وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله بغير حق . ومن قولهم : إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه ، والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه بل شُبِّه لهم غيره ، فقتلوا غيره وصلبوه .
وادعائهم أن قلوبهم غلف لا تفقه ما تقول لهم ولا تفهمه ، وبصدهم الناس عن سبيل الله ، فصدوهم عن الحق ، ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي . وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه والتشديد فيه .
فالذين فعلوا هذه الأفاعيل لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة الخصم المبطل ، وهو أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل ما جعله شبهة له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة ما هو من أقبح ما صدر منه ، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس ، وأن له مقدمات يُجعل هذا معها .
وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقابل بمثله أو ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم ، وكل حجة سلكوها في تقريرهم لنبوة من آمنوا به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها ، دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة لم يبسطها في هذا الموضع ، بل أشار إليها ، وأحال على مواضعها وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها .
ولكن ماذا كان ؟ إنهم بمجرد ذهاب الخوف عنهم ؛ وغياب القهر لهم ، تملصوا من الميثاق الغليظ فنقضوه ، وكفروا بآيات الله ، وقتلوا أنبياءه بغير حق . وتبجحوا فقالوا : إن قلوبنا لا تقبل موعظة ، ولا يصل إليها قول ، لأنها مغلفة دون كل قول ! وفعلوا كل الأفاعيل الأخرى التي يقصها الله سبحانه على رسوله وعلى المسلمين - في مواجهة اليهود - في سياق هذه الآيات . .
( فبما نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وقولهم قلوبنا غلف )
وعند قولهم : ( قلوبنا غلف ) . . وهي القولة التي كانوا يجيبون بها على دعوة الرسول [ ص ] إما تيئيسا له من إيمانهم واستجابتهم ، وإما استهزاء بتوجيه الدعوة إليهم ، وتبجحا بالتكذيب وعدم الإصغاء ، وإما هذا وذلك معا . . عند قولهم هذا ينقطع السياق للرد عليهم :
( بل طبع الله عليها - بكفرهم - فلا يؤمنون إلا قليلا - )
فهي ليست مغلفة بطبعها . إنما هم كفرهم جر عليهم أن يطبع الله على قلوبهم ، فإذا هي صلدة جامدة مغطاة ، لا تستشعر نداوة الإيمان ولا تتذوق حلاوته ، فلا يقع منه الإيمان ، إلا قليلا ، ممن لم يستحق بفعله ، أن يطبع الله على قلبه . أي أولئك الذين فتحوا قلوبهم للحق واستشرفوه ، فهداهم الله إليه ورزقهم إياه . وهم قلة قليلة من اليهود . كعبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسد بن سعية ، وأسد بن عبيدالله . .
وهذه من الذنوب التي ارتكبوها ، مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى ، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم ، وكفرهم بآيات الله ، أي : حججه وبراهينه ، والمعجزات التي شاهدوها على أيدي الأنبياء ، عليهم السلام .
قوله{[8549]} { وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } وذلك لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء الله ، فإنهم قتلوا جمّا غفيرًا من الأنبياء [ بغير حق ]{[8550]} عليهم السلام .
وقولهم : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وعكرمة ، والسّدّي ، وقتادة ، وغير واحد : أي في غطاء . وهذا كقول المشركين : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ]{[8551]} } [ فصلت : 5 ] . وقيل : معناه أنهم ادعَوْا أن قلوبهم غُلُف للعلم ، أي : أوعية للعلم قد حوته وحصلته . رواه الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس . وقد تقدم نظيره{[8552]} في سورة البقرة .
قال الله تعالى : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } فعلى القول الأول كأنهم يعتذرون إليه بأن قلوبهم لا تعي ما يقول ؛ لأنها في غلف وفي أكنة ، قال الله [ تعالى ]{[8553]} بل هو مطبوع عليها بكفرهم . وعلى القول الثاني عكس عليهم ما ادَّعَوْه من كل وجه ، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة .
{ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } أي : مَرَدت قلوبهم على الكفر والطغيان وقلة الإيمان .
وقوله تعالى { فبما نقضهم } الآية ، إخبار عن أشياء واقعوها هي في الضد مما أمروا به وذلك أن الميثاق الذي رفع الطور من أجله نقضوه ، والإيمان الذي تضمنه { ادخلوا الباب سجداً } إذ ذلك التواضع إنما هو ثمرة الإيمان والإخبات جعلوا بدله كفرهم بآيات الله ، وقولهم : حبة في شعرة وحنطة في شعيرة ، ونحو ذلك مما هو استخفاف بأمر الله وكفر به ، وكذلك أمروا أن لا يعتدوا في السبت ، وفي ضمن ذلك الطاعة وسماع الأمر ، فجعلوا بدل ذلك الانتهاء إلى انتهاك أعظم حرمة ، وهي قتل الأنبياء ، وكذلك أخذ «الميثاق الغليظ » منهم تضمن فهمهم بقدر ما التزموه ، فجعلوا بدل ذلك تجاهلهم . وقولهم { قلوبنا غلف } أي هي في حجب وغلف{[4359]} ، فهي لا تفهم ، وأخبر الله تعالى أن ذلك كله عن طبع منه على قلوبهم ، وأنهم كذبة فيما يدعونه من قلة الفهم ، وقرأ نافع «تعْدّوا » بسكون العين وشد الدال المضمومة{[4360]} ، وروى عنه ورش «تعَدّوا » بفتح العين وشد الدال المضمومة{[4361]} وقرأ الباقون «لا تعْدوا » ساكنة العين خفيفة الدال مضمومة وقرأ الأعمش والحسن «لا تعتدوا » وقوله تعالى : { فبما } ما زائدة مؤكدة ، التقدير فبنقضهم ، وحذف جواب هذا الكلام بليغ منهم ، متروك مع ذهن السامع ، تقديره لعناهم وأذللناهم ، وحتمنا على الموافين منهم الخلود في جهنم{[4362]} .