{ 8 - 11 ْ } { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ْ }
أي : { كَيْفَ ْ } يكون للمشركين عند اللّه عهد وميثاق { و ْ } الحال أنهم { وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ْ } بالقدرة والسلطة ، لا يرحموكم ، و { لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ْ } أي : لا ذمة ولا قرابة ، ولا يخافون اللّه فيكم ، بل يسومونكم سوء العذاب ، فهذه حالكم معهم لو ظهروا .
ولا يغرنكم منهم ما يعاملونكم به وقت الخوف منكم ، فإنهم { يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ ْ } الميل والمحبة لكم ، بل هم الأعداء حقا ، المبغضون لكم صدقا ، { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ْ } لا ديانة لهم ولا مروءة .
ثم يعود لاستنكار مبدأ التعاهد بأسبابه التاريخية والواقعية ؛ بعد استنكاره بأسبابه العقيدية والإيمانية ؛ ويجمع بين هذه وتلك في الآيات التالية :
( كيف ? وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ، اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله ، إنهم ساء ما كانوا يعملون . لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون ) . .
كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، وهم لا يعاهدونكم إلا في حال عجزهم عن التغلب عليكم . ولو ظهروا عليكم وغلبوكم لفعلوا بكم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد قائم بينهم وبينكم ، وفي غير ذمة يرعونها لكم ؛ أو في غير تحرج ولا تذمم من فعل يأتونه معكم ! فهم لا يرعون عهدا ، ولا يقفون كذلك عند حد في التنكيل بكم ؛ ولا حتى الحدود المتعارف عليها في البيئة والتي يذمون لو تجاوزوها . فهم لشدة ما يكنونه لكم من البغضاء يتجاوزون كل حد في التنكيل بكم ، لو أنهم قدروا عليكم . مهما يكن بينكم وبينهم من عهود قائمة . فليس الذي يمنعهم من أي فعل شائن معكم أن تكون بينكم وبينهم عهود ؛ إنما يمنعهم أنهم لا يقدرون عليكم ولا يغلبونكم ! . . وإذا كانوا اليوم - وأنتم أقوياء - يرضونكم بأفواههم بالقول اللين والتظاهر بالوفاء بالعهد . فإن قلوبهم تنغل عليكم بالحقد ؛ وتأبى أن تقيم على العهد ؛ فما بهم من وفاء لكم ولا ود !
( وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله . إنهم ساء ما كانوا يعملون ) .
يقول تعالى محرضا للمؤمنين على معاداة المشركين والتبري منهم ، ومبينا أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله وكفرهم برسول الله{[13271]} ولو أنهم إذ ظهروا{[13272]} على المسلمين وأدِيلوا عليهم ، لم يبقوا ولم يذروا ، ولا راقبوا فيهم إلا ولا ذمة .
قال علي بن أبي طلحة ، وعِكْرِمة ، والعوفي عن ابن عباس : " الإل " : القرابة ، " والذمة " : العهد . وكذا قال الضحاك والسدي ، كما قال تميم بن مُقْبِل :
أفسد الناس خُلوفٌ خلفوا *** قطعوا الإلَّ وأعراقَ الرحم{[13273]}
وقال حسان بن ثابت ، رضي الله عنه :
وجدناهُمُ كاذبًا إِلّهُمْ *** وذو الإلِّ والعهد لا يكذب{[13274]}
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا } قال : الله . وفي رواية : لا يرقبون الله ولا غيره .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، عن سليمان ، عن أبي مجلز في قوله تعالى : { لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً } مثل قوله : " جبرائيل " ، " ميكائيل " ، " إسرافيل " ، [ كأنه يقول : يضيف " جبر " ، و " ميكا " ، و " إسراف " ، إلى " إيل " ، يقول عبد الله : { لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا } ] {[13275]} كأنه يقول : لا يرقبون الله .
والقول الأول أشهر وأظهر ، وعليه الأكثر .
وعن مجاهد أيضا : " الإل " : العهد . وقال قتادة : " الإل " : الحلف .
{ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة }
و{ كيف } هذه مؤكدة ل { كيف } [ التوبة : 7 ] التي في الآية قبلها ، فهي معترضة بين الجملتين وجملة : { وإن يظهروا عليكم } إلخ يجوز أن تكون جملة حالية ، والواو للحال ويجوز أن يكون معطوفة على جملة { كيف يكون للمشركين عهد } [ التوبة : 7 ] إخباراً عن دخائلهم .
وفي إعادة الاستفهام إشعار بأنّ جملة الحال لها مزيد تعلّق بتوجّه الإنكار على دوام العهد للمشركين ، حتّى كأنّها مستقلّة بالإنكار ، لا مجرّدُ قيد للأمر الذي توجّه إليه الإنكار ابتداء ، فيؤول المعنى الحاصل من هذا النظم إلى إنكار دوام العهد مع المشركين في ذاته ، ابتداء ، لأنّهم ليسوا أهلاً لذلك ، وإلى إنكار دوامه بالخصوص في هذه الحالة . وهي حالة ما يبطنونه من نية الغدر إن ظهروا على المسلمين ، ممّا قامت عليه القرائن والأمارات ، كما فعلت هوازن عقب فتح مكة . فجملة : { وإن يظهروا عليكم } معطوفة على جملة { كيف يكون للمشركين عهد } [ التوبة : 7 ] .
وضمير { يظهروا } عائد إلى المشركين في قوله : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله } [ التوبة : 7 ] ومعنى { وإن يظهروا } إن ينتصروا . وتقدّم بيان هذا الفعل آنفاً عند قوله تعالى : { ولم يظاهروا عليكم أحدا } [ التوبة : 4 ] . والمعنى : لو انتصر المشركون ، بعد ضعفهم ، وبعد أن جرّبوا من العهد معكم أنّه كان سبباً في قوتكم ، لنقضوا العهد . وضمير { عليكم } خطاب للمؤمنين .
ومعنى { لا يرقبوا } لا يوفوا ولا يراعوا ، يقال : رقَب الشيء ، إذا نظر إليه نظر تعهّد ومراعاة ، ومنه سمّي الرقيب ، وسمّي المرْقَبَ مكان الحراسة ، وقد أطلق هنا على المراعاة والوفاء بالعهد ، لأنّ من أبطل العمل بشيء فكأنّه لم يَره وصرف نظره عنه .
والإلّ : الحلف والعهد ؛ ويطلق الإلّ على النسب والقرابة . وقد كانت بين المشركين وبين المسلمين أنساب وقرابات ، فيصحّ أن يراد هنا كلا معنييه .
والذمّة ما يمتّ به من الأواصر من صحبة وخلة وجوار ممّا يجب في المروءة أن يحفظ ويحمى ، يقال : في ذمّتي كذا ، أي ألتزم به وأحفظه .
{ يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون }
استئناف ابتدائي ، أي هم يقولون لكم ما يرضيكم ، كيداً ولو تمكّنوا منكم لم يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمّة . من يسمع كلاماً فيأباه .
والإباية : الامتناع من شيء مطلوب وإسناد الإباية إلى القلوب استعارة ، فقلوبهم لمّا نوت الغدر شبّهت بمن يطلب منه شيء فيأبى .
وجملة : { وأكثرهم فاسقون } في موضع الحال من واو الجماعة في { يرضونكم } مقصود منها الذمّ بأن أكثرهم موصوف ، مع ذلك ، بالخروج عن مهيع المروءة والرُّجلة ، إذ نجد أكثرهم خالعين زمام الحياة ، فجمعوا المذمة الدينية والمذمّة العرفية . فالفسق هنا الخروج عن الكمال العرفي بين الناس ، وليس المراد الخروج عن مهيع الدين لأنّ ذلك وصف لجميعهم لا لأكثرهم ، ولأنّه قد عرف من وصفهم بالكفر .