ثم لما كان قول الملائكة عليهم السلام ، فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله في الأرض ، أراد الله تعالى ، أن يبين لهم من فضل آدم ، ما يعرفون به فضله ، وكمال حكمة الله وعلمه ف { عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } أي : أسماء الأشياء ، وما هو مسمى بها ، فعلمه الاسم والمسمى ، أي : الألفاظ والمعاني ، حتى المكبر من الأسماء كالقصعة ، والمصغر كالقصيعة .
{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ } أي : عرض المسميات { عَلَى الْمَلَائِكَةِ } امتحانا لهم ، هل يعرفونها أم لا ؟ .
{ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في قولكم وظنكم ، أنكم أفضل من هذا الخليفة .
( وعلم آدم الأسماء كلها ، ثم عرضهم على الملائكة ، فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . ) . .
ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - نشهد ما شهده الملائكة في الملأ الأعلى . . ها نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري ، وهو يسلمه مقاليد الخلافة . سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات . سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها - وهي ألفاظ منطوقة - رموزا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة . وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض . ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى ، لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات ، والمشقة في التفاهم والتعامل ، حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه . . الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة ! الشأن شأن جبل . فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل ! الشأن شأن فرد من الناس فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بتحضير هذا الفرد من الناس . . . إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة ! وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات .
فأما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية ، لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم . ومن ثم لم توهب لهم . فلما علم الله آدم هذا السر ، وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الأسماء . لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للأشياء والشخوص . .
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة ، بما اختصه به من عِلم أسماء كلّ شيء دونهم ، وهذا كان بعد سجودهم له ، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك ، لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة ، حين سألوا عن ذلك ، فأخبرهم [ الله ]{[1510]} تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ؛ ولهذا ذكر تعالى{[1511]} هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم ،
فقال تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا }
وقال السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال : عرض عليه أسماء ولده إنسانًا إنسانًا ، والدواب ، فقيل : هذا الحمار ، هذا الجمل ، هذا الفرس .
وقال الضحاك عن ابن عباس : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال : هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ، ودابة ، وسماء ، وأرض ، وسهل ، وبحر ، وجمل{[1512]} ، وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها .
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير ، من حديث عاصم بن كليب ، عن سعيد بن معبد ، عن ابن عباس : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال : علمه اسم الصحفة والقِدر ، قال : نعم حتى الفسوة والفُسَيَّة{[1513]} .
وقال مجاهد : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } قال : علمه اسم كل دابة ، وكل طير ، وكل شيء .
وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف : أنه علمه أسماء كل شيء ، وقال الربيع في رواية عنه : أسماء الملائكة . وقال حميد الشامي : أسماء النجوم . وقال عبد الرحمن بن زيد : علمه أسماء ذريته كلهم .
واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية ؛ لأنه قال : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } وهذا عبارة عما يعقل . وهذا الذي رجح به ليس بلازم ، فإنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم ، ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب . كما قال : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ النور : 45 ] .
[ وقد قرأ عبد الله بن مسعود : " ثم عرضهن " وقرأ أبي بن كعب : " ثم عرضها " أي : السماوات ]{[1514]} .
والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها : ذواتها وأفعالها ؛ كما قال ابن عباس حتى الفسوة والفُسَية . يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر ؛ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من كتاب التفسير من صحيحه : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا مسلم ، حدثنا هشام ، حدثنا قتادة ، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال لي خليفة : حدثنا يزيد بن زُرَيع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال - : " يجتمع المؤمنون يوم القيامة ، فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا ؟ فيأتون آدم فيقولون : أنت أبو الناس ، خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا ، فيقول : لَسْتُ هُنَاكُمْ ، ويذكر ذنبه فيستحي ؛ ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، فيأتونه فيقول : لست هُنَاكُم . ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي . فيقول : ائتوا خليل الرحمن ، فيأتونه ، فيقول : لست هُنَاكم ؛ فيقول : ائتوا موسى عَبْدًا كَلمه الله ، وأعطاه التوراة ، فيأتونه ، فيقول : لست هُنَاكُمْ ، ويذكر قَتْلَ النفس بغير نفس ، فيستحي من ربه ؛ فيقول : ائتوا عيسى عَبْدَ الله ورسولَه وكَلِمةَ الله وروحه ، فيأتونه ، فيقول : لست هُنَاكُم ، ائتوا محمدًا عبدًا غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتوني ، فأنطلق حتى أستأذن على ربي ، فيُؤذن لي ، فإذا رأيت ربي وقعتُ ساجدًا ، فيدعني ما شاء الله ، ثم يقال : ارفع رأسك ، وسل تعطه ، وقل يُسْمَع ، واشفع تُشَفَّع ، فأرفع رأسي ، فأحمده بتحميد{[1515]} يعلمُنيه ، ثم أشفع فيحد لي حدًّا فأدخلهم الجنة ، ثم أعود إليه ، وإذا رأيت ربي مثله{[1516]} ، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة{[1517]} ، ثم أعود الرابعة فأقول : ما بقي في النار إلا مَنْ حبسه القرآن ووجب عليه الخلود " {[1518]} .
هكذا ساق البخاري هذا الحديث هاهنا . وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام ، وهو ابن أبي عبد الله الدَّسْتُوائي ، عن قتادة ، به{[1519]} . وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد ، وهو ابن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة{[1520]} . ووجه إيراده هاهنا والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام : " فيأتون آدم فيقولون : أنت أبو الناس خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء " ، فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ } يعني : المسميات ؛ كما قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة قال : ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا } ثم عرض الخَلْق على الملائكة .
وقال ابن جريج ، عن مجاهد : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } عرض أصحاب الأسماء على الملائكة .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني الحجاج ، عن جرير بن حازم ومبارك بن فضالة ، عن الحسن - وأبي بكر ، عن الحسن وقتادة - قالا علمه اسم كل شيء ، وجعل يسمي كل شيء باسمه ، وعرضت عليه أمة أمة .
وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إني لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلم منه ، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين .
وقال الضحاك عن ابن عباس : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إن كنتم تعلمون{[1521]} لم أجعل في الأرض خليفة .
وقال السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء .
وقال ابن جرير : وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله ، ومعنى ذلك فقال : أنبئوني بأسماء من عَرَضْتُه عليكم أيها الملائكة القائلون : أتجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء ، من غيرنا أم منا ، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ إن كنتم صادقين في قيلكم : إني إن جعلتُ خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء ، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس ، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم ، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين .
{ وعلم آدم الأسماء كلها } إما بخلق علم ضروري بها فيه ، أو إلقاء في روعه ، ولا يفتقر إلى سابقة اصطلاح ليتسلسل والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالبا ، ولذلك يقال علمته فلم يتعلم . و{ آدم } اسم أعجمي كآزر وشالخ ، واشتقاقه من الأدمة أو الأدمة بالفتح بمعنى الأسوة ، أو من أديم الأرض لما روي عنه عليه الصلاة والسلام " أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها فخلق منها آدم " فلذلك يأتي بنوه أخيافا ، أو من الأدم أو الأدمة بمعنى الألفة ، تعسف كاشتقاق إدريس من الدرس ، ويعقوب من العقب ، وإبليس من الإبلاس . والاسم باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن مع الألفاظ والصفات والأفعال ، واستعماله عرفا في اللفظ الموضوع لمعنى سواء كان مركبا أو مفردا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما . واصطلاحا : في المفرد الدال على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة . والمراد في الآية إما الأول أو الثاني وهو يستلزم الأول ، لأن العلم بألفاظ من حيث الدلالة متوقف على العلم بالمعاني ، والمعنى أنه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة ، مستعدا لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات ، والمتخيلات والموهومات . وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأسمائها وأصول العلوم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها .
{ ثم عرضهم على الملائكة } الضمير فيه للمسميات المدلول عليها ضمنا إذ التقدير أسماء المسميات ، فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه وعوض عنه اللام كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شيبا } لأن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس الأشياء سيما إن أريد به الألفاظ ، والمراد به ذوات الأشياء ، أو مدلولات الألفاظ ، وتذكيره ليغلب ما اشتمل عليه من العقلاء ، وقرئ عرضهن وعرضها على معنى عرض مسمياتهن أو مسمياتها .
{ فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء } تبكيت لهم وتنبيه على عجزهم عن أمر الخلافة ، فإن التصرف والتدبير إقامة المعدلة قبل تحقق المعرفة ، والوقوف على مراتب الاستعدادات وقدر الحقوق محال ، وليس بتكليف ليكون من باب التكليف بالمحال ، والإنباء : إخبار فيه إعلام ، ولذلك يجري مجرى كل واحد منهما .
{ إن كنتم صادقين } في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة لعصمتكم ، أو أن خلقهم واستخلافهم وهذه صفتهم لا يليق بالحكيم ، وإن لم يصرحوا به لكنه لازم مقالهم . والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه قد يتطرق إليه بفرض ما يلزم مدلوله من الأخبار ، وبهذا الاعتبار يعتري الإنشاءات .
وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 31 )
وقوله تعالى : { وعلم } معناه عرف وتعليم آدم هنا عند قوم إلهام علمه ضرورة .
وقال قوم : بل تعليم بقول ، فإما بواسطة ملك( {[431]} ) ، أو بتكليم قبل هبوطه الأرض ، فلا يشارك موسى- عليه السلام- في خاصته .
وقرأ اليماني : » وعُلِّم «بضم العين على بناء الفعل للمفعول ، » آدمُ «مرفوعاً .
قال أبو الفتح : » هي قراءة يزيد البربري «و { آدم } أفعل مشتق من الأدمة وهي حمرة تميل إلى السواد ، وجمعه أدم وأوادم كحمر وأحامر ، ولا ينصرف بوجه ، وقيل { آدم } وزنه فاعل مشتق من أديم الأرض( {[432]} ) ، كأن الملك آدمها وجمعه آدمون وأوادم ، ويلزم قائل المقالة صرفه .
وقال الطبري : «آدم فعل رباعي سمي به » ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «خلق الله آدم من أديم الأرض كلها فخرجت ذريته على نحو ذلك منهم الأبيض والأسود والأسمر والسهل والحزن والطيب والخبيث »( {[433]} ) .
واختلف المتأولون في قوله : { الأسماء } فقال جمهور الأمة : «علمه التسميات » وقال قوم : «عرض عليه الأشخاص » .
قال القاضي أبو محمد والأول أبين ، ولفظة -علمه- تعطي ذلك .
ثم اختلف الجمهور في أي الأسماء علمه ؟ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد : «علمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات دقيقها وجليلها »( {[434]} ) .
وقال حميد الشامي( {[435]} ) : «علمه أسماء النجوم فقط » .
وقال الربيع بن خثيم( {[436]} ) : «علمه أسماء الملائكة فقط » .
وقال عبد الرحمن بن زيد : «علمه أسماء ذريته فقط » .
وقال الطبري : «علمه أسماء ذريته والملائكة » ، واختار هذا ورجحه بقوله تعالى : { ثم عرضهم على الملائكة( {[437]} ) } .
وحكى النقاش عن ابن عباس أنه تعالى علمه كلمة واحدة عرف منها جميع الأسماء .
وقال آخرون : «علمه أسماء الأجناس ، كالجبال والخيل والأودية ونحو ذلك ، دون أن يعين ما سمته ذريته منها » .
وقال ابن قتيبة : «علمه أسماء ما خلق في الأرض » .
وقال قوم : علمه الأسماء بلغة واحدة ، ثم وقع الاصطلاح من ذريته فيما سواها .
وقال بعضهم : «بل علمه الأسماء بكل لغة تكلمت بها ذريته » وقد غلا قوم في هذا المعنى حتى حكى ابن جني عن أبي علي الفارسي أنه قال : «علم الله تعالى آدم كل شيء ، حتى إنه كان يحسن من النحو مثل ما أحسن سيبويه » ، ونحو هذا من القول الذي هو بين الخطأ من جهات( {[438]} ) . وقال أكثر العلماء : «علمه تعالى منافع كل شيء ولما يصلح »( {[439]} ) .
وقال قوم : «عرض عليه الأشخاص عند التعليم » .
وقال قوم : «بل وصفها له دون عرض أشخاص » .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذه كلها احتمالات ، قال الناس بها .
وقرا أبي بن كعب : «ثم عرضها » .
وقرأ ابن مسعود : «ثم عرضهن » واختلف المتأولون هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص ؟ فقال ابن مسعود وغيره : عرض الأشخاص .
وقال ابن عباس وغيره : عرض الأسماء ، فمن قال في الأسماء بعموم كل شيء قال عرضهم أمة أمة ونوعاً نوعاً ، ومن قال في الأسماء إنها التسميات( {[440]} ) استقام على قراء ة أبيّ : «عرضها » ، ونقول في قراءة من قرأ «عرضهم » : إن لفظ الأسماء يدل على الأشخاص( {[441]} ) ، فلذلك ساغ أن يقول للأسماء عرضهم .
و { أنبئوني } معناه : أخبروني ، والنبأ الخبر ، ومنه النبيء .
وقال قوم : يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق ، ويتقرر جوازه ، لأنه تعالى علم أنهم لا يعملون .
وقال المحققون من أهل التأويل : ليس هذا على جهة التكليف وإنما على جهة التقرير والتوقيف( {[442]} ) .
وقوله تعالى : { هؤلاء } ظاهره حضور أشخاص ، وذلك عند العرض على الملائكة .
وليس في هذه الآية ما يوجب أن الاسم أريد به المسمى كما ذهب إليه مكي والمهدوي ، فمن قال إنه تعالى عرض على الملائكة أشخاصاً استقام له مع لفظ { هؤلاء } ، ومن قال إنه إنما عرض أسماء فقط جعل الإشارة ب { هؤلاء } إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة ، إذ قد حضر ما هو منها بسبب ، وذلك أسماؤها ، وكأنه قال لهم في كل اسم لأي شخص هذا .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصاً ، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها آدم ، ثم إن آدم قال لهم هذا اسمه كذا ، وهذا اسمه كذا ، و { هؤلاء } لفظ مبني على الكسر والقصر فيه لغة تميم وبعض قيس وأسد ، قال الأعشى : [ الخفيف ] .
هؤلا ثم هؤلا كلا أعطيتَ نعالاً محذوة بنعال( {[443]} )
و { كنتم } في موضع الجزم بالشرط ، والجواب عند سيبويه فيما قبله ، وعند المبرد محذوف( {[444]} ) ، والتقدير : إن كنتم صادقين فأنبئوني .
وقال ابن مسعود وابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى عليه السلام ، معنى الآية : { إن كنتم صادقين } في أن الخليفة يفسد ويسفك( {[445]} ) .
وقال آخرون : { صادقين } في إني إن استخلفتكم سبحتم بحمدي وقدستم لي .
وقال الحسن وقتادة : روي أن الملائكة قالت حين خلق الله آدم : ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقاً أعلم منا ولا أكرم عليه ، فأراد الله تعالى أن يريهم من علم آدم وكرامته خلاف ما ظنوا فالمعنى إن كنتم صادقين في دعواكم العلم .
وقال قوم : معنى الآية { إن كنتم صادقين } في جواب السؤال عالمين بالأسماء .