .

والوقوف بعرفة عمدة أفعال الحج . . روى أصحاب السنن بإسناد صحيح عن الثوري عن بكير ، عن عطاء ، عن عبد الرحمن بن معمر الديلمي . قال : سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " الحج عرفات - ثلاثا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك . وأيام منى ثلاثة . فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه " . .

ووقت الوقوف بعرفة من الزوال [ الظهر ] يوم عرفة - وهو اليوم التاسع من ذي الحجة - إلى طلوع الفجر من يوم النحر . . وهناك قول ذهب إليه الإمام أحمد ، وهو أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة . استنادا إلى حديث رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي . عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن حارثة بن لام الطائي قال : " أتيت رسول الله [ ص ] بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت : يا رسول الله إني جئت من جبل طيء . أكللت راحلتي وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه . فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله [ ص ] : " من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه وقضى تفثه " .

وقد سن رسول الله [ ص ] للوقوف هذا الوقت - على أي القولين - ومد وقت الوقوف بعرفة إلى فجر يوم النحر - وهو العاشر من ذي الحجة - ليخالف هدي المشركين في وقوفهم بها . . روى ابن مردويه والحاكم في المستدرك كلاهما من حديث عبد الرحمن بن المبارك العيشي - بإسناده - عن المسور ابن مخرمة قال : " خطبنا رسول الله [ ص ] وهو بعرفات . فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أما بعد - وكان إذا خطب خطبة قال : أما بعد - فإن هذا اليوم الحج الأكبر . ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس ، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها . وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس ، مخالفا هدينا هدي أهل الشرك " . .

والذي ورد عن فعل رسول الله [ ص ] أنه دفع بعد غروب شمس يوم عرفة ، وقد جاء في حديث جابر بن عبد الله - في صحيح مسلم - " فلم يزل واقفا - يعني بعرفة - حتى غربت الشمس وبدتالصفرة قليلا ، حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول الله [ ص ] وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : " أيها الناس ، السكينة السكينة " كلما اتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد . حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا . ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام . فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس " . .

وهذا الذي فعله رسول الله [ ص ] هو الذي تشير إليه الآية :

( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام . واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) . .

والمشعر الحرام هو المزدلفة . والقرآن هنا يأمر بذكر الله عنده بعد الإفاضة من عرفات . ثم يذكر المسلمين بأن هذا الذكر من هداية الله لهم ؛ وهو مظهر الشكر على هذه الهداية . ويذكرهم بما كان من أمرهم قبل أن يهديهم :

( وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) . .

والجماعة المسلمة الأولى كانت تدرك حق الإدراك مدى وعمق هذه الحقيقة في حياتها . . لقد كانت قريبة عهد بما كان العرب فيه من ضلال . . ضلال في التصور ، مظهره عبادة الأصنام والجن والملائكة ، ونسبة بنوة الملائكة إلى الله ، ونسبة الصهر إلى الله مع الجن . . إلى آخر هذه التصورات السخيفة المتهافتة المضطربة ، التي كانت تنشىء بدورها اضطرابا في العبادات والشعائر والسلوك : من تحريم بعض الأنعام ظهورها أو لحومها بلا مبرر إلا تصور علاقات بينها وبين شتى الآلهة . ومن نذر بعض أولادهم للآلهة وإشراك الجن فيها . ومن عادات جاهلية شتى لا سند لها إلا هذا الركام من التصورات الاعتقادية المضطربة . . وضلال في الحياة الاجتماعية والأخلاقية . . تمثله تلك الفوارق الطبقية التي تشير الآية التالية في السياق : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) إلى إزالتها كما سيجيء . وتمثله تلك الحروب والمشاحنات القبلية التي لم تكن تجعل من العرب أمة يحسب لها حساب في العالم الدولي . وتمثله تلك الفوضى الخلقية في العلاقات الجنسية ، والعلاقات الزوجية ، وعلاقات الأسرة بصفة عامة . وتمثله تلك المظالم التي يزاولها الأقوياء ضد الضعاف في المجتمع بلا ميزان ثابت يفيء إليه الجميع . . وتمثلها حياة العرب بصفة عامة ووضعهم الإنساني المتخلف الذي لم يرفعهم منه إلا الإسلام .

وحين كانوا يسمعون :

( واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) . .

كانت ولا شك تتواكب على خيالهم وذاكرتهم ومشاعرهم صور حياتهم الضالة الزرية الهابطة التي كانت تطبع تاريخهم كله ؛ ثم يتلفتون على أنفسهم ليروا مكانهم الجديد الذي رفعهم إليه الإسلام ، والذي هداهم الله إليه بهذا الدين ، فيدركون عمق هذه الحقيقة وأصالتها في وجودهم كله بلا جدال . .

وهذه الحقيقة ما تزال قائمة بالقياس إلى المسلمين من كل أمة ومن كل جيل . . من هم بغير الإسلام ؟ وما هم بغير هذه العقيدة ؟ إنهم حين يهتدون إلى الإسلام ، وحين يصبح المنهج الإسلامي حقيقة في حياتهم ينتقلون من طور وضيع صغير ضال مضطرب إلى طور آخر رفيع عظيم مهتد مستقيم . ولا يدركون هذه النقلة إلا حين يصبحون مسلمين حقا ، أي حين يقيمون حياتهم كلها على النهج الإسلامي . . وإن البشرية كلها لتتيهفي جاهلية عمياء ما لم تهتد إلى هذا النهج المهتدي . . لا يدرك هذه الحقيقة إلا من يعيش في الجاهلية البشرية التي تعج بها الأرض في كل مكان ، ثم يحيا بعد ذلك بالتصور الإسلامي الرفيع للحياة ، ويدرك حقيقة المنهج الإسلامي الشامخة على كل ما حولها من مقاذر ومستنقعات وأوحال !

وحين يطل الإنسان من قمة التصور الإسلامي والمنهج الإسلامي ، على البشرية كلها في جميع تصوراتها ، وجميع مناهجها ، وجميع نظمها - بما في ذلك تصورات أكبر فلاسفتها قديما وحديثا ، ومذاهب أكبر مفكريها قديما وحديثا - حين يطل الإنسان من تلك القمة الشامخة يدركه العجب من انشغال هذه البشرية بما هي فيه من عبث ، ومن عنت ومن شقوة ، ومن ضآلة ، ومن اضطراب لا يصنعه بنفسه عاقل يدعي - فيما يدعي - أنه لم يعد في حاجة إلى إله ! أو لم يعد على الأقل - كما يزعم - في حاجة لاتباع شريعة إله ومنهج إله !

فهذا هو الذي يذكر الله به المسلمين ، وهو يمتن عليهم بنعمته الكبرى :

( واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ} (198)

{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } ( 198 )

وقوله تعالى : { ليس عليكم جناح } الآية ، الجناح أعم من الإثم لأنه فيما يقتضي العقاب وفيما يقتضي العتاب والزجر ، و { تبتغوا } معناه تطلبون بمحاولتكم .

وقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعطاء : إن الآية نزلت لأن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية كعكاظ وذي المجاز ومجنة ، فأباح الله تعالى ذلك ، أي لا درك في أن تتجروا وتطلبوا الربح( {[1881]} ) .

وقال مجاهد : «كان بعض العرب لا يتجرون مذ يحرمون ، فنزلت الآية في إباحة ذلك » .

وقال ابن عمر فيمن أكرى ليحج : «حجه تام ولا حرج عليه في ابتغاء الكراء » ، وقرأ ابن ( {[1882]} )عباس وابن مسعود وابن الزبير : «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج » .

وقوله تعالى : { فإذا أفضتم من عرفات } أجمع أهل العلم على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهاراً قبل الليل إلا مالك بن أنس ، فإنه قال : «لا بد أن يأخذ من الليل شيئاً ، وأما من وقف بعرفة بالليل فلا خلاف بين الأمة في تمام حجه » وأفاض القوم أو الجيش إذا اندفعوا جملة ، ومنه أفاض الرجل في الكلام ، ومنه فاض الإناء ، وأفضته ، ومنه المفيض في القداح ، والتنوين في عرفات على حده في مسلمات ، الكسرة مقابلة للياء في مسلمين والتنوين مقابل النون ، فإذا سميت به شخصاً ترك ، وهو معرف على حده قبل أن تسمي به ، فإن كان { عرفات } اسماً تلك البقعة كلها فهو كما ذكرناه ، وإن كان جمع عرفة فهو كمسلمات دون أن يسمى به( {[1883]} ) ، وحكى سيبويه كسر التاء من «عرفاتِ » دون تنوين في حال النصب والخفض مع التعريف ، وحكى الكوفيون فتحها في حال النصب والخفض تشبيهاً بتاء فاطمة وطلحة ، وسميت تلك البقعة { عرفاتَ } لأن إبراهيم عرفها حين رآها على ما وصفت له ، قال السدي .

وقال ابن عباس : «سميت بذلك لأن جبريل عليه السلام كان يقول لإبراهيم عليه السلام : هذا موضع كذا ، فيقول قد عرفت » ، وقيل : سميت بذلك لأن آدم عرف بها حواء حين لقيها هناك .

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع ، وعرفة هي نعمان الأراك( {[1884]} ) ، وفيها يقول الشاعر :

تزودت من نعمان عود أراكة . . . لهند ولكن من يبلغه هندا ؟( {[1885]} )

و { المشعر الحرام } جمع كله ، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى مأزمي عرفة( {[1886]} ) ، قال ذلك ابن عباس وابن جبير والربيع وابن عمر ومجاهد ، فهي كلها مشعر إلى بطن محسر ، كما أن عرفة كلها موقف إلا بطن عُرَنة ، بفتح الراء وضمها ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة ، والمزدلفة كلها مشعر ، وارتفعوا عن بطن محسر »( {[1887]} ) وذكر هذا عبد الله بن الزبير في خطبته ، وفي المزدلفة قرن قزح الذي كانت قريش تقف عليه ، وذكر الله تعالى عند المشعر الحرام ندب عند أهل العلم .

وقال مالك : «من مر به ولم ينزل فعليه دم » ،

وقال الشافعي : «من خرج من مزدلفة قبل نصف الليل فعليه دم ، وإن كان بعد نصف الليل فلا شيء عليه » ؟ .

وقال الشعبي والنخعي : من فاته الوقوف بمزدلفة فاته الحج .

وقوله : { واذكروه كما هداكم } تعديد للنعمة وأمر بشكرها ، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام ، والكاف في { كما } نعت لمصدر محذوف و[ ما ] مصدرية أو كافة( {[1888]} ) ، و { إن } مخففة من الثقيلة ، ويدل على ذلك دخول اللام في الخبر ، هذا قول سيبويه .

وقال الفراء : «هي النافية( {[1889]} ) بمعنى ما ، واللام بمعنى إلاّ » والضمير في { قبله } عائد على الهدي .


[1881]:- أي في أيام الحج، اللهم إلا إذا كانت التجارة هي القصد فإن الفرض يسقط والثواب ينقص، انظر البخاري في باب التجارة في المواسم والبيع في أسواق الجاهلية. وقد كانت هذه الأسواق تقام في أشهر الحج. ومعنى قوله: لا درك: لا تبعَةَ. يقال: مالحقك من درك (بفتح الراء وسكونها) فعليّ خلاصه.
[1882]:- الأحسن أن تكون هذه القراءة تفسيرا لأنها تخالف سواد المصحف الذي أجمعت عليه الأمة.
[1883]:- فعرفات اسم في لفظ الجمع فلا يجمع، وقول الناس: نزلنا بعرفة شبيهق بمولد، وليس بعربي محض، وهي معرفة إن كانت جمعا، لأن الأماكن لا تزول فصار كالشيء الواحد، وفي المصباح: ويعرب (عرفات) إعراب (مسلمات ومؤمنات)، والتنوين يشبه تنوين المقابلة كما في باب (مسلمات)، وليس بتنوين صرف لوجود مقتضى المنع من الصرف وهو العملية والتأنيث، ولهذا لا يدخلها الألف واللام، وبعضهم يقول: عرفة هي الجبل، وعرفات جمع عرفة تقديرا لأنه يقال: وقفت بعرفة كما يقال: بعرفات ا هـ.
[1884]:- قال في المصباح: الأراك: موضع بعرفة من جهة الشام، وقال أيضا: ونعمان الأراك بفتح النون واد بين مكة والطائف ويخرج إلى عرفات، وقال الأزهري، نعمان اسم جبل بين مكة والطائف، وهو وَجّ الطائف، ووجّ الطائف: بلد الطائف. والوَجّ في الأصل: ضرب من الأودية – ذكره في الصحاح.
[1885]:- هو لابن أبي ربيعة كما في ديوانه. وفي رواية (تخيرت) (بدل تزودت).
[1886]:- المَأزم بوزن مسجد: الطريق الضيق بين الجبلين، ويقال للموضع الذي بين عرفة والمشعر مأزما وثُنِّي المأزم لمكان الجبلين وإلا فهو واحد.
[1887]:- رواه الإمام مالك في الموطأ، قال أبو عمر بن عبد البر: هذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد الله، ومن حديث علي بن أبي طالب. وأكثر الآثار ليس فيها استثناء بطن عرفة من عرفة، وبطن محسر من المزدلفة.
[1888]:- أي كفّت الكاف عن العمل، وكونها مصدرية أولى، أي كهدايته، والفرق بين المصدرية والكافة أن (ما) المصدرية تكون هي وما بعدها في موضع جر إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر، والكافة لا يكون فيها ذلك إذ لا عمل لها البثّةَ.
[1889]:- ومعناها: ما كنتم من قبل الهدى إلا ضالين، والهداية هداية الإيمان، والضلال ضلال الكفر.