{ 85-88 } { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
يقول تعالى { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ } أي : أنزله ، وفرض فيه الأحكام ، وبين فيه الحلال والحرام ، وأمرك بتبليغه للعالمين ، والدعوة لأحكام جميع المكلفين ، لا يليق بحكمته أن تكون الحياة هي الحياة الدنيا فقط ، من غير أن يثاب العباد ويعاقبوا ، بل لا بد أن يردك إلى معاد ، يجازي فيه المحسنون بإحسانهم ، والمسيئون بمعصيتهم .
وقد بينت لهم الهدى ، وأوضحت لهم المنهج ، فإن تبعوك ، فذلك حظهم وسعادتهم ، وإن أبوا إلا عصيانك والقدح بما جئت به من الهدى ، وتفضيل ما معهم من الباطل على الحق ، فلم يبق للمجادلة محل ، ولم يبق إلا المجازاة على الأعمال من العالم بالغيب والشهادة ، والحق والمبطل . ولهذا قال : { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وقد علم أن رسوله هو المهتدي الهادي ، وأن أعداءه هم الضالون المضلون .
والآن وقد انتهى القصص ، وانتهت التعقيبات المباشرة على ذلك القصص . الآن يتوجه الخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومن خلفه القلة المسلمة التي كانت يومها بمكة . يتوجه الخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو مخرج من بلده ، مطارد من قومه ، وهو في طريقه إلى المدينة لم يبلغها بعد ، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة ، قريبا من الخطر ، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه ، والذي يعز عليه فراقه ، لولا أن دعوته أعز عليه من بلده وموطن صباه ، ومهد ذكرياته ، ومقر أهله . يتوجه الخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو في موقفه ذاك :
( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) . .
فما هو بتاركك للمشركين ، وقد فرض عليك القرآن وكلفك الدعوة . ما هو بتاركك للمشركين يخرجونك من بلدك الحبيب إليك ، ويستبدون بك وبدعوتك ، ويفتنون المؤمنين من حولك . إنا فرض عليك القرآن لينصرك به في الموعد الذي قدره ، وفي الوقت الذي فرضه ؛ وإنك اليوم لمخرج منه مطارد ، ولكنك غدا منصور إليه عائد .
وهكذا شاءت حكمة الله أن ينزل على عبده هذا الوعد الأكيد في ذلك الظرف المكروب ، ليمضي [ صلى الله عليه وسلم ] في طريقه آمنا واثقا ، مطمئنا إلى وعد الله الذي يعلم صدقه ، ولا يستريب لحظة فيه .
وإن وعد الله لقائم لكل السالكين في الطريق ؛ وإنه ما من أحد يؤذى في سبيل الله ، فيصبر ويستيقن إلا نصره الله في وجه الطغيان في النهاية ، وتولى عنه المعركة حين يبذل ما في وسعه ، ويخلي عاتقه ، ويؤدي واجبه .
( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) . ولقد رد موسى من قبل إلى الأرض التي خرج منها هاربا مطاردا . رده فأنقذ به المستضعفين من قومه ، ودمر به فرعون وملأه ، وكانت العاقبة للمهتدين . . فامض إذن في طريقك ، ودع أمر الحكم فيما بينك وبين قومك لله الذي فرض عليك القرآن :
{ إن الذي فرض عليك القرآن } أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه . { لرادك إلى معاد } أي معاد وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه ، أو مكة التي اعتدت بها أنه من العادة رده إليها يوم الفتح ، كأنه لما حكم بأن { العاقبة للمتقين } وأكد ذلك بوعد المحسنين ووعيد المسيئين وعده بالعاقبة الحسنى في الدارين . روي أنه لما بلغ جحفة في مهاجره اشتاق إلى مولده ومولده آبائه فنزلت . { قل ربي أعلم من جاء بالهدى } وما يستحقه من الثواب والنصر ومن منتصب بفعل يفسره أعلم . { ومن هو في ضلال مبين } وما استحقه من العذاب والإذلال يعني به نفسه والمشركين ، وهو تقرير للوعد السابق وكذا قوله : { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب } .
وأخبر تعالى أن السيئة لا يضاعف جزاؤها فضلاً منه ورحمة ، وقوله تعالى : { إن الذي فرض عليك القرآن } ، معناه أنزله عليك وأثبته ، والفرض أصله عمل فرضة في عود أو نحوه فكأن الأشياء التي تثبت وتمكن وتبقى تشبه ذلك الفرض ، وقال مجاهد معناه أعطاك القرآن وقالت فرقة في هذا القول حذف مضاف ، والمعنى «فرض عليك أحكام القرآن » ، واختلف المتأولون في معنى قوله { لرادك إلى معاد } ، فقال جمهور المتأولين : أراد إلى الآخرة ، أي باعثك بعد الموت ، فالآية على هذا مقصدها إثبات الحشر والإعلام بوقوعه ، وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري وغيرهما : «المعاد » الجنة وقال ابن عباس أيضاً وجماعة : «المعاد » الموت .
قال الفقيه الإمام القاضي : فكأن الآية على هذا واعظة ومذكرة ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد «المعاد » مكة ، وهذه الآية نزلت في الجحفة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة ، قال أبو محمد : فالآية على هذا معلمة بغيب قد ظهر للأمة ومؤنسة بفتح ، و «المعاد » الموضع الذي يعاد إليه وقد اشتهر به يوم القيامة لأنه معاد الكل ، وقوله تعالى : { قل ربي أعلم } الآية ، آية متاركة للكفار وتوبيخ ، وأسند الطبري في تفسير قوله { لرادك إلى معاد } قال إلى الجنة ، قال وسماها معاداً إما من حيث قد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء وغيره وإما من حيث قد كان فيها آدم عليه السلام فهي معاد لذريته .
قال الفقيه الإمام القاضي : وإنما قال هذا من حيث تعطي لفظة «المعاد » أن المخاطب قد كان في حال يعود إليها وهذا وإن كان مما يظهر في اللفظ فيتوجه أن يسمى معاداً ما لم يكن المرء قط فيه تجوزاً ، ولأنها أحوال تابعة للمعاد الذي هو النشور من القبور .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.