وقوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أي : نخصك وحدك بالعبادة
والاستعانة ، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر ، وهو إثبات الحكم للمذكور ، ونفيه عما عداه . فكأنه يقول : نعبدك ، ولا نعبد غيرك ، ونستعين بك ، ولا نستعين بغيرك .
وقدم{[31]} العبادة على الاستعانة ، من باب تقديم العام على الخاص ، واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده .
و { العبادة } اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال ، والأقوال الظاهرة والباطنة . و { الاستعانة } هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ، ودفع المضار ، مع الثقة به في تحصيل ذلك .
والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية ، والنجاة من جميع الشرور ، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما . وإنما تكون العبادة عبادة ، إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله . فبهذين الأمرين تكون عبادة ، وذكر { الاستعانة } بعد { العبادة } مع دخولها فيها ، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى . فإنه إن لم يعنه الله ، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر ، واجتناب النواهي .
( إياك نعبد وإياك نستعين ) . . وهذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة . فلا عبادة إلا لله ، ولا استعانة إلا بالله .
وهنا كذلك مفرق طريق . . مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية ، وبين العبودية المطلقة للعبيد ! وهذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل . التحرر من عبودية الأوهام . والتحرر من عبودية النظم ، والتحرر من عبودية الأوضاع . وإذا كان الله وحده هو الذي يعبد ، والله وحده هو الذي يستعان ، فقد تخلص الضمير البشري من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص ، كما تخلص من استذلال الأساطير والأوهام والخرافات . .
وهنا يعرض موقف المسلم من القوى الإنسانية ، ومن القوى الطبيعية . .
فأما القوى الإنسانية - بالقياس إلى المسلم - فهي نوعان : قوة مهتدية ، تؤمن بالله ، وتتبع منهج الله . . . وهذه يجب أن يؤازرها ، ويتعاون معها على الخير والحق والصلاح . . وقوة ضالة لا تتصل بالله ولا تتبع منهجه . وهذه يجب أن يحاربها ويكافحها ويغير عليها .
ولا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية . فهي بضلالها عن مصدرها الأول - قوة الله - تفقد قوتها الحقيقة . تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها . وذلك كما ينفصل جرم ضخم من نجم ملتهب ، فما يلبث أن ينطفيء ويبرد ويفقد ناره ونوره ، مهما كانت كتلته من الضخامة . على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها وحرارتها ونورها : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) . . غلبتها باتصالها بمصدر القوة الأول ، وباستمدادها من النبع الواحد للقوة وللعزة جميعا .
وأما القوى الطبيعية فموقف المسلم منها هو موقف التعرف والصداقة ، لا موقف التخوف والعداء . ذلك أن قوة الإنسان وقوة الطبيعة صادرتان عن إرادة الله ومشيئته ، محكومتان بإرادة الله ومشيئته ، متناسقتان متعاونتان في الحركة والاتجاه .
إن عقيدة المسلم توحي إليه أن الله ربه قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقا مساعدا متعاونا ؛ وأن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمل فيها . ويتعرف إليها ، ويتعاون وإياها ، ويتجه معها إلى الله ربه وربها . وإذا كانت هذه القوى تؤذيه أحيانا ، فإنما تؤذيه لأنه لم يتدبرها ولم يتعرف إليها ، ولم يهتد إلى الناموس الذي يسيرها .
ولقد درج الغربيون - ورثة الجاهلية الرومانية - على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم : " قهر الطبيعة " . . ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية المقطوعة الصلة بالله ، وبروح الكون المستجيب لله . فأما المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم ، الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبحة لله رب العالمين .
فيؤمن بأن هنالك علاقة أخرى غير علاقة القهر والجفوة . أنه يعتقد أن الله هو مبدع هذه القوى جميعا . خلقها كلها وفق ناموس واحد ، لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدرة لها بحسب هذا الناموس . وأنه سخرها للإنسان ابتداء ويسر له كشف أسرارها ومعرفة قوانينها . وأن على الإنسان أن يشكر الله كلما هيأ له أن يظفر بمعونة من إحداها . فالله هو الذي يسخرها له ، وليس هو الذي يقهرها : سخر لكم ما في الأرض جميعا . .
وإذن فإن الأوهام لن تملأ حسه تجاه قوى الطبيعة ؛ ولن تقوم بينه وبينها المخاوف . . إنه يؤمن بالله وحده ، ويعبد الله وحده ، ويستعين بالله وحده . وهذه القوى من خلق ربه . وهو يتأملها ويألفها ويتعرف أسرارها ، فتبذل له معونتها ، وتكشف له عن أسرارها . فيعيش معها في كون مأنوس صديق ودود . . وما أروع قول الرسول [ ص ] وهو ينظر إلى جبل أحد : " هذا جبل يحبنا ونحبه " . . ففي هذه الكلمات كل ما يحمله قلب المسلم الأول محمد [ ص ] من ود وألفة وتجاوب بينه وبين الطبيعة في أضخم وأخشن مجاليها .
{ إياك نعبد وإياك نستعين } ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك ، أي يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة ، ليكون أدل على الاختصاص ، وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود ، فكأن المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغيبة حضورا ، بني أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ، ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عيانا ويناجيه شفاها .
اللهم اجعلنا من الواصلين للعين دون السامعين للأثر ، ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطا للسامع ، فيعدل من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس ، كقوله تعالى { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } وقوله : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه } وقول امرئ القيس :
تطاول ليلك بالإثمد *** ونام الخلي ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة *** كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءني *** وخبرته عن أبي الأسود
وإيا ضمير منصوب منفصل ، وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب ، كالتاء في أنت والكاف في أرأيتك . وقال الخليل إيا مضاف إليها ، واحتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ، وهو شاذ لا يعتمد عليه . وقيل هي الضمائر ، وإيا عمدة فإنها لما فصلت عن العوامل تعذر النطق بها مفردة فضم إليها إيا لتستقل به ، وقيل : الضمير هو المجموع . وقرئ { إياك } بفتح الهمزة و " هياك " بقلبها هاء .
والعبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلل ومنه طريق معبد أي مذلل ، وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة ، ولذلك لا تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى .
والاستعانة : طلب المعونة وهي : إما ضرورية ، أو غير ضرورية والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل . وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي ، أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه ، وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف والمراد طلب المعونة في المهمات كلها ، أو في أداء العبادات ، والضمير المستكن في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة ، وحاضري صلاة الجماعة . أو له ولسائر الموحدين . أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها ولهذا شرعت الجماعة وقدم .
المفعول للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما ( معناه نعبدك ولا نعبد غيرك ) وتقديم ما هو مقدم في الوجود والتنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات ، ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ووصلة سنية بينه وبين الحق ، فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه ، حتى إنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها إلا من حيث أنها ملاحظة له ومنتسبة إليه ، ولذلك فضل ما حكى الله عن حبيبه حين قال { لا تحزن إن الله معنا } على ما حكاه عن كليمه حين قال : { إن معي ربي سيهدين } . وكرر الضمير للتنصيص على أنه المستعان به لا غير ، وقدمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي ، ويعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة .
وأقول : لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما يصدر عنه ، فعقبه بقوله : { وإياك نستعين } ليدل على أن العبادة أيضا مما لا يتم ولا يستتب له إلا بمعونة منه وتوفيق ، وقيل : الواو للحال والمعنى نعبدك مستعينين بك . وقرئ بكسر النون فيهما وهي لغة بني تميم فإنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها .
إذا أتم الحامِدُ حَمْد ربه يأخذ في التوجه إليه بإظهار الإخلاص له انتقالاً من الإفصاح عن حق الرب إلى إظهار مراعة ما يقتضيه حقه تعالى على عبده من إفراده بالعبادة والاستعانة . فهذا الكلام استئناف ابتدائي .
ومُفَاتَحَة العظماء بالتمجيد عند التوجه إليهم قَبْلَ أن يخاطَبوا طريقة عربية . روى أبو الفرج الأصفهاني عن حسان بن ثابت قال : كنتُ عند النعمان فَنادَمْتُه وأَكَلْتُ معه فبينَا أنا على ذلك معه في قُبَّة إذَا رجلٌ يَرْتجز حولَها :
أَصمَّ أمْ يَسمع ربُّ القبه *** يا أَوْهَبَ النَّاسِ لِعيسٍ صُلْبَه
ضَرَّابَةٍ بالمِشْغَرِ الأذِبَّة *** ذَاتِ هِبابٍ في يَدَيْها خُلْبَـهْ
في لاَحب كأنَّه الأَطِبَّهْ{[60]}
فقال النعمان : أليس بأبي أُمَامَة ؟ ( كنية النابغة ) قالوا : بلى ، قال : فأْذَنوا له فدخل .
والانتقال من أسلوب الحديث بطريق الغائب المبتدإِ من قوله : { الحمد لله } إلى قوله : { ملك يوم الدين } ، إلى أسلوب طريق الخطاب ابتداءً من قوله { إياك نعبد } إلى آخر السورة ، فن بديع من فنون نظم الكلام البليغ عند العرب ، وهو المسمى في علم الأدب العربي والبلاغة التفاتاً . وفي ضابط أسلوب الالتفات رأيان لأئمة علم البلاغة : أحدهما رأي مَن عدا السكاكي من أئمة البلاغة وهو أن المتكلم بعد أن يعبِّر عن ذات بأحد طرق ثلاثة من تكلم أو غيبة أو خطاب ينتقل في كلامه ذلك فيعبر عن تلك الذات بطريق آخر من تلك الثلاثة ، وخالفهم السكاكي فجعل مسمى الالتفات أن يعبِّر عن ذات بطريق من طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة عادلاً عن أحدهما الذي هو الحقيق بالتعبير في ذلك الكلام إلى طريق آخر منها .
ويظهر أثر الخلاف بين الجمهور والسكاكي في المحسِّن الذي يسمى بالتجريد في علم البديع مثل قول علقمة بن عبده في طالع قصيدته :
طَحَا بكَ قلبٌ في الحسان طروب ***
مخاطباً نفسه على طريقة التجريد ، فهذا ليس بالتفات عند الجمهور وهو معدود من الالتفات عند السكاكي ، فتسمية الالتفات التفاتاً على رأي الجمهور باعتبار أن عدول المتكلم عن الطريق الذي سلكه إلى طريق آخر يشبه حالة الناظر إلى شيء ثم يلتفت عنه ، وأما تسميته التفاتاً على رأي السكاكي فتجري على اعتبار الغالب من صور الالتفات دون صورة التجريد ، ولعل السكاكي التزم هذه التسمية لأنها تقررت من قبله فتابع هو الجمهور في هذا الاسم . ومما يجب التنبه له أن الاسم الظاهر معتبر من قبيل الغائب على كلا الرأيين ، ولذلك كان قوله تعالى : { إياك نعبد } التفاتاً على كلا الرأيين لأن ما سبق من أول السورة إلى قوله { إياك نعبد } تعْبير بالاسم الظاهر وهو اسم الجلالة وصفاته .
ولأهل البلاغة عناية بالالتفات لأن فيه تجديدَ أسلوب التعْبير عن المعنى بعينه تحاشياً من تكرر الأسلوب الواحد عدة مرار فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كي لا يمل من إعادة أسلوب بعينه .
قال السكاكي في « المفتاح » بعد أن ذكر أن العرب يستكثرون من الالتفات : « أَفتراهم يحسنون قِرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطَعْم وطَعْم ولا يحسنون قِرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب » . فهذه فائدة مطردة في الالتفات . ثم إن البلغاء لا يقتصرون عليها غالباً بل يراعون للالتفات لطائف ومناسبات ولم يزل أهل النقد والأدب يستخرجون ذلك من مغاصه .
وما هنا التفاتٌ بديع فإن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات بلغت به الفكرة منتهاهَا فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال ، كعكس هذا الالتفاتتِ في قول محمد بن بشير الخارجي ( نسبَة إلى بني خارجة قبيلة ) :
ذُممتَ ولم تُحمد وأدركتُ حاجةً *** تولَّى سواكم أَجرَها واصطناعها
أَبى لك كَسْبَ الحمدِ رأيٌ مقصِّرُ *** ونفسٌ أضاق اللَّهُ بالخير باعها
إذا هي حثتْه على الخير مــرة *** عصاها وإنْ هَمَّت بشرَ أطاعها
فخاطبه ابتداء ثم ذكر قصور رأيه وعدم انطباع نفسه على الخير فالتفت من خطابه إلى التعبير عنه بضمير الغيبة فقال : إذا هي حثته فكأنه تخيله قد تضاءل حتى غاب عنه ، وبعكس ذلك قوله تعالى : { والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي } [ العنكبوت : 23 ] لاعتبار تشنيع كفر المتحدَّث عنهم بأنهم كفروا بآيات صاحب ذلك الاسم الجليل ، وبعد تقرر ذلك انتقل إلى أسلوب ضمير المتكلم إذ هو الأصل في التعبير عن الأشياء المضافة إلى ذات المتكلم . ومما يزيد الالتفات وقعاً في الآية أنه تخلص من الثناء إلى الدعاء ولا شك أن الدعاء يقتضي الخطاب فكان قوله : { إياك نعبد } تخلصاً يجىء بعده : { اهدنا الصراط } ونظيره في ذلك قول النابغة في رثاء النعمان الغساني :
أبى غفلتي أَني إذا ما ذكرتـه *** تحرك داء في فُؤَادِيَ داخـــل
وأن تِلاَدِي إنْ نظرتُ وشكَّتِي *** ومُهري وما ضَمَّت إليَّ الأنامـل
حِباؤُك والعيسُ العتاقُ كأنهـا *** هِجان المَهى تُزْجى عليها الرحائل
وأبو الفتح ابن جني يسمى الالتفات « شَجاعة العربية » كأنه عنى أنه دليل على حدة ذهن البليغ وتمكنه من تصريف أساليب كلامه كيف شاء كما يتصرف الشجاع في مجال الوغي بالكر والفر .
و ( إياك ) ضمير خطاب في حالة النصب . والأظهر أن كلمة إيا جعلت ليَعْتَمِد عليها الضمير عند انفصاله ولذلك لزمتها الضمائر نحو : إياي تعني ، وإيَّاك أعني ، وإيَّاهم أرجو . ومن هنالك التزم في التحذير لأن الضمير انفصل عند التزام حذف العامل . ومن النحاة من جعل ( إيَّا ) ضميراً منفصلاً ملازماً حالة واحدة وجعل الضمائر التي معه أضيفت إليه للتأكيد . ومنهم من جعل ( إيَّا ) هو الضمير وجعل ما بعده حروفاً لبيان الضمير . ومنهم من جعل ( إيَّا ) اعتماداً للضمير كما كانت أيٌّ اعتماداً للمنادى الذي فيه ال . ومنهم من جعل ( إيَّا ) اسماً ظاهراً مضافاً للمضمَرات .
والعبادة فعل يدل على الخضوع أو التعظيم الزائدين على المتعارف بين الناس . وأما إطلاقها على الطاعة فهو مجاز .
والعبادة في الشرع أخص فتُعرَّف بأنها فعل ما يرضي الرب من خضوع وامتثال واجتناب ، أو هي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربه ، وقال الرازي في تفسير قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] > ا هـ فهي بهذا التفسير تشمل الامتثال لأحكام الشريعة كلها .
وقد فسر الصوفية العبادة بأنها فعل ما يرضي الرب ، والعبودية بالرضا بما يفعل الرب . فهي أقوى . وقال بعضهم : العبودية الوفاء بالعهود ، وحفظ الحدود ، والرضا بالموجود . والصبر على المفقود . وهذه اصطلاحات لا مشاحة فيها .
قال الفخر : ( ( مراتب العبادة ثلاث : الأولى أن يعبد الله طمعاً في الثواب وخوفاً من العقاب وهي العبادة ، وهي درجة نازلة ساقطة لأنه جعل الحق وسيلة لنيل المطلوب . الثانية أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته والانتساب إليه بقبول تكاليفه وهي أعلى من الأولى إلا أنها ليست كاملة لأن المقصود بالذات غير الله . الثالثة أن يعبد الله لكونه إلها خالقاً مستحقاً للعبادة وكونه هو عبداً له ، وهذه أعلى المقامات وهو المسمى بالعبودية ) ) ا هـ .
قلت ولم يسم الإمام المرتبة الثالثة باسم والظاهر أنها ملحقة في الاسم بالمرتبة الثالثة أعني العبودية لأن الشيخ ابن سينا قال في « الإشارات » : ( ( العارف يريد الحق لا لشيء غيره ولا يُؤْثِر شيئاً على عرفانه وتعبُّدُه له فقط ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا لرغبة أو رهبة ) ) ا هـ فجعلهما حالة واحدة .
وما ادعاه الفخر في سقوط الدرجة الأولى ونزول مرتبتها قد غلب عليه فيه اصطلاح غلاة الصوفية وإلا فإن العبادة للطمع والخوف هي التي دعا إليها الإسلام في سائر إرشاده ، وهي التي عليها جمهور المؤمنين وهي غاية التكليف ، كيف وقد قال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] فإن بلغ المكلف إلى المرتبتين الأخريين فذلك فضل عظيم وقليل ما هم ، على أنه لا يخلو من ملاحظة الخوف والطمع في أحوال كثيرة ، نعم إن أفاضل الأمة متفاوتون في الاحتياج إلى التخويف والإطماع بمقدار تفاوتهم في العلم بأسرار التكليف ومصالحه وتفاوتهم في التمكن من مغالبة نفوسهم ، ومع ذلك لا محيص لهم عن الرجوع إلى الخوف في أحوال كثيرة والطمع في أحوال أكثر . وأعظم دليل على ما قلنا أن الله تعالى مدح في كتابه المتقين في مواضع جمة ودعا إلى التقوى ، وهل التقوى إلا كاسمهما بمعنى الخوف والاتقاء من غضب الله قال تعالى : { ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } [ الإسراء : 57 ] .
والمرتبة الثالثة هي التي أشار لها قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له كيف تُجهد نفسك في العبادة وقد غَفَر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال : " أفلا أكون عبداً شكوراً " لأن من الظاهر أن الشكر هنا على نعمة قد حصلت فليس فيه حظ للنفس بالطمع في المزيد لأن الغفران العام قد حصل له فصار الشكر لأجل المشكور لا غير وتمحض أنه لا لخوف ولا طمع{[61]} .
واعلم أن من أهم المباحث البحثَ عن سر العبادة وتأثيرها وسر مشروعيتها لنا وذلك أن الله تعالى خلق هذا العالم ليكون مظهراً لكمال صفاته تعالى : الوجود ، والعلم ، والقدرة . وجعل قبول الإنسان للكمالات التي بمقياسها يَعلم نسبة مبلغ علمه وقدرته من علم الله تعالى وقدرته ، وأودع فيه الروح والعقل اللذين بهما يزداد التدرج في الكمال ليكون غير قانع بما بلغه من المراتب في أوج الكمال والمعرفة ، وأرشده وهداه إلى ما يستعين به على مرامه ليحصل له بالارتقاء العاجل رُقيّ آجل لا يضمحل ، وجعل استعداده لقبول الخيرات كلها عاجلها وآجلها متوقفاً على التلقين من السَّفَرَة الموحَى إليهم بأصول الفضائل . ولما توقف ذلك على مراقبة النفس في نَفَرَاتها وشَرَدَاتها وكانت تلك المراقبة تحتاج إلى تذكر المُجازي بالخير وضده ، شُرعت العبادة لِتَذَكُّرِ ذلك المُجازي لأن عدم حضور ذاته واحتجابَه بسُبحات الجلال يُسَرِّب نسيانَه إلى النفوس ، كما أنه جعل نظامه في هذا العالم متصلَ الارتباط بين أفراده فأمرهم بلزوم آداب المعاشرة والمعاملة لئلا يفسُد النظام ، ولمراقبة الدوام على ذلك أيضاً شُرعت العبادة لتذكِّرَ به ، على أن في ذلك التذكر دوامَ الفكر في الخالق وشؤونه وفي ذلك تخلق بالكمالات تدريجاً فظهر أن العبادة هي طريق الكمال الذاتي والاجتماعي مَبدأً ونهايةً ، وبه يتضح معنى قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] فالعبادة على الجملة لا تخرج عن كونها محقِّقة للمقصد من الخلق ، ولما كان سرُّ الخلق والغايةُ منه خفيةَ الإدراكِ عَرَّفنا الله تعالى إياها بمظهرها وما يحققها جمعاً لعظيم المعاني في جملة واحدة وهي جملة : { إلا ليعبدون } ، وقريب من هذا التقرير الذي نحوناه وأقل منه قول الشيخ ابن سينا في « الإشارات » : ( ( لما لم يكن الإنسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه إلا بمشاركة آخر من بني جنسه وبمعاوضة ومعارضة تجريان بينهما يُفرغ كل واحد منهما لصاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير وكانَ مما يتعسر إنْ أمكن ، وجب أن يكون بين الناس معاملة وعدل يحفَظه شرعٌ يَفرِضه شارع متميزٌ باستحقاق الطاعة ووجب أن يكون للمحسن والمسيء جزاء من عند القدير الخبير ، فوجب معرفة المُجازي والشارع وأن يكون مع المعرفة سبب حافظ للمعرفة ففُرِضت عليهم العبادة المذكِّرة للمعبود ، وكررت عليهم ليُسْتَحْفَظ التذكيرُ بالتكرير ) ) ا هـ .
لا شك أن داعي العبادة التعظيم والإجلال وهو إما عن محبة أو عن خوف مجرد ، وأهمه ما كان عن محبة لأنه يرضي نفس فاعله قال :
أهابكِ إجلالاً وما بككِ قدرةٌ *** عليّ ولكن ملء عين حبيبها
وهي تستلزم الخوف من غضب المحبوب قال محمود الوراق أو منصور الفقيه :
تَعصي الإله وأنتَ تُظهر حبَّه *** هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأَطَعْتَـه *** إن المحبَّ لمن يُحِب مطيع
ولذلك قال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] فذلك يشعر بأن اتباع الشريعة يوجب محبة الله وأن المحب يود أن يحبه حبيبه كما قال المتنبي :
أنت الحبيب ولكني أعوذ به *** من أن أكون مُحباً غير محبوب
وإلى هذا النوع ترجع عبادة أكثر الأمم ، ومنها العبادة المشروعة في جميع الشرائع لأنها مبنية على حب الله تعالى ، وكذلك عبادة المشركين أصنامهم قال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } [ البقرة : 165 ] . ومن الأمم من عبدت عن خوف دون محبة وإنما هو لاتقاء شر كما عبدت بعض الأمم الشياطين وعبدت المانوية من المجوس المعبود ( أهْرُمُنْ ) وهو عندهم رب الشر والضر ويرمزون إليه بعنصر الظُلمة وأنه تولد من خاطر سوء خطر للرب ( يَزْدَان ) إله الخير ، قال المعري :
فَكَّرَ يَزْدَانُ على غِرة *** فَصِيغَ من تفكيره أَهْرُمُنْ
والحصر المستفاد من تقديم المعمول في قوله تعالى : { إياك نعبد } حصر حقيقي لأن المؤمنين الملقَّنين لهذا الحمد لا يعبدون إلا الله . وزعم ابن الحاجب في « إيضاح المفصل » في شرح ديباجة « المفصل » عند قول الزمخشري « اللهََ أحمد » أن التقديم لا يفيد إلا الاهتمام دون حصر وأن قوله تعالى : { إياك نعبد } تقديم المفعول للاهتمام دون قصر وأن تمسكهم بقوله : { بل الله فاعْبُد } [ الزمر : 66 ] ضعيف لورود : { فاعبد الله مخلصا له الدين } [ الزمر : 2 ] وإبطال رأيه مقرر في كتب علم المعاني .
وأنا أرى استدلاله بورود قوله تعالى : { فاعبد الله } لا يليق بمقامه العلمي إذ لا يظن أن محامل الكلام متماثلة في كل مقام ، { وإياك نستعين } جملة معطوفة على جملة { إياك نعبد } وإنما لم تفصل عن جملة { إياك نعبد } بطريقة تعداد الجمل مقام التضرع ونحوه من مقامات التعداد والتكرير كلاً أو بعضاً للإشارة إلى خطور الفعلين جميعاً في إرادة المتكلمين بهذا التخصيص ، أي نخصك بالاستعانة أيضاً مع تخصيصك بالعبادة .
والاستعانةُ طلب العون . والعون والإعانة تسهيل فعلِ شيء يشُق ويعسُر على المستعين وحدَه ، فهي تحصل بإعداد طريق تحصيله من إعارة آلة ، أو مشاركة بعمل البدن كالحمل والقَوْد ، أو بقول كالإرشاد والتعليم ، أو برأي كالنصيحة . قال الحريري في المقامة : « وخُلُقي نعم العون » ، أو بمال كدفع المغرم ، بحيث يحصل الأمر بعسير من جهود المستعين والمعين .
وأما الاستعانة بالله فهي طلب المعونة على ما لا قِبل للبشر بالإعانة عليه ولا قبل للمستعين بتحصيله بمفرده ، ولذلك فهي مشعرة بأن المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من الله العون عليه بتيسير ما لا قِبل لقدرة المستعين على تحصيله بمفرده ، فهذه هي المعونة شرعاً .
وقد فسرها العلماء بأنها هي خَلْق ما به تمامُ الفعل أو تيسيرُه ، فتنقسم قسمين ضرورية أي ما يتوقف الفعل عليها فلا يحصل بدونها أي لا يحصل بدون توفر متعلقها وهي إعطاء الاقتدار للفاعل وتصوره للفعل وحصول المادة والآلة ، ومجموع هاته الأربعة يعبر عنه بالاستطاعة ، ويعبر عنها بسلامة الأسباب والآلات وبها يصح تكليف المستطيع .
القسم الثاني المعونة غير الضرورية وينبغي أن تخص باسم الإعانة وهي إيجاد المُعين ما يتيسر به الفعل للمُعان حتى يسهل عليه ويقرب منه كإعداد الراحلة في السفر للقادر على المشي . وبانضمام هذا المعنى للمعنى الأول تتم حقيقة التوفيق المعرف عندهم بأنه خلق القدرة والداعية إلى الطاعة ، وسمى الراغب هذا القسم الثاني بالتوفيق ولا تعارض بين كلامه وبين تعريفهم إياه لما علمت من أنه لا يحصل إلا بعد حصول المعونة بالمعنى الأول فتم التوفيق ؛ والمقصود هنا الاستعانة على الأفعال المهمة كلها التي أعلاها تلقي الدين وكلِّ ما يعسر على المرء تذليله من توجهات النفوس إلى الخير وما يستتبع ذلك من تحصيل الفضائل . وقرينة هذا المقصود رسمه في فاتحة الكتاب ووقوعُ تخصيص الإعانة عقب التخصيص بالعبادة . ولذلك حذف متعلِّق { نستعين } الذي حقه أن يذكر مجروراً بعلى ، وقد أفاد هذا الحذفُ الهامُّ عموم الاستعانة المقصورة على الطلب من الله تأدباً معه تعالى ، ومن توابع ذلك وأسبابه وهي المعارف والإرشادات والشرائع وأصول العلوم فكلها من الإعانة المطلوبة وكلها من الله تعالى فهو الذي ألهمنا مبادىء العلوم وكلفنا الشرائع ولقننا النطق ، قال : { ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين } [ البلد : 8 10 ] فالأول إيماء إلى طريق المعارف وأصلُها المحسوسات وأعلاها المبصرات ، والثاني إيماء إلى النطق والبيان للتعليم ، والثالث إلى الشرائع .
والحصر المستفاد من التقديم في قوله : { وإياك نستعين } حصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بالاستعانات المتعارفة بين الناس بعضهم ببعض في شؤونهم ، ومعنى الحصر هنا لا نستعين على عظائم الأمور التي لا يستعان فيها بالناس إلا بالله تعالى . ويفيد هذا القصر فيهما التعريض بالمشركين الذين يعبدون غير الله ويستعينون بغيره لأنهم كانوا فريقين منهم من عبد غير الله على قصد التشريك إلا أَن وَلَعه واستهتاره بغير الله تعالى أنساه عبادة الله تعالى كما عبدت سَبأ الشمسَ وعبد الفُرس النورَ والظلمة ، وعبدَ القِبط العِجل وألَّهوا الفراعنة ، وعبدت أمم السودان الحيوانات كالثعابين . ومن المشركين من أشرك مع عبادة الله عبادة غيره وهذا حال معظم العرب ممن عبد الأصنام أو عبد الكواكب ، فقد عبدت ضبة وتَيْم وعُكْل الشمسَ ، وعبدت كنانةُ القمَر ، وعبدت لخم وخزاعةُ وبعض قريش الشِّعْرى ، وعبدت تميم الدبَران ، وعبدت طيىء الثُريا ، وهؤلاء كلهم جعلوا الآلهة بزعمهم وسيلة يتقربون بها إلى الله تعالى ، فهؤلاء جمعوا العبادة والاستعانة بهم لأنَّ جَعْلَهم وسيلة إلى الله ضربٌ من الاستعانة ، وإنما قلنا إن استفادة الرد على المشركين ونحوهم بطريق التعريض أي بطريق عُرض الكلام لأن القصر الحقيقي لا يصلح أن يكون لرد الاعتقاد إلا تعريضاً لأن معناه حاصل على الحقيقة كما أشار إليه السلكوتي في « حاشية التفسير » .
فإن قلت كيف أمرنا بأن لا نعبد إلا الله ولا نستعين إلا به حسبما تشير إليه هذه الآية ، وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علَّم عبد الله بن عباس قال له « إذا سَأَلْتَ فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله » فلم يأت بصيغة قصر . قلت قد ذكر الشيخ الجد قدس الله روحه في تعليقه على هذا الحديث أن ترك طريقة القصر إيماء إلى أن المَقام لا يقبل الشركة وأن من حق السؤال أن لا يكون إلا لله القادر العليم ، وقد قال علماء البلاغة إذا كان الفعل مقصوراً في نفسه فارتكاب طريق القصر لغو من الكلام ا هـ .
وأقول تقفيةً على أثره إن مقام الحديث غير مقام الآية فمقام الحديث مقام تعليم خاص لمن نشأ وشب وترجل في الإسلام فتقرُّرُ قصر الحكم لديه على طَرَف الثمام ولذلك استغنى عنه وأما مقام هذه الآية فمقام مفتَتح الوحي والتشريع واستهلال الوعظ والتقريع ، فناسب تأكيد الحكم بالقصر مع التعريض بحال الشرك الشنيع على أن تعليق الأمر بهما في جواب الشرط على حصول أيّ سؤال وأية استعانة يفيد مفاد القصر تعريضاً بالمشركين وبراءة من صنيعهم فقد كانوا يستعينون بآلهتهم . ومن ذلك الاستقسام بالأزلام الموضوعة عند الآلهة والأصنام .
وضميرا { نعبد ونَستعين } يعودَان إلى تالي السورة ذاكراً معه جماعة المؤمنين . وفي العدول عن ضمير الواحد إلى الإتيان بضمير المتكلم المشارَك الدلالة على أن هذه المحامد صادرة من جماعات ، ففيه إغاظة للمشركين إذ يعلمون أن المسلمين صاروا في عِزة ومَنَعة ، ولأنه أبلغ في الثناء من أعبد وأستعين لئلا تخلو المناجاة عن ثناء أيضاً بأن المحمود المعبود المستعان قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله ، وقريب من هذا قول النابغة في رثاء النعمان بن الحارث الغساني :
قعودا له غسان يرجون أوْبَة *** وتُركٌ ورهطُ الأعجمين وكابُل
إذ قصد من تعداد أصناف من الأمم الكناية عن عظمة النعمان وكثرة رعيته . فكَأَنَّ الحامد لما انتقل من الحمد إلى المناجاة لم يغادر فرصة يقتنص منها الثناء إلا انتهزها .
ووجهه تقديم قوله { إياك نعبد } على قوله : { وإياك نستعين } أن العبادة تقرُّب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة ، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدِّم المناجي ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك ، ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبوداً للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل . وقد حصل من ذلك التقديم أيضاً إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان .
وأعيد لفظ { إياك } في الاستعانة دون أن يعطف فعل { نستعين } على { نعبد } مع أنهما مقصودان جميعاً كما أنبأ عنه عطف الجملة على الجملة لأن بين الحصرين فرقاً ، فالحصر في { إياك نعبد } حقيقي والقصر في { إياك نستعين ادعائي فإن المسلم قد يستعين غير الله تعالى كيف وقد قال تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } [ المائدة : 2 ] ولكنه لا يستعين في عظائم الأمور إلا بالله ولا يعد الاستعانة حقيقة إلا الاستعانة بالله تعالى .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"إِيّاكَ نَعْبُدُ": لك اللهم نخشع ونذلّ ونستكين، إقرارا لك يا ربنا بالربوبية لا لغيرك...
"وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ": وإيّاك ربنا نستعين على عبادتنا إياك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها لا أحد سواك، إذ كان من يكفر بك يستعين في أموره معبوده الذي يعبده من الأوثان دونك، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة...
فإن قال قائل: وما معنى أمر الله عباده بأن يسألوه المعونة على طاعته؟ أوَ جائز وقد أمرهم بطاعته أن لا يعينهم عليها؟ أم هل يقول قائل لربه: إياك نستعين على طاعتك، إلا وهو على قوله ذلك مُعان، وذلك هو الطاعة، فما وجه مسألة العبد ربه ما قد أعطاه إياه؟ قيل: إن تأويل ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه، وإنما الداعي ربه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه، داعٍ أن يعينه فيما بقي من عمره على ما كلفه من طاعته، دون ما قد تَقَضّى ومضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره. وجازت مسألة العبد ربّه ذلك لأن إعطاء الله عبده ذلك مع تمكينه جوارحه لأداء ما كلفه من طاعته وافترض عليه من فرائضه، فضل منه جل ثناؤه تفضّل به عليه، ولطف منه لطف له فيه، وليس في تركه التفضل على بعض عبيده بالتوفيق مع اشتغال عبده بمعصيته وانصرافه عن محبته، ولا في بسطه فضله على بعضهم مع إجهاد العبد نفسه في محبته ومسارعته إلى طاعته فساد في تدبير ولا جور في حكم، فيجوز أن يجهل جاهل موضع حكم الله، وأمره عبده بمسألته عونه على طاعته...
وقوله: {نَعْبُدُ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن العبادة الخضوع، ولا يستحقها إلا الله تعالى، لأنها أعلى مراتب الخضوع، فلا يستحقها إلا المنعم بأعظم النعم، كالحياة والعقل والسمع والبصر.
... والعبادة ضرب من الشكر مع ضرب من الخضوع، ولا تستحق إلا بأصول النعم التي هي خلق الحياة والقدرة والشهوة، وما يقدر من النعم لا يوازيه نعمة منعم، فلذلك اختص الله بأن يعبد وإن استحق بعضنا على بعض الشكر. والعبادة في اللغة الذلة، يقال: هذا طريق معبد، إذا كان مذللا بكثرة الوطء، وبعير معبد أي مذلل بالركوب... وسمي العبد عبدا لذلته لمولاه...
و"نستعين" أي نطلب منك المعونة على طاعتك وعبادتك... والتقدير في أول السورة إلى ههنا، أي: قل يا محمد هذا الحمد.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{إياك نعبد وإياك نستعين} يشتمل على ركنين عظيمين:
أحدهما: العبادة مع الإخلاص بالإضافة إليه خاصة، وذلك هو روح الصراط المستقيم.
والثاني: اعتقاد أنه لا يستحق العبادة سواه، وهو لباب عقيدة التوحيد، وذلك بالتبري عن الحول والقوة، ومعرفة أن الله منفرد بالأفعال كلها، وأن العبد لا يستقل بنفسه دون معونته.
فقوله: {إياك نعبد} إشارة إلى تحلية النفس بالعبادة والإخلاص،
وقوله: {وإياك نستعين} إشارة إلى تزكيتها عن الشرك والالتفات إلى الحول والقوة.
ومدار سلوك الصراط المستقيم على قسمين:
أحدهما: التزكية بنفي ما ينبغي.
والثاني: التحلية بتحصيل ما ينبغي، وقد اشتمل عليهما كلمتان من جملة الفاتحة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه: ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوّة النسج، ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى، لأنه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع.
[والعدول] عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب يسمى الالتفات في علم البيان... وذلك على عادة افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه، ولأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظاً للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بفوائد.
ومما اختص به هذا الموضع، أنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه تلك الصفات العظام، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات، فقيل:"إياك" يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة، لا نعبد غيرك ولا نستعينه، ليكون الخطاب أدل على أنّ العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به.
[وإنما] قرنت الاستعانة بالعبادة... ليجمع بين ما يتقرّب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته... [و] قدّمت العبادة على الاستعانة... لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة ليستوجبوا الإجابة إليها...
[وأطلقت] الاستعانة... ليتناول كل مستعان فيه، والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، ويكون قوله: {اهدنا} بياناً للمطلوب من المعونة، كأنه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: "اهدنا الصراط المستقيم"، وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{إياك نعبد} نطق المؤمن به إقرار بالربوبية وتذلل وتحقيق لعبادة الله، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك، وقدم المفعول على الفعل اهتماماً، وشأن العرب تقديم الأهم...
و {نعبد} معناه نقيم الشرع والأوامر مع تذلل واستكانة...
وتكررت {إياك} بحسب اختلاف الفعلين، فاحتاج كل واحد منهما إلى تأكيد واهتمام.
و {نستعين} معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا، وهذا كله تبرؤ من الأصنام.
وأما قوله تعالى {إياك نعبد وإياك نستعين} فاعلم أن العبادة عبارة عن الإتيان بالفعل المأمور به على سبيل التعظيم للآمر... فإنه أمر عباده ببعض الأشياء، ونهاهم عن بعضها، وأنه يجب على الخلائق طاعته والانقياد لتكاليفه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقدم المفعول وهو {إياك}، وكرر للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين يرجع كله إلى هذين المعنيين. وهذا كما قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عز وجل. وهذا المعنى في غير آية من القرآن، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29] {رَب الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} [المزمل: 9]...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما استجمع الأمر استحقاقاً وتحبيباً، وترغيباً وترهيباً، كان من شأن كل ذي لب الإقبال إليه، وقصر الهمم عليه، فقال عادلاً عن أسلوب الغيبة إلى الخطاب لهذا، مقدماً للوسيلة على طلب الحاجة، لأنه أجدر بالإجابة {إياك} أي يا من هذه الصفات صفاته {نعبد} إرشاداً لهم إلى ذلك، ومعنى {نعبد} كما قال الحرالي: نبلغ الغاية في أنحاء التذلل، وأعقبه بقوله مكرراً للضمير حثاً على المبالغة في طلب العون. {وإياك نستعين} إشارة إلى أن عبادته لا تتهيأ إلا بمعونته، وإلى أن ملاك الهداية بيده. فانظر كيف ابتدأ سبحانه بالذات، ثم دل عليه بالأفعال، ثم رقى إلى الصفات، ثم رجع إلى الذات إيماء إلى أنه الأول والآخر المحيط، فلما حصل الوصول إلى شعبة من علم الأفعال والصفات، علم الاستحقاق للأفراد بالعبادة، فعلم العجز عن الوفاء بالحق، فطلبت الإعانة، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود في الصلاة، والترمذي وابن ماجه في الدعاء، والنسائي -وهذا لفظه- في التعوذ، عن عائشة رضى الله عنها:"أعوذ بعفوك من عقوبتك، وبرضاك من سخطك، وبك منك". ثم أتبعه فيما زاد عن النسائي الاعتراف بالعجز في قوله: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"...
قال الحرالي: وهذه الآيات، أي هذه وما بعدها، مما جاء كلام الله فيه جارياً على لسان خلقه، فإن القرآن كله كلام الله، لكن منه ما هو كلام الله عن نفسه، ومنه ما هو كلام الله عما كان يجب أن ينطق به الخلق على اختلاف ألسنتهم وأحوالهم وترقي درجاتهم ورتب تفاضلهم، مما لا يمكنهم البلوغ إلى كنهه لقصورهم وعجزهم، فتولى الله الوكيل على كل شيء الإنباء عنهم بما كان يجب عليهم مما لا يبلغ إليه وُسع خلقه، وجعل تلاوتهم لما أنبأ به على ألسنتهم نازلاً لهم منزلة أن لو كان ذلك النطق ظاهراً منهم لطفاً بهم وإتماماً للنعمة عليهم، لأنه تعالى لو وكلهم في ذلك إلى أنفسهم لم يأتوا بشيء تصلح به أحوالهم في دينهم ودنياهم، ولذلك لا يستطيعون شكر هذه النعمة إلا أن يتولى هو تعالى بما يلقنهم من كلامه مما يكون أداء لحق فضله عليهم بذلك، وإذا كانوا لا يستطيعون الإنباء عن أنفسهم بما يجب عليهم من حق ربهم فكيف بما يكون نبأ عن تحميد الله وتمجيده، فإذاً ليس لهم وصلة إلا تلاوة كلامه العلي بفهم كان ذلك أو بغير فهم، وتلك هي صلاتهم المقسمة التي عبر عنها فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام من قوله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين "ثم تلا هذه السورة؛ فجاءت الآيات الثلاث الأول بحمد الله تعالى نفسه، فإذا تلاها العبد قبل الله منه تلاوة عبده كلامه وجعلها منه حمداً وثناء وتمجيدا، وجاءت هذه الآيات على لسان خلقه فكان ظاهرها التزام عُهَد العبادة وهو ما يرجع إلى العبد وعمادها طلب المعونة من الله سبحانه وهو ما يرجع إلى الحق، فكانت بينه وبين عبده وتقدمت بينيّته تعالى، لأن المعونة متقدمة على العبادة وواقعة بها وهو مجاب فيما طلب من المعونة، فمن كانت عليه مؤنة شيء فاستعان الله فيها على مقتضى هذه الآية جاءته المعونة على قدر مؤنته، فلا يقع لمن اعتمد مقتضى هذه الآية عجز عن مرام أبداً وإنما يقع العجز ببخس الحظ من الله تعالى، والجهل بمقتضى ما أحكمته هذه الآية، والغفلة عن النعمة بها. وفي قوله: {نعبد} بنون الاستتباع إشعار بأن الصلاة بنيت على الاجتماع. انتهى. وفي الآية ندب إلى اعتقاد العجز، واستشعار الافتقار، والاعتصام بحوله وقوته، فاقتضى ذلك توجيه الرغبات إليه بالسؤال فقال: {اهدنا الصراط المستقيم}...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
في سر قوله {نَعْبُدُ} دون أعبد، فقد قيل هو الإشارة إلى حال العبد، كأنه يقول: إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أذكرها وحدها لأنها ممزوجة بالتقصير، ولكن أخلطها بعبادة جميع العابدين، وأذكر الكل بعبارة واحدة حتى لا يلزم تفريق الصفقة.
وقيل: النكتة في العدول عن الإفراد التحرز عن الوقوع في الكذب، فإنا لم نزل خاضعين لأهل الدنيا متذللين لهم مستعينين في حوائجنا بمن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا حياتاً ولا موتاً ولا نشوراً، ويا ليت الفحل يهضم نفسه، فكيف يقول أحدنا إياك أعبد وإياك أستعين بالإفراد ويمكن في الجمع أن يقصد تغليب الأصفياء المتقين من الأولياء والمقربين...
وقيل: لو قال إياك أعبد لكان ذلك بمعنى: أنا العابد، ولما قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} كان المعنى أني واحد من عبيدك، وفرق بين الأمرين كما يرشدك إليه قوله تعالى حكاية عن الذبيح عليه السلام: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 2 10]، وقوله تعالى: حكاية عن موسى {سَتَجِدُنِي إِن شَاء الله صَابِرًا} [الكهف: 69] فصبر الذبيح لتواضعه بعدِّ نفسه واحداً من جمع ولم يصبر الكليم لإفراده نفسه مع أن كلاً منهما عليهما السلام قال {إِن شَاء الله}...
[و] في سر تقديم فعل العبادة على فعل الاستعانة... وجوه:
الأول: أن العبادة أمانة كما قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 2 7] فاهتم للأداء فقدم.
الثاني: أنه لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحاً واعتداداً منه بما صدر عنه فعقبه بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ليدل على أن العبادة مما لا تتم إلا بمعونة وتوفيق وإذن منه سبحانه...
الرابع: أنها وسيلة فتقدم على طلب الحاجة لأنه أدعى للإجابة.
الخامس: أنها مطلوبة لله تعالى من العباد، والاستعانة مطلوبهم منه سبحانه، فتقديم العبد ما يريده مولاه منه أدل على صدق العبودية من تقديم ما يريده من مولاه.
السادس: أن العبادة واجبة حتماً لا مناص [للعباد] عن الإتيان بها حتى جعلت كالعلة لخلق الإنس والجن فكانت أحق بالتقديم.
السابع: أنها أشد مناسبة بذكر الجزاء، والاستعانة أقوى التئاماً بطلب الهداية.
الثامن: أن مبدأ الإسلام التخصيص بالعبادة والخلوص من الشرك والتخصيص بالاستعانة بعد الرسوخ.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
إذا تتبعنا آي القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب ل (عَبَد) وما يماثلها ويقاربها في المعني – كخضع وخنع وأطاع وذل – نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي "عَبَد "ويحل محلها ويقع موقعها، ولذلك قالوا: إن لفظ "العباد" مأخوذ من العبادة فتكثر إضافته إلى الله تعالى... ولفظ "العبيد" تكثر إضافته إلى غير الله تعالى لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى الرق، وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى. ومن هنا قال بعض العلماء إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى، ولكن استعمال القرآن يخالفه، يغلو العاشق في تعظيم معشوقه والخضوع له غلوا كبيرا حتى يفنى هواه في هواه، وتذوب إرادته في إرادته، ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة. ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء، فترى من خضوعهم لهم وتحريهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين، دع سائر العابدين، ولم يكن العرب يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة، فما هي العبادة إذا؟
تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها. وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه، فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال إنه عبده، وإن قبّل موطئ أقدامه، ما دام سبب الذل والخضوع معروفا وهو الخوف من ظلمه المعهود، أو الرجاء بكرمه المحدود، اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن الملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى، واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا، لأنهم أطيب الناس عنصرا، وأكرمهم جوهرا، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد، إلى الكفر والإلحاد، فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقة. للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان، شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة وسرها، ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه، والأثر إنما يكون عن ذلك الروح والشعور الذي قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع، فإذا وجدت صورة العبادة خالية من هذا المعنى، لم تكن عبادة، كما أن صورة الإنسان وتمثاله ليس إنسانا؛ خذ إليك عبادة الصلاة مثلا، وانظر كيف أمر الله بإقامتها، دون مجرد الإتيان بها، وإقامة الشيء هي الإتيان به مقوما كاملا يصدر عن علته وتصدر عنه آثاره، وآثار الصلاة ونتائجها هي ما أنبأنا الله تعالى بها بقوله {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} وقوله عز وجل {إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين} وقد توعد الذين يأتون بصورة الصلاة من الحركات والألفاظ مع السهو عن معنى العبادة وسرها فيها المؤدي إلى غايتها بقوله {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون ويمنعون الماعون} فسماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة، ووصفهم بالسهو عن الصلاة الحقيقية التي هي توجه القلب إلى الله تعالى المذكر بخشيته، والمشعر للقلوب بعظم سلطانه، ثم وصفهم بأثر هذا السهو وهو الرياء ومنع الماعون.
و [قد] ذكر الأستاذ الإمام أن الرياء ضربان: رياء النفاق وهو العمل لأجل رؤية الناس، ورياء العادة وهو العمل بحكمها من غير ملاحظة معنى العمل وسره وفائدته، ولا ملاحظة من يعمل له ويقترب إليه به، وهو ما عليه أكثر الناس، فإن صلاة أحدهم في طور الرشد والعقل هي عين ما كان يحاكي به أباه في طور الطفولية عندما يراه يصلي يستمر على ذلك بحكم العادة من غير فهم ولا عقل، وليس لله شيء في هذه الصلاة. وقد ورد في بعض الأحاديث أن من لن تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا، وأنها تلف كما يلف الثوب البالي ويضرب بها وجهه. وأما الماعون فهو المعونة والخير الذي تقدم في الآية الأخرى أن من شأن الإنسان أن يكون منوعا له إلا المصلين... والاستعانة طلب المعونة وهي إزالة العجز، والمساعدة على إتمام العمل الذي يعجز المستعين عن الاستقلال به بنفسه.
ثم تكلم الأستاذ الإمام على حصر العبادة والاستعانة في الله تعالى الذي دل عليه تقديم المفعول (إياك) على الفعل (نعبد) و (نستعين)، فقال ما مثاله: أمرنا الله تعالى بأن لا نعبد غيره؛ لأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب ليست إلا له دون غيره، فلا يشاركه فيها أحد، فيعظم تعظيم العبادة، وأمرنا بأن لا نستعين بغيره أيضا. وهذا يحتاج إلى البيان لأنه أمرنا أيضا في آيات أخرى بالتعاون {وتعاونوا على البر والتقوى} فما معنى حصر الاستعانة به مع ذلك؟ الجواب، أن كل عمل يعمله الإنسان تتوقف ثمرته ونجاحه على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون مؤدية إليه، وانتفاء الموانع التي من شأنها بمقتضى الحكمة أن تحول دونه، وقد مكن الله تعالى الإنسان بما أعطاه من العلم والقوة من دفع بعض الموانع وكسب بعض الأسباب، وحجب عنه البعض الآخر، فيجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك، ونبذل في إتقان أعمالنا كل ما نستطيع من حول وقوة، وأن نتعاون ويساعد بعضنا بعضا على ذلك، ونفوض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كل شيء، ونلجأ إليه وحده، ونطلب المعونة المتممة للعمل والموصلة لثمرته منه سبحانه وتعالى دون سواه، إذ لا يقدر على ما وراء الأسباب الممنوحة لكل البشر على السواء إلا مسبب الأسباب، ورب الأرباب.
فقوله تعالى {وإياك نستعين} متمم لمعنى قوله {إياك نعبد} لأن الاستعانة بهذا المعنى فزع من القلب إلى الله، وتعلق من النفس به، وذلك من مخ العبادة، فإذا توجه العبد بها إلى غير الله تعالى، كان ضربا من ضروب العبادة الوثنية التي كانت ذائعة في زمن التنزيل وقبله، وخصت بالذكر لئلا يتوهم الجهلاء أن الاستعانة بمن اتخذوهم أولياء من دون الله، واستعانوا بهم فيما وراء الأسباب المكتسبة لعامة الناس، هي كالاستعانة بسائر الناس في الأسباب العامة، فأراد الحق جل شأنه أن يرفع هذا اللبس عن عباده ببيان أن الاستعانة بالناس فيما هو في استطاعة الناس إنما هو ضرب من استعمال الأسباب المسنونة، وما منزلتها إلا كمنزلة الآلات فيما هي آلات له، بخلاف الاستعانة بهم في شؤون تفوق القدر والقوى الموهبة لهم، والأسباب المشتركة بينهم، كالاستعانة في شفاء المرض بما وراء الدواء، وعلى غلبة العدو بما وراء العدة والعدة، فإن ذلك مما لا يجوز الفزع والتوجه فيه إلى غير الله تعالى صاحب السلطان الأعظم، على ما لا يصل إليه سلطان أحد من العالم.
[و] ضرب الأستاذ الإمام مثلا لذلك؛ الزارع يبذل جهده في الحرث والعذق وتسميد الأرض وريها، ويستعين بالله تعالى على إتمام ذلك بمنع الآفات والجوائح السماوية أو الأرضية، ومثل بالتاجر يحذق في اختيار الأصناف ويمهر في صناعة الترويج، ثم يتكل على الله فيما بعد ذلك، ثم قال: ومن هنا تعلمون أن الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم، وتيسير أمورهم، وشفاء أمراضهم، ونماء حرثهم وزرعهم، وهلاك أعدائهم، وغير ذلك من المصالح، هم عن صراط التوحيد ناكبون، وعن ذكر الله معرضون.
[ولقد] أرشدتنا هذه الكلمة الوجيزة {وإياك نستعين} إلى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة:
أحدهما: أن نعمل الأعمال النافعة ونجتهد في إتقانها ما استطعنا، لأن طلب المعونة لا يكون إلا على عمل بذل فيه المرء طاقته فلم يوفه حقه، أو يخشى أن لا ينجح فيه، فيطلب المعونة على إتمامه وكماله، فمن وقع من يده القلم على المكتب لا يطلب المعونة من أحد على إمساكه، ومن وقع تحت عبء ثقيل يعجز على النهوض به وحده، يطلب المعونة من غيره على رفعه، ولكن بعد استفراغ القوة في الاستقلال به، وهذا الأمر هو مرقاة السعادة الدنيوية، وركن من أركان السعادة الأخروية.
وثانيهما: ما أفاد الحصر من وجوب تخصيص الاستعانة بالله تعالى وحده فيما وراء ذلك، وهو روح الدين وكمال التوحيد الخالص، الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الأغيار، ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين، والشيوخ الدجالين، ويطلق عزائمهم من قيد المهيمنين الكاذبين، من الأحياء والميتين، فيكون المؤمن مع الناس حرا خالصا وسيدا كريما، ومع الله عبدا خاضعا {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}.
وأقول أيضا: إن عبادة الله تعالى هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيته، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لربوبيته، أما الأول، فظاهر، لأنه هو الإله الحق، فلا يعبد بحق سواه. وأما الثاني: فلأنه هو المربى للعباد، الذي وهب جميع ما تكمل به تربيتهم الصورية والمعنوية.
ومن هنا تعلم أن إيراد ذكر العبادة والاستعانة بعد ذكر اسم الجلالة الأعظم، واسم الرب الأكرم، إنما هو لترتبهما عليهما من قبيل ترتيب النشر على اللف. والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله وتحل محله، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة، ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى {ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه}. فهذه الاستعانة هي ثمرة التوحيد واختصاص الله تعالى بالعبادة، فإن من معنى العبادة: الشعور بأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العامة الموهوبة من الله تعالى لعباده كافة هي لله وحده، كما تنطق به الآية التي استشهدنا بها آنفا على قرن العبادة بالتوكل، فمن كان موحدا خالصا لا يستعين بغير الله تعالى قط، فما كان من أنواع المعونة داخلا في حلقات سلسلة الأسباب كان طلبه بسببه طلبا من الله تعالى، ولكنه يحتاج في تحقق ذلك إلى قصد وملاحظة وشهود قلبي، وما كان غير داخل فيها يتوجه في طلبه إلى الله تعالى بلا واسطة ولا حجاب.
وبهذا البيان تعلم أنه لا منافاة بين التوحيد والتوكل، وبين الأخذ بالأسباب وإقامة سنن الله تعالى فيها، بل الكمال والأدب في الجميع بينهما، فالسيد المالك إذا نصب لعبده وخدمه مائدة يأكلون منها غدوا وعشيا، وجعل لهم خدما يقومون بأمرها، لا يكون طلب الطعام منه إلا بالاختلاف إلى المائدة، وإنما ينبغي أن لا يغفلوا بها وبخدمها عن ذكر صاحب الفضل الذي أنشأها بماله وسخر أولئك الخدم للآكلين عليها، ولا عن حمده وشكره، فهذا مثال مائدة السكون بأسبابه ومسبباته. والعبد إذا احتاج شيئا من الأشياء التي لم يجعلها سيده مبذولة لجميع عبيده في كل وقت، طلبه منه دون سواه، فإن أظهر الحاجة إلى غيره كان ذلك من قلة ثقته بمولاه، وجعل ذلك الغير في مرتبته أو أجدر منه بالفضل. هذا في العبيد مع السادة الذين لهم نظراء وأنداد، فكيف إذا كان العبد الذي يتجه إلى غير مولاه، لا يجد من يتوجه إليه سواه، إلا أمثاله من العبيد المحتاجين إلى المولى مثله، لأنه هو السيد الصمد، الذي ليس له كفؤا أحد؟.
ثم إن لفظ الاستعانة يشعر بأن يطلب العبد من الرب تعالى الإعانة على شيء له فيه كسب ليعينه على القيام به، وفي هذا تكريم للإنسان بجعل عمله أصلا في كل ما يحتاج إليه لإتمام تربية نفسه وتزكيتها، وإرشاد له إلى أن ترك العمل والكسب، ليس من سنة الفطرة ولا من هدى الشريعة، فمن تركه كان كسولا مذموما لا متوكلا محمودا، وبتذكيره من جهة أخرى بضعفه لكيلا يغتر فيتوهم أنه مستغن بكسبه عن عناية ربه، فيكون من الهالكين في عاقبة أمره. إذا تدبرت هذا فهمت منه نكتة من نكت تقديم العبادة على الاستعانة، وهي أن الثانية ثمرة للأولى. ولا ينافي هذا أن العبادة نفسها مما يستعان عليه بالله تعالى ليوفق العابد للإتيان بها على الوجه المرضيّ له عز وجل، لا منافاة بين الأمرين، لأن الثمرة التي تخرج من الشجرة تكون حاوية للنواة التي تخرج منها شجرة أخرى، فالعبادة تكون سببا للمعونة من وجه، والمعونة تكون سببا للعبادة من وجه آخر، كذلك الأعمال تكون الأخلاق التي هي مناشئ الأعمال، فكل منهما سبب ومسبب وعلة ومعلول، والجهة مختلفة فلا دور في المسألة.
وأقول: أيضا إن نكتة تقديم "إياك" على الفعلين "نعبد ونستعين" هي إفادة الاختصاص والحصر على المشهور الذي جرى عليه الأستاذ الإمام كغيره، فالمعنى إذا: نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعينك ولا نستعين بسواك.
وقد استخرج له بعض الغواصين على المعاني نكتا أخرى (منها)
أن "إياك" ضمير راجع إلى الله تعالى وقيل إن "إياك" اسم ظاهر مضاف إلى الضمير الذي هو الكاف فتقديمه على الوجهين يؤذن بالاهتمام به الذي هو العلة الأصلية العامة للتقديم في هذه اللغة.
ومنها أن إفادة الحصر بهذا الاسم أو الضمير المقدم على الفعل أبلغ من إفادة الحصر بالضمير المتصل الذي يقرن به ما يدل على ذلك من الكلم، كقولك: إنما نعبدك وإنما نستعينك، أو نستعين بك وحدك.
وإعادة إياك مع الفعل الثاني يفيد أن كلا من العبادة والاستعانة مقصود بالذات، فلا يستلزم كل منهما الآخر، ذلك بأن الاستعانة بالله تعالى يجب أن تكون عامة في كل شيء. ومن الناس من لا يستعين بالله على شيء من أعماله الاختيارية، زعما منهم أنهم يستقلون بذلك بدون إعانة خاصة منه تعالى...
وأفضل الاستعانة: ما كان على الطاعة والخير. وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد معاذ يوما وقال "والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تدعنَّ في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة. فلا عبادة إلا لله، ولا استعانة إلا بالله.
وهنا كذلك مفرق طريق... بين التحرر المطلق من كل عبودية، وبين العبودية المطلقة للعبيد! [ف] هذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل. التحرر من عبودية الأوهام، والتحرر من عبودية النظم، والتحرر من عبودية الأوضاع. وإذا كان الله وحده هو الذي يُعبد، والله وحده هو الذي يُستعان، فقد تخلص الضمير البشري من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص، كما تخلص من استذلال الأساطير والأوهام والخرافات..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إذا أتم الحامِدُ حَمْد ربه، يأخذ في التوجه إليه بإظهار الإخلاص له انتقالاً من الإفصاح عن حق الرب إلى إظهار مراعاة ما يقتضيه حقه تعالى على عبده من إفراده بالعبادة والاستعانة... ومُفَاتَحَةُ العظماء بالتمجيد عند التوجه إليهم قَبْلَ أن يُخاطَبوا طريقةٌ عربيةٌ.
واعلم أن من أهم المباحث، البحثَ عن سر العبادة وتأثيرها، وسر مشروعيتها لنا؛ وذلك أن الله تعالى خلق هذا العالم ليكون مظهراً لكمال صفاته تعالى: الوجود، والعلم، والقدرة، وجعل قبول الإنسان للكمالات التي بمقياسها يَعلم نسبة مبلغ علمه وقدرته من علم الله تعالى وقدرته، وأودع فيه الروح والعقل اللذين بهما يزداد التدرج في الكمال ليكون غير قانع بما بلغه من المراتب في أوج الكمال والمعرفة، وأرشده وهداه إلى ما يستعين به على مرامه ليحصل له بالارتقاء العاجل رُقيّ آجل لا يضمحل، وجعل استعداده لقبول الخيرات كلها عاجلها وآجلها متوقفاً على التلقين من السَّفَرَة الموحَى إليهم بأصول الفضائل.
ولما توقف ذلك على مراقبة النفس في نَفَرَاتها و شَرَدَاتها، وكانت تلك المراقبة تحتاج إلى تذكر المُجازي بالخير وضده، شُرعت العبادة لِتَذَكُّرِ ذلك المُجازي، لأن عدم حضور ذاته واحتجابَه بسُبحات الجلال يُسَرِّب نسيانَه إلى النفوس، كما أنه جعل نظامه في هذا العالم متصلَ الارتباط بين أفراده، فأمرهم بلزوم آداب المعاشرة والمعاملة لئلا يفسُد النظام، ولمراقبة الدوام على ذلك أيضاً شُرعت العبادة لتذكِّرَ به، على أن في ذلك التذكر دوامَ الفكر في الخالق وشؤونه، وفي ذلك تخلق بالكمالات تدريجاً، فظهر أن العبادة هي طريق الكمال الذاتي والاجتماعي مَبدأً ونهايةً، وبه يتضح معنى قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]...
فالعبادة على الجملة لا تخرج عن كونها محقِّقة للمقصد من الخلق، ولما كان سرُّ الخلق والغايةُ منه خفيةَ الإدراكِ، عَرَّفنا الله تعالى إياها بمظهرها وما يحققها جمعاً لعظيم المعاني في جملة واحدة وهي جملة: {إلا ليعبدون}...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أشار في هذه الآية الكريمة إلى تحقيق معنى لا إله إلا اللَّه: لأن معناها مركب من أمرين: نفي وإثبات.
فالنفي: خلع جميع المعبودات غير اللَّه تعالى في جميع أنواع العبادات، والإثبات: إفراد ربّ السماوات والأرض وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع. وقد أشار إلى النفي من لا إله إلا اللَّه بتقديم المعمول الذي هو {إِيَّاكَ}، وقد تقرر في الأصول، في مبحث دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة، وفي المعاني في مبحث القصر: أن تقديم المعمول من صيغ الحصر.
وأشار إلى الإثبات منها بقوله: {نَعْبُدُ}.
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي لا نطلب العون إلا منك وحدك؛ لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة. وإتيانه بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، بعد قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة؛ لأن غيره ليس بيده الأمر.
... حين يستحضر الحق سبحانه وتعالى ذاته بكل هذه الصفات.. التي فيها فضائل الألوهية، ونعم الربوبية.. والرحمة التي تمحو الذنوب، والرهبة من لقائه يوم القيامة، تكون قد انتقلت من صفات الغيب إلى محضر الشهود.. استحضرت جلال الألوهية لله وفيوضات رحمته ونعمه التي لا تحد، وقيوميته يوم القيامة.. عندما تقرأ قوله تعالى: {إياك نعبد} فالعبارة هنا تفيد الخصوصية... الحق سبحانه وتعالى حين قال: {إياك نعبد} قصر العبادة على ذاته الكريمة، لأنه لو قال نعبدك وحدك، فهي لا تؤدي المعنى نفسه؛ لأنك قد تقول نعبدك وحدك ومعك كذا وكذا. ولكن إذا قلت "إياك نعبد "وقدمت إياك.. تكون قد حسمت الأمر بأن العبادة لله وحده.. فلا يجوز العطف عليها..
فالعبادة خضوع لله سبحانه وتعالى بمنهجه: افعل ولا تفعل.. ولذلك جعل الصلاة أساس العبادة، والسجود هو منتهى الخضوع لله.. لأنك تأتي بوجهك الذي هو أكرم شيء فيك وتضعه على الأرض عند موضع القدم. فيكون هذا هو منتهى الخضوع لله.. ويتم هذا أمام الناس جميعا في الصلاة لإعلان خضوعك لله أمام البشر جميعا. ويستوي في العبودية الغني والفقير والكبير والصغير.. حتى يطرد كل منا الكبر والاستعلاء من قلبه أمام الناس جميعا، فيساوي الحق جل جلاله بين عباده في الخضوع له وفي إعلان هذا الخضوع.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {إياك نعبد} تنفي العبودية لغير الله.. أي لا نعبد غير الله ولا يعطف عليها أبدا.. إذن "إياك نعبد" أعطت تخصيص العبادة لله وحده لا إله غيره ولا معبود سواه...
إذن... المطلوب منا... هو العبادة... والله سبحانه وتعالى خلقنا في الحياة لنعبده.. مصداقا لقوله تبارك وتعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (سورة الذاريات 56) إذن فعلة الخلق هي العبادة.. ولقد تم الخلق لتتحقق العبادة وتصبح واقعا.. ولكن العلة والمعلول لا تنطبق على أفعال الله سبحانه وتعالى فالله سبحانه وتعالى خلقنا لنعبده. ولكن علة الخلق ليس لأن هذه العبادة ستزيد شيئا في ملكه.. وإنما عبادتنا تعود علينا نحن... بالخير في الدنيا والآخرة...
ولكن هل العبادة هي الجلوس في المساجد والتسبيح أم أنها منهج يشمل الحياة كلها... ولو أراد الله سبحانه وتعالى من عباده الصلاة والتسبيح فقط، لما خلقهم مختارين بل خلقهم مقهورين لعبادته ككل ما خلق ما عدا الإنس والجن.. والله تبارك وتعالى له صفة القهر.. من هنا فإنه يستطيع أن يجعل من يشاء مقهورا على عبادته.. مصداقا لقوله جل جلاله: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين، إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} (سورة الشعراء 3-4) فلو أراد الله أن يخضعنا لمنهجه قهراً.. لا يستطيع أحد أن يشذ عن طاعته.. وقد أعطانا الله الدليل على ذلك بأن في أجسادنا وفي أحداث الدنيا.. ما نحن مقهورون عليه.. فالجسد مقهور لله في أشياء كثيرة. القلب ينبض ويتوقف بأمر الله دون إرادة منا.. والمعدة تهضم الطعام ونحن لا ندري عنها شيئا.. والدورة الدموية في أجسادنا لا إرادة لنا فيها.. وأشياء كثيرة في الجسد البشري كلها مقهورة لله سبحانه وتعالى.. وليس لإرادتنا دخل في عملها.. وما يقع علي في الحياة الدنيا من أحداث أنا مقهور فيه.. لا أستطيع أن أمنعه من الحدوث.. فلا أستطيع أن أمنع سيارة أن تصدمني.. ولا طائرة أن تحترق بي.. ولا كل ما يقع علي من أقدار الله في الدنيا.. إذن فمنطقة الاختيار في حياتي محددة.. لا أستطيع أن أتحكم في يوم مولدي.. ولا فيمن هو أبي ومن هي أمي.. ولا في شكلي هل أنا طويل أم قصير؟ جميل أم قبيح أو غير ذلك. إذن فمنطقة الاختيار في الحياة هي المنهج أن أفعل أو لا أفعل. الله سبحانه وتعالى له من كل خلقه عبادة القهر.. ولكنه يريد من الإنس والجن عبادة المحبوبية.. ولذلك خلقنا ولنا اختيار في أن نأتيه أو لا نأتيه.. في أن نطيعه أو نعصيه. في أن نؤمن به أو لا نؤمن.
فإذا كنت تحب الله فأنت تأتيه عن اختيار. تتنازل عما يغضبه حبا فيه، وتفعل ما يطلبه حبا فيه وليس قهرا.. فإذا تخليت عن اختيارك إلى مرادات الله في منهجه.. تكون قد حققت عبادة المحبوبية لله تبارك وتعالى.. وتكون قد أصبحت من عباد الله وليس من عبيد الله.. فكلنا عبيد لله سبحانه وتعالى، والعبيد متساوون فيما يقهرون عليه. ولكن العباد الذين يتنازلون عن منطقة الاختيار لمراد الله في التكليف.. ولذلك فإن الحق جل جلاله.. يفرق في القرآن الكريم بين العباد والعبيد.. يقو تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} (سورة البقرة 186). ويقول سبحانه وتعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً} (سورة الفرقان 63). وهكذا نرى أن الله سبحانه وتعالى أعطى أوصاف المؤمنين وسماهم عبادا.. ولكن عندما يتحدث عن البشر جميعا يقول عبيد.. مصداقا لقوله تعالى: {ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد} (سورة آل عمران 182)...
قد يقول قائل: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز: {ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل} (سورة الفرقان 17). الحديث هنا عن العاصين والضالين. ولكن الله سبحانه وتعالى قال عنهم عباد. نقول إن هذا في الآخرة.. وفي الآخرة كلنا عباد لأننا مقهورون لطاعة الله الواحد المعبود تبارك وتعالى.. لأن الاختيار البشري ينتهي ساعة الاحتضار.. ونصبح جميعا عباداً لله مقهورين على طاعته لا اختيار لنا في شيء. والله سبحانه وتعالى قد أعطى الإنسان اختياره في الحياة الدنيا في العبودية فلم يقهره في شيء ولا يلزم غير المؤمن به بأي تكليف.. بل إن المؤمن هو الذي يلزم نفسه بالتكليف وبمنهج الله فيدخل في عقد إيماني مع الله تبارك وتعالى.. ولذلك نجد أن الله جل جلاله لا يخاطب الناس جميعا في التكليف.. وإنما يخاطب الذين آمنوا فقط فيقول: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (سورة البقرة 183). ويقول سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} (سورة البقرة 153). أي أن الله جل جلاله لا يكلف إلا المؤمن الذي يدخل في عقد إيماني مع الله. وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم عندما نضعه في معيار العبادية يكون القمة.. فهو صلى الله عليه وسلم الذي حقق العبادية المرادة لله من خلق الله كما يحبها الله... وهكذا نعرف المقامات العالية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند خالقه.
والله تبارك وتعالى قرن العبادة له وحده بالاستعانة به سبحانه.. فقال جل جلاله: {إياك نعبد وإياك نستعين} أي لا نعبد سواك ولا نستعين إلا بك. والاستعانة بالله سبحانه وتعالى تخرجك عن ذل الدنيا. فأنت حين تستعين بغير الله فإنك تستعين ببشر مهما بلغ نفوذه وقوته فكلها في حدود بشريته.. ولأننا نعيش في عالم أغيار.. فإن القوي يمكن أن يصبح ضعيفا.. وصاحب النفوذ يمكن أن يصبح في لحظة واحدة طريداً شريداً لا نفوذ له.. ولو لم يحدث هذا. فقد يموت ذلك الذي تستعين به فلا تجد أحدا يعينك. ويريد الله تبارك وتعالى أن يحرر المؤمن من ذل الدنيا.. فيطلب منه أن يستعين بالحي الذي لا يموت.. وبالقوي الذي لا يضعف، وبالقاهر الذي لا يخرج عن أمره أحد.. وإذا استعنت بالله سبحانه وتعالى كان الله جل جلاله بجانبك. وهو وحده الذي يستطيع أن يحول ضعفك إلى قوة وذُلَّكَ إلى عِزٍّ.. والمؤمن دائما يواجه قوى أكبر منه.. ذلك أن الذين يحاربون منهج الله يكونون من الأقوياء ذوي النفوذ الذي يحبون أن يستعبدوا غيرهم.. فالمؤمن سيدخل معهم في صراع.. ولذلك فإن الحق يحض عباده المؤمنين بأنه معهم في الصراع بين الحق والباطل..
وقوله تعالى: {وإياك نستعين} مثل: "إياك نعبد".. أي نستعين بك وحدك وهي دستور الحركة في الحياة.. لأن استعان معناها طلب المعونة، أي أن الإنسان استنفد أسبابه ولكنها خذلته.. حينئذ لابد أن يتذكر أن له ربا لا يعبد سواه. لن يتخلى عنه بل يستعين به.. وحين تتخلى الأسباب فهناك رب الأسباب وهو موجود دائما لا يغفل عن شيء ولا تفوته همسة في الكون.. ولذلك فإن المؤمن يتجه دائما إلى السماء.. والله سبحانه وتعالى يكون معه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذه نقلةٌ بيانيّةٌ في أسلوب السورة الذي ينقل الجوّ من الغَيْبة في حديث الإنسان عن اللّه في حمده له وتعداده لصفاته، إلى الخطاب الذي ينطلق فيه الإنسان المؤمن باللّه، الحامد له... في ربوبيته للعالمين، ورحمته لهم، وسيطرته على مواقع الجزاء في مصيرهم، ليخاطب اللّه في موقف التزامٍ ودعاء، وذلك أنَّ هذا النوع من التطلّع الإيماني الفكري للّه، في صفات عظمته ورحمته، يجسّد في وعي الإنسان الحضور الإلهي، كما لو كانت المسألة في دائرة الإحساس الطبيعي في عمق ذاته، تماماً كما هي الصدمة الفكرية التي تتحول إلى انطلاقةٍ شعوريةٍ بين يدي اللّه، ليعبّر له عن إخلاصه في العبودية، وعن توحيده في العبادة وفي الاستعانة، فلا يعبد غيره من موقع أنّه لا يعترف بالألوهية لغيره، ولا يقر بالعبودية لسواه، فهو وحده الإله الذي يستحق العبادة، وهو وحده القادر على الإعانة، على أساس أنه الذي يملك الأمر كلّه، فلا يملك غيره معه شيئاً، ما يجعل الخلق كلّه عاجزاً عن تقديم ما لا يريد اللّه أن يقدّمه من عونٍ لنفسه وللآخرين من حوله.
وهذا الأسلوب القرآني الرائع، يحدث نقلة من... التصوّر... [إلى] لإقرار الشعوري [و] الالتزام العقيدي. وهذا هو ما نريد أن نتمثّله في الخطّ التربويّ الذي يتحرّك في اتجاه تحويل الحالة الفكرية إلى حالةٍ شعورية، من أجل الوصول إلى مضمون الإيمان الذي هو الوجه الشعوري للمضمون الفكري. وقد نحتاج إلى الإطلالة على خصوصية التعبير عن الالتزام بعبادة اللّه، والاستعانة به، بطريقة تقديم المفعول به على الفعل والفاعل الذي ينفصل فيه الضمير، فيتحول من ضميرٍ متصلٍ في ما يتمثّل في كلمةٍ «نعبدك» «ونستعينك»، إلى ضميرٍ منفصلٍ يتقدّم على الفعل وذلك في جملة:
" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين"... وذلك من أجل التعبير عن التوحيد العملي الذي هو التجسيد الواقعي للتوحيد الفكري العقيدي، فقد لا يكفي في الإسلام، كما في كلّ الرسالات التوحيدية، أن يعيش الإنسان العقيدة في دائرتها التصورية، بل لا بُدَّ له من أن يعيشها في دائرتها العملية، فيما هي حركة العبادة في الذات، وفيما هي مسألة الارتباط باللّه، المشدود إليه في أوضاع الحياة. بل ربما نجد أنَّ هناك نوعاً من الوحدة بين الجانب النظري والجانب العملي في دعوة الرسالات، بحيث يكون التوحيد في العبادة هو الواجهة للدعوة في ما تختزنه من التوحيد في العقيدة. وهذا ما حدّثنا عنه في دعوة نوح وهود وصالح (ع) التي اختصرتها الفقرة التالية في قوله تعالى: [اعْبُدُواْ اللّه مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ] [الأعراف: 59]. ولعلّ هذا هو التعبير الحركي الذي انطلقت فيه سورة الفاتحة من أجل تأكيد الدعوة إلى التوحيد في أسلوب الإقرار الذاتي الذي يندفع فيه الإنسان المؤمن، كحالةٍ شعورية ذاتيةٍ، بعيداً عن الجانب التقريري في هذه المسألة العقيدية المهمّة، ما يترك تأثيراً إيجابياً على حركة العقيدة أكثر مما يتركه من التأثير في الأسلوب الخطابي أو التقريري، في ما يمثّله من التعبير عن الصورة في وجودها الواقعي الذي يفرض التوحيد كحقيقةٍ متحركةٍ متجسدةٍ، لا كفكرةٍ ذهنيةٍ في مرحلة الدعوة...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
الهداية: من هداية هذه الآية...:
- آداب الدعاء حيث يقدم السائل بين يدي دعائه حمد الله والثناء عليه وتمجيده. وزادت السنة الصلاةَ على النبي [صلى الله عليه وسلم]، ثم يسأل حاجته، فإنه يستجاب له.
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
في المجيء بصيغة الجمع دون الإِفراد في قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وفيه أقوال:...
ثالثها: أن صيغة الجمع أدعى إلى القبول والاستجابة من صيغة الإِفراد، لأن المخاطب يحشر نفسه في زمرة المخاطبين، ولا يعتد بخطابه بنفسه.
رابعها: أن الإِسلام دين وحدة واجتماع، وليس بدين تشتت وافتراق، ولأجل ذلك شرعت بعض العبادات تؤدى بطريقة جماعية لا على الانفراد، وفي المجيء بصيغة الجمع هنا في هذه السورة التي يجب على المسلم أن يكررها في كل ركعة من ركعات الصلاة التي هي أهم عبادة في الإِسلام تذكير بواجب الترابط بين المسلمين وإيقاظ لمشاعر الأخوة والمودة بينهم.
و [في] تكرار {إِيَّاكَ}... آراء:
ثالثها: أن في التكرار تعليما للناس بأن يجددوا ذكر الله عند كل حاجة تَعِنُّ.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... نحن محتاجون إلى عونه حتى في العبودية والطاعة، ولذلك ينبغي أن نستعين به في ذلك أيضاً، كي لا تتسرب إلى أنفسنا أوهام العجب والرياء وأمثالها من الانحرافات التي تجهض عبوديتنا.
و استعمال صيغ الجمع في تعبير الآيات كلمة «نَعْبُدُ» و«نَسْتَعِينُ» بصيغة الجمع تشير إلى أن العبادة خاصة الصلاة تقوم على أساس الجمع والجماعة. وعلى العبد أن يستشعر وجوده ضمن الجمع والجماعة، حتى حين يقف متضرّعاً بين يدي الله، فما بالك في المجالات الاُخرى! وهذا الاتجاه في العبادة يعني رفض الإِسلام لكل ألوان الفردية والانعزال. الصلاة خاصة ابتداء من أذانها وإقامتها حتى تسليمها تدل على أن هذه العبادة هي في الأصل ذات جانب اجتماعي، أي أنها ينبغي أن تؤدّى بشكل جماعة. صحيح أن الصلاة فرادى صحيحة في الإسلام، لكن العبادة الفردية ذات طابع فرعي ثانوي.
الاستعانة به [سبحانه] في كل الأمور يواجه الإِنسان في مسيرته التكاملية قوى مضادة داخلية (في نفسه)، وخارجية (في مجتمعه)، ويحتاج في مقاومة هذه القوى المضادة إلى العون والمساعدة، ومن هنا يلزم على الإِنسان عندما ينهض صباحاً أن يكرر عبارة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ليعترف بعبوديته لله سبحانه، وليستمد العون منه في مسيرته الطويلة الشاقة. وعندما يجنّ عليه الليل لا يستسلم للرقاد إلاّ بعد تكرار هذه العبارة أيضاً. والإِنسان المستعين حقّاً، هو الذي تتضاءل أمام عينيه كلّ القوى المتجبّرة المتغطرسة. وكل الجواذب المادية الخادعة، وذلك ما لا يكون إلاّ حينما يرتفع الإِنسان إلى مستوى القول: (إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعْالَمِينَ)...