وذلك أن القلم وما يسطرون به من أنواع الكلام ، من آيات الله العظيمة ، التي تستحق أن يقسم الله بها ، على براءة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، مما نسبه إليه أعداؤه من الجنون ، فنفى عنه الجنون{[1187]} بنعمة ربه عليه وإحسانه ، حيث من عليه بالعقل الكامل ، والرأي الجزل ، والكلام الفصل ، الذي هو أحسن ما جرت به الأقلام ، وسطره الأنام ، وهذا هو السعادة في الدنيا .
( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) . .
فيثبت في هذه الآية القصيرة وينفي . . يثبت نعمة الله على نبيه ، في تعبير يوحي بالقربى والمودة : حين يضيفه سبحانه إلى ذاته : ( ربك ) . وينفي تلك الصفة المفتراة التي لا تجتمع مع نعمة الله ، على عبد نسبه إليه وقربه واصطفاه . .
وإن العجب ليأخذ كل دارس لسيرة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في قومه ، من قولتهم هذه عنه ، وهم الذين علموا منه رجاحة العقل حتى حكموه بينهم في رفع الحجر الأسود قبل النبوة بأعوام كثيرة . وهم الذين لقبوه بالأمين ، وظلوا يستودعونه أماناتهم حتى يوم هجرته ، بعد عدائهم العنيف له ، فقد ثبت أن عليا - كرم الله وجهه - تخلف عن رسول الله أياما في مكة ، ليرد إليهم ودائعهم التي كانت عنده ؛ حتى وهم يحادونه ويعادونه ذلك العداء العنيف . وهم الذين لم يعرفوا عليه كذبة واحدة قبل البعثة . فلما سأل هرقل أبا سفيان عنه : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل نبوته ? قال أبو سفيان - وهو عدوه قبل إسلامه - لا ، فقال هرقل : ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله !
إن الإنسان ليأخذه العجب أن يبلغ الغيظ بالناس إلى الحد الذي يدفع مشركي قريش إلى أن يقولوا هذه القولة وغيرها عن هذا الإنسان الرفيع الكريم ، المشهور بينهم برجاحة العقل وبالخلق القويم . ولكن الحقد يعمي ويصم ، والغرض يقذف بالفرية دون تحرج ! وقائلها يعرف قبل كل أحد ، أنه كذاب أثيم !
( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) . . هكذا في عطف وفي إيناس وفي تكريم ، ردا على ذلك الحقد الكافر ، وهذا الافتراء الذميم .
وقوله : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } هو جواب القسم و { ما } هنا عاملة لها اسم وخبر ، وكذلك هي حيث دخلت الباء في الخبر ، وقوله : { بنعمة ربك } اعتراض ، كما يقول الإنسان : أنت بحمد الله فاضل .
وسبب هذه الآية ، أن قريشاً رمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون ، وهو ستر العقول ، بمعنى أن كلامه خطأ ككلام المجنون ، فنفى الله تعالى ذلك عنه وأخبره بأن له الأجر ، وأنه على الخلق العظيم ، تشريفاً له ومدحاً .
وقوله { بنعمة ربك } جعله في الكشاف حالا من الضمير الذي في مجنون المنفي . والتقدير : انتفى وصف المجنون بنعمة ربك عليك . والباء للملابسة أو السببية ، أي بسبب إنعام الله إذ برأك من النقائص . والذي أرى أن تكون جملة معترضة وأن الباء متعلقة بمحذوف يدل عليه المقام وتقديره : أن ذلك بنعمة ربك ، على نحو ما قيل في تعلق الباء في قوله باسم الله وهو الذي يقتضيه استعمالهم كقول الحماسي الفضل بن عباس اللهبي :
كل له نية في بغض صاحبه *** بنعمة الله نقليكم وتقلـونـا
وذهب ابن الحاجب في أماليه أن { بنعمة ربك } متعلق ما يتضمنه حرف { ما } النافية من معنى الفعل وقدره : انتفى أن تكون مجنونا بنعمة ربك . ولا يصح تعلقه بقوله { مجنون } إذ لو علق به لأوهم نفي جنون خاص وهو الجنون الذي يكون من نعمة الله وليس ذلك بمستقيم . واستحسن هذا ابن هشام في مغني اللبيب في الباب الثالث لولا أنه مخالف لاتفاق أن النحاة على عدم صحة تعلق الظرف بالحرف ولم يخالفهم في ذلك إلا أبو علي وأبو الفتح في خصوص تعلق المجرور والظرف بمعنى الحرف النائب عن فعل مثل حرف النداء في قولك : يا لزيد يريد في الاستغاثة ، وتقدم نظيره في قوله { فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } في سورة الطور .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.