60- لا تُصرف الزكاة المفروضة إلا للذين لا يجدون ما يكفيهم ، والمرضى الذين لا يستطيعون كسباً ولا مال لهم ، والذين يجمعونها ويعملون فيها ، والذين تؤلف قلوبهم ، لأنهم يرجى منهم الإسلام والانتفاع بهم في خدمته ونصرته ، والذين يدعون إلى الإسلام ويبشرون به ، وفي عتق رقاب الأرقاء والأسرى من ربقة العبودية وذل الأسر ، وفي قضاء الديون عن المدينين العاجزين عن الأداء ، إذا لم تكن ناشئة عن إثم أو ظلم أو سفه ، وفي إمداد الغزاة بما يعينهم على الجهاد في سبيل الله ، وما يتصل بذلك من طريق الخير ووجوه البر ، وفي عون المسافرين إذا انقطعت أسباب اتصالهم بأموالهم وأهليهم . شرع الله ذلك فريضة منه لمصلحة عباده ، والله سبحانه عليم بمصالح خلقه ، حكيم فيما يشرع{[84]} .
{ 60 } { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
يقول تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ } أي : الزكوات الواجبة ، بدليل أن الصدقة المستحبة لكل أحد ، لا يخص بها أحد دون أحد .
أي : إنما الصدقات لهؤلاء المذكورين دون من عداهم ، لأنه حصرها فيهم ، وهم ثمانية أصناف .
الأول والثاني : الفقراء والمساكين ، وهم في هذا الموضع ، صنفان متفاوتان ، فالفقير أشد حاجة من المسكين ، لأن اللّه بدأ بهم ، ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم ، ففسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئا ، أو يجد بعض كفايته دون نصفها .
والمسكين : الذي يجد نصفها فأكثر ، ولا يجد تمام كفايته ، لأنه لو وجدها لكان غنيا ، فيعطون من الزكاة ما يزول به فقرهم ومسكنتهم .
والثالث : العاملون على الزكاة ، وهم كل من له عمل وشغل فيها ، من حافظ لها ، أو جاب لها من أهلها ، أو راع ، أو حامل لها ، أو كاتب ، أو نحو ذلك ، فيعطون لأجل عمالتهم ، وهي أجرة لأعمالهم فيها .
والرابع : المؤلفة قلوبهم ، والمؤلف قلبه : هو السيد المطاع في قومه ، ممن يرجى إسلامه ، أو يخشى شره أو يرجى بعطيته قوة إيمانه ، أو إسلام نظيره ، أو جبايتها ممن لا يعطيها ، فيعطى ما يحصل به التأليف والمصلحة .
الخامس : الرقاب ، وهم المكاتبون الذين قد اشتروا أنفسهم من ساداتهم ، فهم يسعون في تحصيل ما يفك رقابهم ، فيعانون على ذلك من الزكاة ، وفك الرقبة المسلمة التي في حبس الكفار داخل في هذا ، بل أولى ، ويدخل في هذا أنه يجوز أن يعتق منها الرقاب استقلالا ، لدخوله في قوله : { وفي الرقاب }
السادس : الغارمون ، وهم قسمان :
أحدهما : الغارمون لإصلاح ذات البين ، وهو أن يكون بين طائفتين من الناس شر وفتنة ، فيتوسط الرجل للإصلاح بينهم بمال يبذله لأحدهم أو لهم كلهم ، فجعل له نصيب من الزكاة ، ليكون أنشط له وأقوى لعزمه ، فيعطى ولو كان غنيا .
والثاني : من غرم لنفسه ثم أعسر ، فإنه يعطى ما يُوَفِّى به دينه .
والسابع : الغازي في سبيل اللّه ، وهم : الغزاة المتطوعة ، الذين لا ديوان لهم ، فيعطون من الزكاة ما يعينهم على غزوهم ، من ثمن سلاح ، أو دابة ، أو نفقة له ولعياله ، ليتوفر على الجهاد ويطمئن قلبه .
وقال كثير من الفقهاء : إن تفرغ القادر على الكسب لطلب العلم ، أعطي من الزكاة ، لأن العلم داخل في الجهاد في سبيل اللّه .
وقالوا أيضا : يجوز أن يعطى منها الفقير لحج فرضه ، [ وفيه نظر ]{[372]} .
والثامن : ابن السبيل ، وهو الغريب المنقطع به في غير بلده ، فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده ، فهؤلاء الأصناف الثمانية الذين تدفع إليهم الزكاة وحدهم .
{ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } فرضها وقدرها ، تابعة لعلمه وحكمه { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } واعلم أن هذه الأصناف الثمانية ، ترجع إلى أمرين :
أحدهما : من يعطى لحاجته ونفعه ، كالفقير ، والمسكين ، ونحوهما .
والثاني : من يعطى للحاجة إليه وانتفاع الإسلام به ، فأوجب اللّه هذه الحصة في أموال الأغنياء ، لسد الحاجات الخاصة والعامة للإسلام والمسلمين ، فلو أعطى الأغنياء زكاة أموالهم على الوجه الشرعي ، لم يبق فقير من المسلمين ، ولحصل من الأموال ما يسد الثغور ، ويجاهد به الكفار وتحصل به جميع المصالح الدينية .
وبعد بيان هذا الأدب اللائق في حق اللّه وحق رسوله ، تطوعاً ورضا وإسلاماً ، يقرر أن الأمر -مع ذلك - ليس أمر الرسول ؛ إنما هو أمر اللّه وفريضته وقسمته ، وما الرسول فيها إلا منفذ للفريضة المقسومة من رب العالمين . فهذه الصدقات - أي الزكاة - تؤخذ من الأغنياء فريضة من اللّه ، وترد على الفقراء فريضة من اللّه . وهي محصورة في طوائف من الناس يعينهم القرآن ، وليست متروكة لاختيار أحد ، حتى ولا اختيار الرسول :
( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل اللّه وابن السبيل . فريضة من اللّه واللّه عليم حكيم ) . .
وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة اللّه ، ومكانها في النظام الإسلامي ، لا تطوعاً ولا تفضلا ممن فرضت عليهم . فهي فريضة محتمة . ولا منحة ولا جزافاً من القاسم الموزع . فهي فريضة معلومة . إنها إحدى فرائض الإسلام تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدي بها خدمة اجتماعية محددة . وهي ليست إحساناً من المعطي وليست شحاذة من الآخذ . . كلا فما قام النظام الاجتماعي في الإسلام على التسول ، ولن يقوم !
إن قوام الحياة في النظام الإسلامي هو العمل - بكل صنوفه وألوانه - وعلى الدولة المسلمة أن توفر العمل لكل قادر عليه ، وأن تمكنه منه بالإعداد له ، وبتوفير وسائله ، وبضمان الجزاء الأوفى عليه ، وليس للقادرين على العمل من حق في الزكاة ، فالزكاة ضريبة تكافل اجتماعي بين القادرين والعاجزين ، تنظمها الدولة وتتولاها في الجمع والتوزيع ؛ متى قام المجتمع على أساس الإسلام الصحيح ، منفذاً شريعة اللّه ، لا يبتغي له شرعاً ولا منهجاً سواه .
عن ابن عمر - رضي اللّه عنهما - قال : قال رسول اللّه - [ ص ] - : " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي " .
وعن عبداللّه بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي - [ ص ] - يسألانه من الصدقة ، فقلب فيهما البصر ، فرآهما جلدين ، فقال : " إن شئتما أعطيتكما . ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " .
إن الزكاة فرع من فروع نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام . وهذا النظام أشمل وأوسع كثيراً من الزكاة ؛ لأنه يتمثل في عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها ، ونواحي الارتباطات البشرية بأكملها ، والزكاة خط أساسي من هذه الخطوط :
والزكاة تجمع بنسبة العشر ونصف العشر وربع العشر من أصل المال حسب أنواع الأموال . وهي تجمع من كل من يملك حوالي عشرين جنيهاً فائضة عن حاجته يحول عليها الحول . وبذلك يشترك في حصيلتها معظم أفراد الأمة . ثم تنفق في المصارف التي بينتها الآية هنا ، وأول المستحق لها هم الفقراء والمساكين . والفقراء هم الذين يجدون دون الكفاية ، والمساكين مثلهم ولكنهم هم الذين يتجملون فلا يبدون حاجتهم ولا يسألون .
وإن كثيراً ممن يؤدون الزكاة في عام ، قد يكونون في العام التالي مستحقين للزكاة . بنقص ما في أيديهم عن الوفاء بحاجاتهم . فهي من هذه الناحية تأمين اجتماعي . وبعضهم يكون لم يؤد شيئا في حصيلة الزكاة ولكنه يستحقها . فهي من هذه الناحية ضمان اجتماعي . . وهي قبل هذا وذاك فريضة من اللّه ، تزكو النفس بأدائها وهي إنما تعبد بها اللّه ، وتخلص من الشح وتستعلي عليه في هذا الأداء .
( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) . . وقد سبق بيانهما .
( والعاملين عليها ) . . أي الذين يقومون على تحصيلها .
( والمؤلفة قلوبهم ) . . وهم طوائف ، منهم الذين دخلوا حديثاً في الإسلام ويراد تثبيتهم عليه . ومنهم الذين يرجى أن تتألف قلوبهم فيسلموا . ومنهم الذين أسلموا وثبتوا ويرجى تأليف قلوب أمثالهم في قومهم ليثوبوا إلى الإسلام حين يرون إخوانهم يرزقون ويزادون . . وهناك خلاف فقهي حول سقوط سهم هؤلاء المؤلفة قلوبهم بعد غلبة الإسلام . . ولكن المنهج الحركي لهذا الدين سيظل يواجه في مراحله المتعددة كثيراً من الحالات ، تحتاج إلى إعطاء جماعة من الناس على هذا الوجه ؛ إما إعانة لهم على الثبات على الإسلام إن كانوا يحاربون في أرزاقهم لإسلامهم ، وإما تقريباً لهم من الإسلام كبعض الشخصيات غير المسلمة التي يرجى أن تنفع الإسلام بالدعوة له والذب عنه هنا وهناك . ندرك هذه الحقيقة ، فنرى مظهراً لكمال حكمة اللّه في تدبيره لأمر المسلمين على اختلاف الظروف والأحوال .
( وفي الرقاب ) . . ذلك حين كان الرق نظاماً عالمياً ، تجري المعاملة فيه على المثل في استرقاق الأسرى بين المسلمين وأعدائهم . ولم يكن للإسلام بد من المعاملة بالمثل حتى يتعارف العالم على نظام آخر غير الاسترقاق . . وهذا السهم كان يستخدم في إعانة من يكاتب سيده على الحرية في نظير مبلغ يؤديه له ، ليحصل على حريتهبمساعدة قسطه من الزكاة . أو بشراء رقيق وإعتاقهم بمعرفة الدولة من هذا المال .
( والغارمين ) . . وهم المدينون في غير معصية . يعطون من الزكاة ليوفوا ديونهم ، بدلاً من إعلان إفلاسهم كما تصنع الحضارة المادية بالمدينين من التجار مهما تكن الأسباب ! فالإسلام نظام تكافلي ، لا يسقط فيه الشريف ، ولا يضيع فيه الأمين ، ولا يأكل الناس بعضهم بعضاً في صورة قوانين نظامية ، كما يقع في شرائع الأرض أو شرائع الغاب !
( وفي سبيل اللّه ) . . وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة ، تحقق كلمة اللّه .
( وابن السبيل ) . . وهو المسافر المنقطع عن ماله ، ولو كان غنياً في بلده .
هذه هي الزكاة التي يتقول عليها المتقولون في هذا الزمان ، ويلمزونها بأنها نظام تسول وإحسان . . هذه هي فريضة اجتماعية ، تؤدى في صورة عبادة إسلامية . ذلك ليطهر اللّه بها القلوب من الشح ؛ وليجعلها وشيجة تراحم وتضامن بين أفراد الأمة المسلمة ، تندّي جو الحياة الإنسانية ، وتمسح على جراح البشرية ؛ وتحقق في الوقت ذاته التأمين الاجتماعي والضمان الاجتماعي في أوسع الحدود . وتبقى لها صفة العبادة التي تربط بين القلب البشري وخالقه ، كما تربط بينه وبين الناس :
( فريضة من اللّه ) الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية ، ويدبر أمرها بالحكمة :
ثم بين مصارف الصدقات تصويبا وتحقيقا لما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } أي الزكوات لهؤلاء المعدودين دون غيرهم ، وهو دليل على أن المراد باللمز لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم . والفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته من الفقار كأنه أصيب فقاره . والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه من السكون كأن العجز أسكنه ، ويدل عليه قوله تعالى : { أما السفينة فكانت لمساكين } وأنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل المسكنة ويتعوذ من الفقر . وقيل بالعكس لقوله تعالى : { ومسكينا ذا متربة } . { والعاملين عليها } الساعين في تحصيلها وجمعها . { والمُؤلّفة قلوبهم } قوم اسلموا ونيتهم ضعيفة فيه فيستأنف قلوبهم أو أشراف قد يترتب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم ، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس لذلك . وقيل أشراف يستألفون على أن يسلموا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم والأصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله وقد عد منهم من يؤلف قبله بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة . وقيل كان سهم المؤلفة لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله وأكثر أهله سقط . { وفي الرقاب } وللصرف في فك الرقاب بأن يعاون المكاتب بشيء منها على أداء النجوم . وقيل بأن تبتاع الرقاب فتعتق وبه قال مالك وأحمد أو بأن يفدي الأسارى . والعدول عن اللام إلى { في } للدلالة على أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب . وقيل للإيذان بأنهم أحق بها . { والغارمين } والمديونين لأنفسهم غير معصية ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء ، أو لإصلاح ذات البين وإن كانوا أغنياء لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغازٍ في سبيل الله أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني أو لعامل عليها " . { وفي سبيل الله } وللصرف في الجهاد بالإنفاق على المتطوعة وابتياع الكراع والسلاح . وقيل وفي بناء القناطر والمصانع . { وابن السبيل } المسافر المنقطع عن ماله . { فريضة من الله } مصدر لما دل عليه الآية الكريمة أي فرض لهم الله الصدقات فريضة ، أو حال من الضمير المستكن في { للفقراء } . وقرئ بالرفع على تلك { فريضة } . { والله عليم حكيم } يضع الأشياء في مواضعها ، وظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة بالأصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم ومراعاة التسوية بينهم قضية للاشتراك وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وعن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد وبه قال الأئمة الثلاثة واختاره بعض أصحابنا ، وبه كان يفتي شيخي ووالدي رحمهما الله تعالى على أن الآية بيان أن الصدقة لا تخرج منهم لا إيجاب قسمها عليهم .