{ 36 ْ } { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ْ }
أي : لا ينبغي ولا يليق ، ممن اتصف بالإيمان ، إلا الإسراع في مرضاة اللّه ورسوله ، والهرب من سخط اللّه ورسوله ، وامتثال أمرهما ، واجتناب نهيهما ، فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة { إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا ْ } من الأمور ، وحتَّما به وألزما به { أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ْ } أي : الخيار ، هل يفعلونه أم لا ؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة ، أن الرسول أولى به من نفسه ، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجابًا بينه وبين أمر اللّه ورسوله .
{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ْ } أي : بَيِّنًا ، لأنه ترك الصراط المستقيم الموصلة إلى كرامة اللّه ، إلى غيرها ، من الطرق الموصلة للعذاب الأليم ، فذكر أولاً السبب الموجب لعدم معارضته أمر اللّه ورسوله ، وهو الإيمان ، ثم ذكر المانع من ذلك ، وهو التخويف بالضلال ، الدال على العقوبة والنكال .
( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) . .
روي أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش - رضي الله عنها - حينما أراد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن يحطم الفوارق الطبقية الموروثة في الجماعة المسلمة ؛ فيرد الناس سواسية كأسنان المشط . لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى . وكان الموالي - وهم الرقيق المحرر - طبقة أدنى من طبقة السادة . ومن هؤلاء كان زيد بن حارثة مولى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الذي تبناه . فأراد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يحقق المساواة الكاملة بتزويجه من شريفة من بني هاشم ، قريبته [ صلى الله عليه وسلم ] زينب بنت جحش ؛ ليسقط تلك الفوارق الطبقية بنفسه ، في أسرته . وكانت هذه الفوارق من العمق والعنف بحيث لا يحطمها إلا فعل واقعي من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تتخذ منه الجماعة المسلمة اسوة ، وتسير البشرية كلها على هداه في هذا الطريق .
روى ابن كثير في التفسير قال : قال العوفي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ) . الآية . وذلك أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة - رضي الله عنه - فدخل على زينب بنت جحش الأسدية - رضي الله عنها - فخطبها ، فقالت : لست بناكحته ! فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " بلى فانكحيه " . قالت : يا رسول الله . أؤامر في نفسي ? فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا ) . . الآية . قالت : قد رضيته لي يا رسول الله منكحا ? قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " نعم " ! قالت : إذن لا أعصي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد أنكحته نفسي !
وقال ابن لهيعة عن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : خطب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] زينب بنت جحش لزيد بن حارثة - رضي الله عنه - فاستنكفت منه ، وقالت : أنا خير منه حسبا - وكانت امرأة فيها حدة - فأنزل الله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة . . . )الآية كلها .
وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان أنها نزلت في زينب بنت جحش - رضي الله عنها - حين خطبها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على مولاه زيد بن حارثة - رضي الله عنه - فامتنعت ثم أجابت .
وروى ابن كثير في التفسير كذلك رواية أخرى قال : وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط - رضي الله عنها - وكانت أول من هاجر من النساء - يعني بعد صلح الحديبية - فوهبت نفسها للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " قد قبلت " . فزوجها زيد بن حارثة - رضي الله عنه - [ يعني والله أعلم بعد فراقه زينب ] فسخطت هي وأخوها ، وقال : إنما أردنا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]فزوجنا عبده ! قال : فنزل القرآن : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا )إلى آخر الآية . قال : وجاء أمر أجمع من هذا : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم )قال : فذاك خاص وهذا أجمع .
وفي رواية ثالثة : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ثابت البناني ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : خطب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها . فقال : حتى أستأمر أمها . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " فنعم إذن " . قال : فانطلق الرجل إلى امرأته ، فذكر ذلك لها ، فقالت : لاها الله ! إذن ما وجد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلا جليبيبا ، وقد منعناها من فلان وفلان ? قال : والجارية في سترها تسمع . قال : فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بذلك . فقالت الجارية : أتريدون أن تردوا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أمره ? إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه . قال : فكأنها جلت عن أبويها . وقالا : صدقت . فذهب أبوها إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : إن كنت قد رضيته فقد رضيناه . قال [ صلى الله عليه وسلم ] " فإني قد رضيته " . قال : فزوجها . . ثم فزع أهل المدينة ، فركب جليبيب ، فوجدوه قد قتل ، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم . قال أنس - رضي الله عنه - فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت بالمدينة . .
فهذه الروايات - إن صحت - تعلق هذه الآية بحادث زواج زينب من زيد - رضي الله عنهما - أو زواجه من أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط .
وقد أثبتنا الرواية الثالثة عن جليبيب لأنها تدل على منطق البيئة الذي توكل الإسلام بتحطيمه ، وتولى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تغييره بفعله وسنته . وهو جزء من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس منطق الإسلام الجديد ، وتصوره للقيم في هذه الأرض ، وانطلاق النزعة التحررية القائمة على منهج الإسلام ، المستمدة من روحه العظيم .
ولكن نص الآية أعم من أي حادث خاص . وقد تكون له علاقة كذلك بإبطال آثار التبني ، وإحلال مطلقات الأدعياء ، وحادث زواج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب - رضي الله عنها - بعد طلاقها من زيد . الأمر الذي كانت له ضجة عظيمة في حينه . والذي ما يزال يتخذه بعض أعداء الإسلام تكأة للطعن على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى اليوم ، ويلفقون حوله الأساطير !
وسواء كان سبب نزول الآية ما جاء في تلك الروايات ، أو كانت بصدد زواج الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب - رضي الله عنها - فإن القاعدة التي تقررها الآية أعم وأشمل ، وأعمق جدا في نفوس المسلمين وحياتهم وتصورهم الأصيل .
فهذا المقوم من مقومات العقيدة هو الذي استقر في قلوب تلك الجماعة الأولى من المسلمين استقرارا حقيقيا ؛ واستيقنته أنفسهم ، وتكيفت به مشاعرهم . . هذا المقوم يتلخص في أنه ليس لهم في أنفسهم شيء ؛ وليس لهم من أمرهم شيء . إنما هم وما ملكت أيديهم لله . يصرفهم كيف يشاء ، ويختار لهم ما يريد . وإن هم إلا بعض هذا الوجود الذي يسير وفق الناموس العام . وخالق هذا الوجود ومدبره يحركهم مع حركة الوجود العام ؛ ويقسم لهم دورهم في رواية الوجود الكبيرة ؛ ويقرر حركاتهم على مسرح الوجود العظيم . وليس لهم أن يختاروا الدور الذي يقومون به ، لأنهم لا يعرفون الرواية كاملة ؛ وليس لهم أن يختاروا الحركة التي يحبونها لأن ما يحبونه قد لا يستقيم مع الدور الذي خصص لهم ! وهم ليسوا أصحاب الرواية ولا المسرح ؛ وإن هم إلا أجراء ، لهم أجرهم على العمل ، وليس لهم ولا عليهم في النتيجة !
عندئذ أسلموا أنفسهم حقيقة لله . أسلموها بكل ما فيها ؛ فلم يعد لهم منها شيء . وعندئذ استقامت نفوسهم مع فطرة الكون كله ؛ واستقامت حركاتهم مع دورته العامة ؛ وساروا في فلكهم كما تسير تلك الكواكب والنجوم في أفلاكها ، لا تحاول أن تخرج عنها ، ولا أن تسرع أو تبطئ في دورتها المتناسقة مع حركة الوجود كله .
وعندئذ رضيت نفوسهم بكل ما يأتي به قدر الله ، لشعورهم الباطن الواصل بأن قدر الله هوالذي يصرف كل شيء ، وكل أحد ، وكل حادث ، وكل حالة . واستقبلوا قدر الله فيهم بالمعرفة المدركة المريحة الواثقة المطمئنة .
وشيئا فشيئا لم يعودوا يحسون بالمفاجأة لقدر الله حين يصيبهم ، ولا بالجزع الذي يعالج بالتجمل ؛ أو بالألم الذي يعالج بالصبر . إنما عادوا يستقبلون قدر الله استقبال العارف المنتظر المرتقب لأمر مألوف في حسه ، معروف في ضميره ، ولا يثير مفاجأة ولا رجفة ولا غرابة !
ومن ثم لم يعودوا يستعجلون دورة الفلك ليقضوا أمرا هم يريدون قضاءه ، ولم يعودوا يستبطئون الأحداث لأن لهم أربا يستعجلون تحقيقه ، ولو كان هذا الأرب هو نصر دعوتهم وتمكينها ! إنما ساروا في طريقهم مع قدر الله ، ينتهي بهم إلى حيث ينتهي ، وهم راضون مستروحون ، يبذلون ما يملكون من أرواح وجهود وأموال في غير عجلة ولا ضيق ، وفي غير من ولا غرور ، وفي غير حسرة ولا أسف . وهم على يقين أنهم يفعلون ما قدر الله لهم أن يفعلوه ؛ وأن ما يريده الله هو الذي يكون ، وأن كل أمر مرهون بوقته وأجله المرسوم .
إنه الاستسلام المطلق ليد الله تقود خطاهم ، وتصرف حركاتهم ؛ وهم مطمئنون لليد التي تقودهم ، شاعرون معها بالأمن والثقة واليقين ، سائرون معها في بساطة ويسر ولين .
وهم - مع هذا - يعملون ما يقدرون عليه ، ويبذلون ما يملكون كله ، ولا يضيعون وقتا ولاجهدا ، ولا يتركون حيلة ولا وسيلة . ثم لا يتكلفون ما لايطيقون ، ولا يحاولون الخروج عن بشريتهم وما فيها من خصائص ، ومن ضعف وقوة ؛ ولا يدعون ما لا يجدونه في أنفسهم من مشاعر وطاقات ، ولا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، ولا أن يقولوا غير ما يفعلون .
وهذا التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله ، والعمل الجاهد بكل ما في الطاقة ، والوقوف المطمئن عند ما يستطيعون . . هذا التوازن هو السمة التي طبعت حياة تلك المجموعة الأولى وميزتها ؛ وهي التي أهلتها لحمل أمانة هذه العقيدة الضخمة التي تنوء بها الجبال !
واستقرار ذلك المقوم الأول في أعماق الضمائر هو الذي كفل لتلك الجماعة الأولى تحقيق تلك الخوارق التي حققتها في حياتها الخاصة ، وفي حياة المجتمع الإنساني إذ ذاك . وهو الذي جعل خطواتها وحركاتها تتناسق مع دورة الأفلاك ، وخطوات الزمان ، ولا تحتك بها أو تصطدم ، فتتعوق أو تبطىء نتيجة الاحتكاك والاصطدام . وهو الذي بارك تلك الجهود ، فإذا هي تثمر ذلك الثمر الحلو الكثير العظيم في فترة قصيرة من الزمان .
ولقد كان ذلك التحول في نفوسهم بحيث تستقيم حركتها مع حركة الوجود ، وفق قدر الله المصرف لهذا الوجود . . كان هذا التحول في تلك النفوس هو المعجزة الكبرى التي لا يقدر عليها بشر ؛ إنما تتم بإرادة الله المباشرة التي أنشأت الأرض والسماوات ، والكواكب والأفلاك ؛ ونسقت بين خطاها ودوراتها ذلك التنسيق الإلهي الخاص .
وإلى هذه الحقيقة تشير هذه الآيات الكثيرة في القرآن . . حيث يقول الله تبارك وتعالى : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) . . أو يقول : ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) . . أو يقول : ( إن الهدى هدى الله ) . . فذلك هوالهدى بحقيقته الكبيرة ومعناه الواسع . هدى الإنسان إلى مكانه في هيكل هذا الوجود ؛ وتنسيق خطاه مع حركة هذا الوجود .
ولن يؤتي الجهد كامل ثماره إلا حين يستقيم القلب على هدى الله بمعناه ؛ وتستقيم حركة الفرد مع دورة الوجود ؛ ويطمئن الضمير إلى قدر الله الشامل الذي لا يكون في الوجود أمر إلا وفق مقتضاه .
ومن هذا البيان ينجلي أن هذا النص القرآني : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) . . أشمل وأوسع وأبعد مدى من أي حادث خاص يكون قد نزل فيه . وأنه يقرر كلية أساسية ، أو الكلية الأساسية ، في منهج الإسلام !
{ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } ما صح له . { إذا قضى الله ورسوله أمرا } أي قضى رسول الله ، وذكر الله لتعظيم أمره والإشعار بأن قضاءه قضاء الله ، لأنه نزل في زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة فأبت هي وأخوها عبد الله . وقيل في أم كلثوم بنت عقبة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فزوجها من زيد . { أن تكون لهم الخيرة من أمرهم } أن يختاروا من أمرهم شيئا بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار الله ورسوله ، والخيرة ما يتخير وجمع الضمير الأول لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث أنهما في سياق النفي ، وجمع الثاني للتعظيم ، وقرأ الكوفيون وهشام " يكون " بالياء . { ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } بين الانحراف عن الصواب .
قوله تعالى : { وما كان } لفظه النفي ومعناه الحظر والمنع من فعل هذا ، وهذه العبارة «ما كان » و «ما ينبغي » ونحوها تجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون ، وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلاً كقوله تعالى : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها }{[9515]} [ النمل : 60 ] ، وربما كان العلم بامتناعه شرعاً كقوله { وما كان لبشر أن يكلمه الله }{[9516]} [ الشورى : 51 ] ، وربما كان حظره بحكم شرعي كهذه الآية ، وربما كان في المندوبات كما تقول : ما كان لك يا فلان أن تترك النوافل ونحو هذا ، وسبب هذه الآية فيما قال قتادة وابن عباس ومجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش فظنت أن الخطبة لنفسه فلما بين أنه إنما يريدها لزيد بن حارثة كرهت وأبت ، فنزلت الآية ، فأذعنت زينب حينئذ وتزوجته{[9517]} ، وقال ابن زيد إنما نزلت بسبب أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم . فزوجها من زيد بن حارثة ، فكرهت ذلك هي وأخوها ، وقالا إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا غيره ، فنزلت الآية بسبب ذلك ، فأجابا إلى تزويج زيد{[9518]} .
و { الخيرة } مصدر بمعنى التخير ، وهذه الآية في ضمن قوله تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } [ الأحزاب : 6 ] وهذه الآية تقوي في قوله تعالى : { وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة }{[9519]} [ القصص : 68 ] أن تكون { ما } نافية لا مفعولة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر وشيبة والأعرج وعيسى «أن تكون » بالتاء على لفظ { الخيرة } ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي والأعمش وأبو عبد الرحمن «أن يكون » على معنى { الخيرة } وأن تأنيثها غير حقيقي ، وقوله في الآية الأخرى { ما كان لهم الخيرة } [ القصص : 68 ] دون علامة تأنيث يقوي هذه القراءة التي بالياء ، ثم توعد عز وجل وأخبر أن { من يعص الله ورسوله فقد ضل } ، وهذا العصيان يعم الكفر فما دونه ، وكل عاص يأخذ من الضلال بقدر معصيته .
معظم الروايات على أن هذه الآية نزلت في شأن خِطبة زينب بنت جحش على زيد بن حارثة . قال ابن عباس : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على فتاهُ زيدٍ بن حارثة زينبَ بنتَ جحش فاستنكفت وأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فأنزل الله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } الآية ، فتابعتْه ورضِيتَ لأن تزويج زينب بزيد بن حارثة كان قبل الهجرة فتكون هذه الآية نزلت بمكة ويَكون موقعها في هذه السورة التي هي مدنية إلحاقاً لها بها لمناسبة أن تكون مقدمة لذكر تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ الذي يظهر أنه وقع بعد وقعة الأحزاب وقد علم الله ذلك من قبلُ فقدر له الأحوال التي حصلت من بعد .
ووجود واو العطف في أول الجملة يقتضي أنها معطوفة على كلام نزل قبلها من سورة أخرى لم نقف على تعيينه ولا تعيين السورة التي كانت الآية فيها ، وهو عطف جملة على جملة لمناسبة بينهما .
وروي عن جابر بن زيد أن سبب نزول هذه الآية : أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيْط وكانت أول من هاجَرن من النساء وأنها وهبت نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم فزوجها من زيد بن حارثة ، بعد أن طلق زيْدٌ زينَب بنتَ جحش كما سيأتي قريباً ، فكرهت هي وأخوها ذلك وقالت : إنما أردت رسولَ الله فزوجني عبده ثم رضيت هي وأخوها بعد نزول الآية .
والمناسبة تعقيب الثناء على أهل خصال هي من طاعة الله ، بإيجاب طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم فلما أُعقب ذلك بما في الاتصاف بما هو من أمر الله مما يكسب موعوده من المغفرة والأجر ، وسوّى في ذلك بين الرجال والنساء ، أعقبه ببيان أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به ويعتزم الأمرَ هي طاعة واجبة وأنها ملحقة بطاعة الله وأن صنفي الناس الذكور والنساء في ذلك سواء كما كانا سواء في الأحكام الماضية .
وإقحام { كان } في النفي أقوى دلالة على انتفاء الحكم لأن فعل { كان } لدلالته على الكون ، أي الوجود يقتضي نفيُه انتفاء الكون الخاص برمته كما تقدم غير مرة .
والمصدر المستفاد من { أن تكون لهم الخيرة } في محل رفع اسم { كان } المنفية وهي { كان } التامة .
وقضاء الأمر تبيينه والإِعلام به ، قال تعالى : { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } [ الحجر : 66 ] .
ومعنى { إذا قضى الله ورسوله } إذا عزم أمره ولم يجعل للمأمور خياراً في الامتثال ، فهذا الأمر هو الذي يجب على المؤمنين امتثاله احترازاً من نحو قوله للذين وجدهم يأبِرون نخلهم : « لو تركتموها لصلحت ثم قالوا تركناها فلم تصلح فقال : أنتم أعلم بأمور دنياكم » .
ومن نحو ما تقدم في أول هذه السورة من همه بمصالحة الأحزاب على نصف ثمر المدينة ثم رجوعه عن ذلك لما استشار السعدْين ، ومن نحو أمرِه يوم بدر ، بالنزول بأدنى ماء من بدر فقال له الحباب بن المنذر : أهذا منزل أنزلكَه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرْب والمكيدة ؟ قال : « بل هو الرأي والحرب والمكيدة » . قال : فإنَّ هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماءٍ من القوم فننزِلَه ثم نُغَوِّرَ ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء فنشرب ولا يشربوا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد أشرت بالرأي " فنهض بالناس . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر وكان صائماً ، فلما غَربت الشمس قال لبلال : " انْزلْ فاجدَحْ لنا " فقال : يا رسول الله لو أمسيتَ . ثم قال : " انزِل فاجدَح لنا " فقال : يا رسول الله لو أمسيتَ إن عليك نهاراً ثم قال : « انزل فاجدَح » ، فنزل فجدح له في الثالثة فشرب . فمراجعة بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه علم أن الأمر غير عزم .
وذكر اسم الجلالة هنا للإِيماء إلى أن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام طاعة للَّه ، قال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع اللَّه } [ النساء : 80 ] . فالمقصود إذا قضى رسول الله أمراً كما تقدم في قوله تعالى : { فإن لله خمسه وللرسول } في سورة الأنفال ( 41 ) إذ المقصود : فإن للرسول خُمُسَه .
و { الخيرة } : اسم مصدر تخير ، كالطِيرة اسم مصدر تَطَيَّر . قيل ولم يسمع في هذا الوزن غيرهما ، وتقدم في قوله تعالى : { ما كان لهم الخِيرة } في سورة القصص ( 68 ) .
ومَن } تبعيضية و { أمرهم } بمعنى شأنهم وهو جنس ، أي أمورهم . والمعنى : ما كان اختيار بعض شؤونهم مِلْكاً يملكونه بل يتعين عليهم اتباع ما قضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا خيرة لهم .
و ( مؤمن ومؤمنة ) لمّا وقعا في حيز النفي يعُمّان جميع المؤمنين والمؤمنات فلذلك جاء ضميرها ضمير جمع لأن المعنى : ما كان لجمعهم ولا لكل واحد منهم الخِيرَة كما هو شأن العموم .
وقرأ الجمهور { أن تكون } بمثناة فوقية لأن فاعله مؤنث لفظاً . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف وهشام وابن عامر بتحتية لأن الفاعل المؤنث غيرَ الحقيقي يجوز في فعله التذكير ولا سيما إذا وقع الفصل بين الفعل وفاعله .
وقوله : { ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً } تذييل تعميم للتحذير من مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام سواء فيما هو فيه الخيرة أم كان عن عمد للهوى في المخالفة .