25 - أهل مكة هم الذين كفروا ومنعوكم من دخول المسجد الحرام ، ومنعوا الهدى الذي سقتموه محبوسا معكم على التقرب به من بلوغ مكانه الذي ينحر فيه ، ولولا كراهة أن تُصيبوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات بين الكفار بمكة أخفوا إيمانهم فلم تعلموهم فتقتلوهم بغير علم بهم ، فيلحقكم بقتلهم عار وخزي ، ولهذا كان منع القتال في هذا اليوم حتى يحفظ الله من كانوا مستخفين بإسلامهم بين كفار مكة . لو تميز المؤمنون لعاقبنا الذين أصروا على الكفر منهم عقابا بالغ الألم ، حين جعل الذين كفروا في قلوبهم الأنفة أنفة الجاهلية ، فأنزل الله طمأنينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وألزمهم كلمة الوقاية من الشرك والعذاب ، وكانوا أحق بها وأهلاً لها . وكان علم الله محيطا بكل شيء .
{ 26 } { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }
يقول تعالى : { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } حيث أنفوا من كتابة { بسم الله الرحمن الرحيم } وأنفوا من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إليهم في تلك السنة ، لئلا يقول الناس : { دخلوا مكة قاهرين لقريش } وهذه الأمور ونحوها من أمور الجاهلية ، لم تزل في قلوبهم حتى أوجبت لهم ما أوجبت من كثير من المعاصي ، { فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } فلم يحملهم الغضب على مقابلة المشركين بما قابلوهم به ، بل صبروا لحكم الله ، والتزموا الشروط التي فيها تعظيم حرمات الله ولو كانت ما كانت ، ولم يبالوا بقول القائلين ، ولا لوم اللائمين .
{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } وهي { لا إله إلا الله } وحقوقها ، ألزمهم القيام بها ، فالتزموها وقاموا بها ، { وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا } من غيرهم { و } كانوا { أهلها } الذين استأهلوها لما يعلم الله عندهم وفي قلوبهم من الخير ، ولهذا قال : { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }
ويمضي في وصف الذين كفروا . وصف نفوسهم من الداخل . بعد تسجيل صفتهم وعملهم الظاهر :
( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ) . .
حمية لا لعقيدة ولا لمنهج . إنما هي حمية الكبر والفخر والبطر والتعنت . الحمية التي جعلتهم يقفون في وجه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه ، يمنعونهم من المسجد الحرام ، ويحبسون الهدي الذي ساقوه ، أن يبلغ محله الذي ينحر فيه . مخالفين بذلك عن كل عرف وعن كل عقيدة . كي لا تقول العرب ، إنه دخلها عليهم عنوة . ففي سبيل هذه النعرة الجاهلية يرتكبون هذه الكبيرة الكريهة في كل عرف ودين ؛ وينتهكون حرمة البيت الحرام الذي يعيشون على حساب قداسته ؛ وينتهكون حرمة الأشهر الحرم التي لم تنتهك في جاهلية ولا إسلام ! وهي الحمية التي بدت في تجبيههم لكل من أشار عليهم - أول الأمر - بخطة مسالمة ، وعاب عليهم صد محمد ومن معه عن بيت الله الحرام . وهي كذلك التي تبدت في رد سهيل بن عمرو لاسم الرحمن الرحيم ، ولصفة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في أثناء الكتابة . وهي كلها تنبع من تلك الجاهلية المتعجرفة المتعنتة بغير حق .
وقد جعل الله الحمية في نفوسهم على هذا النحو الجاهلي ، لما يعلمه في نفوسهم من جفوة عن الحق والخضوع له . فأما المؤمنون فحماهم من هذه الحمية . وأحل محلها السكينة ، والتقوى :
( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين . وألزمهم كلمة التقوى . وكانوا أحق بها وأهلها ) . .
والسكينة الوقورة الهادئة ، كالتقوى المتحرجة المتواضعة كلتاهما تليق بالقلب المؤمن الموصول بربه ، الساكن بهذه الصلة . المطمئن بما فيه من ثقة . المراقب لربه في كل خالجة وكل حركة ، فلا يتبطر ولا يطغى ؛ ولا يغضب لذاته ، إنما يغضب لربه ودينه . فإذا أمر أن يسكن ويهدأ خشع وأطاع . في رضى وطمأنينة .
ومن ثم كان المؤمنون أحق بكلمة التقوى ، وكانوا أهلها . وهذا ثناء آخر من ربهم عليهم . إلى جانب الامتنان عليهم بما أنزل على قلوبهم من سكينة ، وما أودع فيها من تقوى . فهم قد استحقوها في ميزان الله ، وبشهادته ؛ وهو تكريم بعد تكريم ، صادر عن علم وتقدير :
وقوله : { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } ، وذلك حين أبوا أن يكتبوا " بسم الله الرحمن الرحيم " ، وأبوا أن يكتبوا : " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " ، { فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } ، وهي قول : " لا إله إلا الله " ، كما قال ابن جرير ، وعبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن قزعة أبو علي البصري ، حدثنا سفيان بن حبيب ، حدثنا شعبة ، عن ثوير{[26894]} ، عن أبيه عن الطفيل - يعني : ابن أبي بن كعب {[26895]} [ رضي الله عنه ] {[26896]} - عن أبيه [ أنه ] {[26897]} سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال : " لا إله إلا الله " .
وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديثه ، وسألت أبا زُرْعَة عنه فلم يعرفه إلا من هذا الوجه{[26898]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني عبد الرحمن بن خالد ، عن ابن شهاب{[26899]} ، عن سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة أخبره ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا الله ، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله " ، وأنزل الله في كتابه ، وذكر قوما فقال : { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } [ الصافات : 35 ] ، وقال الله جل ثناؤه : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } وهي : " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " ، فاستكبروا عنها واستكبر عنها المشركون{[26900]} يوم الحديبية ، وكاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة . .
وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير من حديث الزهري{[26901]} ، والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري ، والله أعلم .
وقال مجاهد : { كَلِمَةَ التَّقْوَى } : الإخلاص . وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير .
وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له .
وقال الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن عَبَاية بن رِبْعِي ، عن علي : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر . وكذا قال ابن عمر ، رضي الله عنهما .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال : يقول : شهادة أن لا إله إلا الله ، وهي رأس كل تقوى .
وقال سعيد بن جبير : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال : لا إله إلا الله والجهاد في سبيله .
وقال عطاء الخراساني : هي : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن مَعْمَر عن الزهري : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال : بسم الله الرحمن الرحيم .
وقال قتادة : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال : لا إله إلا الله .
{ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } : كان المسلمون أحق بها ، وكانوا أهلها .
{ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } أي : هو عليم بمن يستحق الخير من يستحق الشر .
وقد قال النسائي : حدثنا إبراهيم بن سعيد ، حدثنا شبابة بن سوار ، عن أبي رزين ، عن عبد الله بن العلاء بن زبر ، عن بسر بن عبيد الله ، عن أبي إدريس ، عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ : { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } [ الفتح : 26 ] ، ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام . فبلغ ذلك عمر فأغلظ له ، فقال : إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمني مما علمه الله . فقال عمر : بل أنت رجل عندك علم وقرآن ، فاقرأ وعلم مما علمك الله ورسوله {[26902]} .
وهذا ذكر الأحاديث الواردة في قصة الحديبية وقصة الصلح :
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن إسحاق بن يَسَار ، عن الزهري ، عن عُرْوَة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا وساق معه الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي{[26903]} ، فقال : يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العُوذ المطافيل ، قد لبست جلود النمور ، يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدًا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ويح قريش ! قد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله [ عليهم ]{[26904]} دخلوا في الإسلام وهم وافرون ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فماذا تظن قريش ؟ فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهرني الله أو تنفرد هذه السالفة " . ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه{[26905]} على ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة . قال : فسلك بالجيش تلك الطريق ، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ، ركضوا راجعين إلى قريش ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا سلك ثنية المرار ، بركت ناقته ، فقال الناس : خلأت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت ، وما ذلك{[26906]} لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم ، إلا أعطيتهم إياها " [ ثم ] {[26907]} قال للناس : " انزلوا " . قالوا : يا رسول الله ، ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس . فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمًا من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل في قليب من تلك القلب ، فغرزه فيه فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن . فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا بُدَيل بن ورقاء في رجال من خزاعة ، فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد ، وإن محمدًا لم يأت لقتال ، إنما جاء زائرًا لهذا البيت معظمًا لحقه ، فاتهموهم .
قال محمد بن إسحاق : قال الزهري : [ و ]{[26908]} كانت خزاعة في عَيْبَة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركها ومسلمها ، لا يخفون على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا كان بمكة ، فقالوا : وإن كان إنما جاء لذلك فوالله لا يدخلها أبدًا علينا عَنْوة ، ولا يتحدث بذلك العرب . ثم بعثوا إليه مِكْرَز بن حفص ، أحد بني عامر بن لؤي ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هذا رجل غادر " . فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما كَلَّم به أصحابه ، ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[26909]} ، فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني ، وهو يومئذ سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هذا من قوم يتألهون ، فابعثوا الهَدْي " في وجهه ، فبعثوا الهدي ، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عُرْض الوادي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله ، رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظامًا لما رأى{[26910]} ، فقال : يا معشر قريش ، قد رأيت ما لا يحل صَده ، الهدي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله . قالوا : اجلس ، إنما أنت أعرابي لا علم لك . فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي ، فقال : يا معشر قريش ، إن قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم ، من التعنيف وسوء اللفظ ، وقد عرفتم أنكم والد وأنا ولد ، وقد سمعت بالذي نابكم ، فجمعت من أطاعني من قومي ، ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي . قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم . فخرج{[26911]} حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ، فقال : يا محمد جمعت أوباش الناس ، ثم جئت بهم لبيضتك لتفضها ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا . قال : وأبو بكر قاعد خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : امصص بظر اللات ! أنحن ننكشف عنه ؟ ! قال : من هذا يا محمد ؟ قال : " هذا ابن أبي قحافة " . قال : أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ، ولكن هذه بها . ثم تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد {[26912]} ، قال : فقرع يده . ثم قال : أمسك يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل - والله - لا تصل إليك . قال : ويحك ! ما أفظعك وأغلظك ! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : من هذا يا محمد ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة " . قال : أغدر ، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس ؟ ! قال فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما كلم به أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا . قال : فقام من عند رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[26913]} وقد رأى ما يصنع به أصحابه ، لا يتوضأ وضوءا إلا ابتدروه ، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه . فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش ، إنى جئت كسرى في ملكه ، وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما ، والله ما رأيت مَلكا قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا ، فروا رأيكم . قال : وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة ، وحمله على جمل له يقال له : " الثعلب " فلما دخل مكة عقرت {[26914]} به قريش ، وأرادوا قتل خراش ، فمنعتهم الأحابيش ، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا عمر ليبعثه إلى مكة ، فقال : يا رسول الله ، إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بها من بني عدي أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني : عثمان بن عفان . قال : فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت ، معظما لحرمته . فخرج عثمان حتى أتى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ، فنزل عن دابته وحمله بين يديه وردف خلفه ، وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به ، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] {[26915]} قال : واحتبسته قريش عندها ، قال : وبلغ رسول الله أن عثمان قد قتل .
قال محمد : فحدثني الزهري : أن قريشًا بعثوا سهل بن عمرو ، وقالوا : ائت محمدًا فصالحه ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدًا . فأتاه سهل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل " . فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلما وأطالا الكلام ، وتراجعا حتى جرى بينهما الصلح ، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب فأت أبا بكر فقال : يا أبا بكر ، أو ليس برسول الله ؟ أو لسنا بالمسلمين ؟ أو ليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى . قال : فعلام نعطي الذلة في ديننا ؟ فقال أبو بكر : يا عمر الزم غرزه حيث كان ، فإني أشهد أنه رسول الله . [ ثم ] {[26916]} قال عمر : وأنا أشهد . ثم أتى رسول الله فقال : يا رسول الله ، أو لسنا بالمسلمين أو ليسوا بالمشركين ؟ قال : " بلى " قال : فعلام نعطي الذلة في ديننا ؟ فقال : " أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ولن يضيعني " . ثم قال عمر : ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من{[26917]} الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا . قال : ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ]{[26918]} فقال : اكتب : " بسم الله الرحمن الرحيم " . فقال سهل بن عمرو : ولا أعرف هذا ، ولكن اكتب : " باسمك اللهم ، فقال رسول الله : " اكتب باسمك اللهم . هذا ما صلح {[26919]} عليه محمد رسول الله ، سهل بن عمرو " ، فقال سهل بن عمرو : ولو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله ، وسهل بن عمرو ، على وضع الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى رسول الله{[26920]} من أصحابه بغير إذن وليه ، رده عليهم ، ومن أتى قريشا ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {[26921]} لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنه لا أسلال ولا أغلال ، وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب : أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده ، دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن في عقد رسول الله وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم ، وأنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك ، وأقمت بها ثلاثًا معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب ، إذا جاءه أبو جندل بن سهل بن عمرو في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم {[26922]} قال : وقد كان أصحاب رسول الله خرجوا وهم لا يشكون في الفتح ، لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع ، وما تحمل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] {[26923]} على نفسه ، دخل الناس من ذلك أمر عظيم ، حتى كادوا أن يهلكوا . فلما رأى سهل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وقال : يا محمد ، قد لجّت{[26924]} القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا . قال : " صدقت " . فقام إليه فأخذ بتلابيبه . قال : وصرخ أبو جندل بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني ؟ قال : فزاد الناس شرا إلى ما بهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدا{[26925]} ، وإنا لن نغدر بهم " . قال : فوثب إليه عمر بن الخطاب فجعل يمشي مع [ أبي ] {[26926]} جندل إلى جنبه وهو يقول : اصبر أبا جندل ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب ، قال : ويدني قائم السيف منه ، قال : يقول : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه قال : فضن الرجل بأبيه . قال : ونفذت القضية ، فلما فرغا من الكتاب ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم ، وهو مضطرب في الحل ، قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أيها الناس ، انحروا{[26927]} واحلقوا " . قال : فما قام أحد . قال : ثم عاد بمثلها ، فما قام رجل حتى عاد صلى الله عليه وسلم بمثلها ، فما قام رجل .
فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة فقال : " يا أم سلمة ما شأن الناس ؟ " قالت : يا رسول الله ، قد دخلهم ما رأيت ، فلا تُكَلِّمن{[26928]} منهم إنسانًا ، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق ، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلم أحدًا حتى أتى هديه فنحره ، ثم جلس فحلق ، قال : فقام الناس ينحرون ويحلقون . قال : حتى إذا كان بين مكة والمدينة في وسط الطريق نزلت سورة الفتح .
هكذا ساقه أحمد من هذا الوجه ، وهكذا رواه يونس بن بُكَيْر وزياد البكائي ، عن ابن إسحاق ، بنحوه{[26929]} ، وفيه إغراب ، وقد رواه أيضا عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، به نحوه {[26930]} وخالفه في أشياء وقد رواه البخاري ، رحمه الله ، في صحيحه ، فساقه سياقة{[26931]} حسنة مطولة بزيادات جيدة ، فقال في كتاب الشروط{[26932]} من صحيحه :
حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر : أخبرني الزهري : أخبرني عُرْوة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه ، قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره ، وأحرم منها بعمرة وبعث عينًا له من خزاعة ، وسار حتى إذا كان بغير الأشطاط أتاه عينه ، فقال : إن قريشًا قد جمعوا لك جموعًا ، وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك ومانعوك . فقال : " أشيروا أيها الناس عليّ ، أترون أن نميل عل عيالهم ، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن صدونا عن البيت ؟ " وفي لفظ : " أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوهم . فإن يأتونا كان الله قد قطع عُنُقا من المشركين وإلا تركناهم محزونين " ، وفي لفظ : " فإن قعدوا قعدوا موتورين مجهودين محرُوبين وإن نجوا يكن عنقا قطعها الله ، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ " . فقال أبو بكر [ رضي الله عنه ] {[26933]} : يا رسول الله خرجت عامدًا لهذا البيت ، لا نريد قتل أحد ولا حربًا ، فتوجه له ، فمن صدنا عنه قاتلناه . وفي لفظ : فقال أبو بكر ، رضي الله عنه : الله ورسوله علم إنما جئنا معتمرين ، ولم نجئ لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فروحوا إذن " ، وفي لفظ : " فامضوا على اسم الله " .
حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن خالد بن الوليد في خيل لقريش طليعة ، فخذوا ذات اليمين " . فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقَتَرة الجيش ، فانطلق يركض نذيرًا لقريش ، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها ، بركت به راحلته . فقال الناس : حل حل فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، خلأت القصواء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " . ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله ، إلا أعطيتهم إياها " . ثم زجرها فوثبت ، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء ، يتبرضه الناس تبرضًا ، فلم يلبث{[26934]} الناس حتى نزحوه ، وشكي{[26935]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش ، فانتزع من كنانته سهمًا ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[26936]} من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ، نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب فأضرت بهم ، فإن شاؤوا ماددنهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، ولينفذن {[26937]} الله أمره " قال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشا فقال : إنا قد جئنا من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء . وقال : ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول : قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام عروة بن مسعود فقال : أي قوم ، ألستم بالوالد ؟ قالوا : بلى . قال : أولست بالولد ؟ قالوا : بلى . قال : فهل تتهموني ؟ قالوا : لا . قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى . قال : فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته . قالوا : ائته . فأتاه فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له نحوا من قوله لبديل بن ورقاء . فقال عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تك الأخرى فإني والله لأرى وجوها ، وإني لأرى أشوابا {[26938]} من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك ، فقال أبو بكر ، رضي الله عنه : امصص بَظْر اللات ! أنحن نفر وندعه ؟ ! قال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر . قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها ، لأجبتك . قال : وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة ، رضي الله عنه قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف ، وقال له : أخر يدك من لحية النبي صلى الله عليه وسلم . فرفع عروة رأسه وقال : من هذا ؟ قال : المغيرة بن شعبة . فقال : أي غدر ، ألست أسعى في غدرتك ؟ ! وكان المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شي " .
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه{[26939]} ، قال : فوالله ما تنخم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[26940]} نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذ توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه ، تعظيما له صلى الله عليه وسلم ، فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي ، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحدون النظر إليه تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشْد فاقبلوها . فقال رجل منهم من بني كنانة : دعوني آته . فقالوا : ائته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البُدْن ، فابعثوها له " فبُعِثَتْ له ، واستقبله الناس يُلَبُّون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت . فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البُدْن قد قُلِّدت وأشعرت ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت . فقال{[26941]} رجل منهم يقال له : " مِكْرَز بن حفص " ، فقال : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا مكرز [ بن حفص ]{[26942]} وهو رجل فاجر " ، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهل بن عمرو .
وقال معمر : أخبرني أيوب ، عن عِكْرِمَةَ أنه قال : لما جاء سهل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد سَهُل لكم من أمركم " .
قال معمر : قال الزهري في حديثه : فجاء سهل بن عمرو فقال : هات أكتب بيننا وبينك {[26943]} كتابا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " [ اكتب ] {[26944]} : بسم الله الرحمن الرحيم " ، فقال سهل [ بن عمرو ] {[26945]} : أما " الرحمن " فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب : " باسمك اللهم " ، كما كنت تكتب . فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا " بسم الله الرحمن الرحيم " . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اكتب : باسمك اللهم " . ثم قال : " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " . فقال سهل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : " محمد بن عبد الله " ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني . اكتب محمد بن عبد الله " قال الزهري : وذلك لقوله : " والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " . فقال سهل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضُغْطَةً ، ولكن ذلك من العام المقبل ، فكتب ، فقال سهل : " وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا " . فقال المسلمون : سبحان الله ! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟ ! فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهل بن عمرو يرسُفُ في قيوده قد{[26946]} خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن تَرُدّه إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نَقْضِ الكتاب بعد " . قال : فوالله إذًا لا أصالحك على شيء أبدا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأجزه لي " فقال : ما أنا بمجيز ذلك لك ، قال : " بلى فافعل " . قال : ما أنا بفاعل . قال مكرز : بلى قد أجزناه لك . قال أبو جندل : أي معشر المسلمين ، أرَدّ إلى المشركين وقد جئت مسلما ؟ ألا ترون ما قد لقيت ؟ ! وكان قد عُذِّبَ عذابا شديدا في الله عز وجل . قال عمر [ بن الخطاب ] {[26947]} رضي الله عنه : فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ألست نبي الله حقا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " بلى " . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : " بلى " . قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : " إني رسول الله ، ولستُ أعصيه ، وهو ناصري " ، قلت : أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " بلى ، أفأخبرتك أنا نأتيه{[26948]} العام ؟ " قلت : لا قال : " فإنك آتيه ومُطوِّف به " . قال : فأتيت أبا بكر فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : أيها الرجل ، إنه رسول الله ، وليس يعصي ربه ، وهو ناصره ، فاستمسك بغَرْزه ، فوالله إنه على الحق . قلت : أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى قال : أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا . قال : فإنك تأتيه وتطوف به .
قال الزهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالا . قال : فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول {[26949]} الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " قوموا فانحروا ثم احلقوا " . قال : فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات ! ! فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، قالت له أم سلمة : يا نبي الله ، أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ، ثم جاءه نسوة مؤمنات ، فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } حتى بلغ : { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [ الممتحنة : 10 ] . فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية . ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير - رجل من قريش - وهو مسلم ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، فقالوا : العهد الذي جعلت لنا ، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدًا ، فاستله الآخر ، فقال : أجل ! والله إنه لجيد ، لقد جربت منه ثم جربت ، فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه فضربه حتى بَرَد ، وفَرّ الآخر حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو ، فقال رسول الله {[26950]} صلى الله عليه وسلم حين رآه : " لقد رأى هذا ذُعرًا " ، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال :
قتل والله صاحبي ، وإني لمقتول . فجاء أبو بصير فقال : يا رسول الله ، قد - والله - أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ويل أمّه مِسْعَرُ حرب ! لو كان له أحد " . فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، قال : وتفلت منهم أبو جندل بن سهل ، فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم . فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم : " فمن أتاه منهم فهو آمن " . فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، وأنزل الله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ } حتى بلغ : { حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } ، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين البيت .
هكذا ساقه البخاري هاهنا {[26951]} ، وقد أخرجه في التفسير ، وفي عمرة الحديبية ، وفي الحج ، وغير ذلك من حديث معمر وسفيان بن عيينة ، كلاهما عن الزهري ، به {[26952]} ووقع في بعض الأماكن عن الزهري ، عن عروة ، عن مروان والمِسْوَر بن [ مَخْرَمة ]{[26953]} ، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك{[26954]} . وهذا أشبه والله أعلم ، ولم يسقه أبسط من هاهنا ، وبينه وبين سياق ابن إسحاق تباين في مواضع ، وهناك فوائد ينبغي إضافتها إلى ما هاهنا ، ولذلك سقنا تلك الرواية وهذه ، والله المستعان وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم .
وقال البخاري في التفسير : حدثنا أحمد بن إسحاق السُّلَمِي ، حدثنا يعلى ، حدثنا عبد العزيز بن سياه ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : أتيت أبا وائل أسأله فقال : كنا بصفين فقال رجل : ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله ؟ فقال علي بن أبي طالب : نعم . فقال سهل بن حُنَيْف : اتهمُوا أنفسكم ، فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني : الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين - ولو نرى قتالا لقاتلنا ، فجاء عمر فقال : ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ فقال : " بلى " قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا ؟ فقال : " يا ابن الخطاب ، إني رسول الله ، ولن يضيعني الله أبدا " ، فرجع متغيظا ، فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال : يا أبا بكر ، ألسنا على الحق وهم على الباطل ، فقال : يا ابن الخطاب ، إنه رسول الله ، ولن يضيعه الله أبدا ، فنزلت سورة الفتح{[26955]} .
وقد رواه البخاري أيضا في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق أخر عن أبي وائل سفيان {[26956]} ابن سلمة ، عن سهل{[26957]} بن حنيف به{[26958]} ، وفي بعض ألفاظه : " يا أيها الناس ، اتهموا الرأي ، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر على أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددته " وفي رواية : فنزلت سورة الفتح ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب فقرأها عليه .
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس ، أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فيهم سهل بن عمرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : " اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم " ، فقال سهل : لا ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ، ولكن اكتب ما نعرف : " باسمك اللهم " . فقال : " اكتب من محمد رسول الله " . قال : لو نعلم {[26959]} أنك رسول الله لاتبعناك ، ولكن اكتب : اسمك واسم أبيك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اكتب : من محمد بن عبد الله " . واشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن {[26960]} من جاء منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا ، فقال : يا رسول الله أتكتب هذا ؟ قال : " نعم ، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله " . رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة ، به {[26961]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا عكرمة بن عمار قال : حدثني سماك ، عن عبد الله بن عباس قال : لما خرجت الحرورية اعتزلوا ، فقلت لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين ، فقال لعلي : " اكتب يا علي : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله " قالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ، فقال رسول الله : " امح يا علي ، اللهم إنك تعلم أني رسولك ، امح يا علي ، واكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله " . والله لرسول الله خير من علي ، وقد محا نفسه ، ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوة ، أخرجت من هذه ؟ قالوا : نعم .
ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار اليمامي ، بنحوه{[26962]} .
وروى الإمام أحمد ، عن يحيى بن آدم : حدثنا زهير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مِقْسَم ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة فيها جمل لأبي جهل ، فلما صُدَّت عن البيت حَنَّتْ كما تَحِنُّ إلى أولادها{[26963]} .
{ إذ جعل الذين كفروا } مقدر باذكر أو ظرف { لعذبنا } أو { صدوكم } . { في قلوبهم الحمية } الأنفة . { حمية الجاهلية } التي تمنع إذعان الحق . { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } فأنزل عليهم الثبات والوقار وذلك ما روي " أنه عليه الصلاة والسلام لما هم بقتالهم بعثوا سهيل بن عمرو أو حويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص ليسألوه أن يرجع من عامه على أن يخلي له قريش مكة من القابل ثلاثة أيام ، فأجابهم وكتبوا بينهم كتابا ، فقال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه : " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فقالوا ما نعرف هذا اكتب باسمك اللهم ثم قال : اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك ، اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة ، فقال عليه الصلاة والسلام : " اكتب ما يريدون " فهم المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا عليهم فأنزل الله السكينة عليهم فتوقروا وتحملوا . { وألزمهم كلمة التقوى } كلمة الشهادة أو بسم الله الرحمن الرحيم محمد رسول الله اختارها لهم ، أو الثبات والوفاء بالعهد وإضافة ال { كلمة } إلى { التقوى } لأنها سببها أو كلمة أهلها . { وكانوا أحق بها } من غيرهم . { وأهلها } والمستأهلين لها . { وكان الله بكل شيء عليما } فيعلم أهل كل شيء وييسره له .
ظرف متعلق بفعل { صدوكم } [ الفتح : 25 ] أي صدوكم صدًّا لا عذر لهم فيه ولا داعي إليه إلا حميةَ الجاهلية ، وإلا فإن المؤمنين جاءوا مسالمين معظمين حُرمة الكعبة سائقين الهدايا لنفع أهل الحرم فليس من الرشد أن يمنعوا عن العمرة ولكن حمية الجاهلية غطّت على عقولهم فصمّموا على منع المسلمين ، ثم آل النزاع بين الطائفتين إلى المصالحة على أن يرجع المسلمون هذا العام وعلى أن المشركين يمكنوهم من العمرة في القابل وأن العامين سواء عندهم ولكنهم أرادوا التشفي لما في قلوبهم من الإحن على المسلمين .
فكان تعليق هذا الظرف بفعل { وصدوكم } مشعراً بتعليل الصَّد بكونه حمية الجاهلية ليفيد أن الحمية مُتَمَكنة منهم تظهر منها آثارها فمنها الصد عن المسجد الحرام .
والحمية : الأنفة ، أي الاستنكاف من أمرٍ لأنه يراه غضاضة عليه وأكثر إطلاق ذلك على استكبار لا موجب له فإن كان لموجب فهو إباء الضيم . ولما كان صدهم الناس عن زيارة البيت بلا حق لأن البيت بيت الله لا بيتهم كان داعي المنع مجرد الحمية قال تعالى : { وما كانوا أولياءه } [ الأنفال : 34 ] . و { جعل } بمعنى وضع ، كقول الحريري في المقامة الأخيرة « اجعل الموت نصب عينك » ، وقول الشاعر :
وإثمد يجعل في العين{[387]}
وضمير { جعل } يجوز أن يكون عائداً إلى اسم الجلالة في قوله : { ليدخل الله في رحمته } [ الفتح : 25 ] من قوله : { لعذبنا الذين كفروا } [ الفتح : 25 ] والعدول عن ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة التفات .
و { الذين كفروا } مفعول أول ل { جعل } . و { الحمية } بدل اشتمال من { الذين كفروا } ، و { في قلوبهم } في محل المفعول الثاني ل { جعل } ، أي تخلّقُوا بالحمية فهي دافعة بهم إلى أفعالهم لا يراعون مصلحة ولا مفسدة فكذلك حين صدّوكم عن المسجد الحرام .
و { في قلوبهم } متعلق ب { جعل } ، أي وضع الحمية في قلوبهم .
وقوله : { حمية الجاهلية } عطف بيان للحمية قُصد من إجماله ثم تفصيله تقريرُ مدلوله وتأكيده مَا يحصل لو قال : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم حميةَ الجاهلية } .
وإضافة الحمية إلى الجاهلية لقصد تحقيرها وتشنيعها فإنها من خلق أهل الجاهلية فإن ذلك انتساب ذم في اصطلاح القرآن كقوله : { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } [ آل عمران : 154 ] وقوله : { أفحكم الجاهلية يبغون } [ المائدة : 50 ] .
ويعكس ذلك إضافة السكينة إلى ضمير الله تعالى إضافة تشريف لأن السكينة من الأخلاق الفاضلة فهي موهبة إلهاية .
وتفريع { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } ، على { إذ جعل الذين كفروا } ، يؤذن بأن المؤمنين ودُّوا أن يقاتلوا المشركين وأن يدخُلوا مكة للعمرة عنوة غضباً من صدّهم عنها ولكن الله أنزل عليهم السكينة .
والمراد بالسكينة : الثبات والأناة ، أي جعل في قلوبهم التأنّي وصرف عنهم العجْلة ، فعصمهم من مقابلة الحَمِية بالغضب والانتقاممِ فقابلوا الحمية بالتعقل والتثبت فكان في ذلك خير كثير .
وفي هذه الآية من النكت المعنوية مقابلة { جعل } ب { أنزل } في قوله : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية } وقوله : { فأنزل الله سكينته } فدلّ على شرف السكينة على الحمية لأن الإنزال تخييل للرفعة وإضافة الحمية إلى الجاهلية ، وإضافة السكينة إلى اسم ذاته . وعُطف على إنزال الله سكينته { ألزمهم كلمة التقوى } [ الفتح : 26 ] ، أي جعل كلمة التقوى لازمة لهم لا يفارقونها ، أي قرن بينهم وبين كلمة التقوى ليكون ذلك مقابلَ قوله : { وصدوكم عن المسجد الحرام } [ الفتح : 25 ] فإنه لما ربط صدهم المسلمين عن المسجد الحرام بالظرف في قوله : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية الجاهلية } رَبْطاً يفيد التعليل كما قدمناه آنفاً رَبَطَ ملازمة المسلمين كلمة التقوى بإنزال السكينة في قلوبهم ، ليكون إنزال السكينة في قلوبهم ، وهو أمر باطني ، مؤثراً فيهم عملاً ظاهرياً وهو ملازمتهم كلمة التقوى كما كانت حمية الجاهلية هي التي دفعت الذين كفروا إلى صد المسلمين عن المسجد الحرام .
وضمير النصب في { وألزمهم } عائد إلى { المؤمنين } لأنهم هم الذين عوّض الله غضبهم بالسكينة ولم يكن رسول الله مفارقاً السكينة من قبل .
و { كلمة التقوى } إن حملت على ظاهرِ معنى { كلمة } كانت من قبيل الألفاظ وإطلاق الكلمة على الكلام شائع ، قال تعالى : { إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] ففسرت الكلمة هنا بأنها قول : لا إله إلا الله . وروي هذا عن أُبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي ، وقال : هو حديث غريب . قلت : في سنده : ثوير ، ويقال : ثور بن أبي فاختة قال فيه الدارقطني : هو متروك ، وقال أبو حاتم : هو ضعيف . وروى ابن مردوية عن أبي هريرة وسلمةَ بن الأكوع مثله مرفوعاً وكلها ضعيفة الأسانيد . وروي تفسيرها بذلك عند عدد كثير من الصحابة ومعنى إلزامه إياهم كلمة التقوى : أنه قدَّر لهم الثبات عليها قولاً بلفظها وعملاً بمدلولها إذ فائدة الكلام حصول معناه ، فإطلاق ( الكلمة ) هنا كإطلاقه في قوله تعالى : { وجعلها كلمة باقية في عقبه } [ الزخرف : 28 ] يعني بها قول إبراهيم لأبيه وقومه { إنني بَراء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } [ الزخرف : 26 ، 27 ] .
وإضافة { كلمة } إلى { التقوى } على هذا التفسير إضافة حقيقية . ومعنى إضافتها : أن كلمة الشهادة أصل التقوى فإن أساس التقوى اجتناب عبادة الأصنام ، ثم تتفرع على ذلك شعب التقوى كلها . ورويت أقوال أخرى في تفسير { كلمة التقوى } بمعنى كلام آخر من الكلم الطيب وهي تفاسير لا تلائم سياق الكلام ولا نظمه . ويجوز أن تحتمل { كلمة } على غير ظاهر معناها فتكون مقحمة وتكون إضافتها إلى التقوى إضافة بيانية ، أي كلمة هي التقوى ، ويكون المعنى : وألزمهم التقوى على حد إقحام لفظ اسم في قول لبيد :
إلى الحول ثم اسمُ السلام عليكما
ومنه قوله تعالى : { تبارك اسمُ ربك } [ الرحمن : 78 ] على أحد التفسيرين فيه . ويدخل في التقوى ابتداءً توحيدُ الله تعالى .
ويجوز أن يكون لفظ { كلمة } مطلقاً على حقيقة الشيء . وجُماع معناه كإطلاق الاسم في قول النابغة :
نبئت زرعة والسفاهة كاسمِها *** يُهدي إلى غرائب الأشعار
ويؤيد هذا الوجه ما نقل عن مجاهد أنه قال : كلمة التقوى : الإخلاص . فجعل ( الكلمة ) معنى من التقوى . فالمعنى على هذين التوجهين الأخيرين : أنهم تخلقوا بالتقوى لا يفارقونها فاستعير الإلزام لدوام المقارنة . وهذان الوجهان لا يعارضان تفسير كلمة ( التقوى ) بكلمة ( الشهادة ) المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يكون ذلك تفسيراً بجزئي من التقوى هو أهمّ جزئياتها ، أي تفسير مثال .
وعن الحسن : أن كلمة { التقوى } الوفاء بالعهد ، فيكون الإلزام على هذا بمعنى الإيجاب ، أي أمرهم بأن يفوا بما عاهدوا عليه للمشركين ولا ينقضوا عهدهم ، فلذلك لم ينقض المسلمون العهد حتى كان المشركون هم الذين ابتدأوا بنقضه .
والواو في { وكانوا أحق بها } واو الحال ، والجملة حال من الضمير المنصوب ، أي ألزمهم تلك الكلمة في حال كانوا فيه أحق بها وأهلها ممن لم يلزموها وهم الذين لم يقبلوا التوحيد على نحو قوله تعالى : { وإن كانت لكبيرة إلاّ على الذين هدى الله } [ البقرة : 143 ] . وجيء بفعل كانوا لدلالتها على أن هذه الأحقية راسخة فيهم حاصلة في الزمن الماضي ، أي في قدر الله تعالى .
والمعنى : أن نفوس المؤمنين كانت متهيئة لقبول كلمة التقوى والتزامها بما أرشدها الله إليه . والمفضل عليه مقدر دلّ عليه ما تقدم ، أي أحق بها من الذين كفروا والذين جعل الله في قلوبهم الحمية لأن الله قدّر لهم الاستعداد للإيمان دون الذين أصروا على الكفر .
وأهل الشيء مستحقُه ، والمعنى أنهم كانوا أهل كلمة التقوى لأنها تناسب ضمائرهم وما انطوت عليه قلوبهم . وهذه الأهلية مثل الأحقية متفاوتة في الناس وكلما اهتدى أحد من المشركين إلى الإسلام دلّ اهتداؤه على أنه حصلت له هذه الأهلية للإسلام .
وجملة { وكان اللَّه بكل شيء عليماً } تذييل ، أي وسبق في علم الله ذلك في عموم ما أحاط به علم الله من الأشياء مجرى تكوينه على نحو علمه .