37- فتقبل الله مريم نذراً لأمها ، وأجاب دعاءها ، فأنبتها نباتاً حسناً ، وربَّاها في خيره ورزقه وعنايته تربية حسنة مقومة لجسدها ، وشأنه أن يرزق من يشاء من عباده رزقاً كثيراً ، كلما دخل عليها زكريا في معبدها وجد عندها رزقاً غير معهود في وقته . قال - متعجباً - : يا مريم من أين لك هذا الرزق ؟ قالت : هو من فضل الله ، وجعل زكريا - عليه السلام - كافلا لها . وكان رزقها بغير عدد ولا إحصاء .
{ فتقبلها ربها بقبول حسن } أي : جعلها نذيرة مقبولة ، وأجارها وذريتها من الشيطان { وأنبتها نباتًا حسنًا } أي : نبتت نباتا حسنا في بدنها وخلقها وأخلاقها ، لأن الله تعالى قيض لها زكريا عليه السلام { وكفلها } إياه ، وهذا من رفقه بها ليربيها على أكمل الأحوال ، فنشأت في عبادة ربها وفاقت النساء ، وانقطعت لعبادة ربها ، ولزمت محرابها أي : مصلاها فكان { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا } أي : من غير كسب ولا تعب ، بل رزق ساقه الله إليها ، وكرامة أكرمها الله بها ، فيقول لها زكريا { أنى لك هذا قالت هو من عند الله } فضلا وإحسانا { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } أي : من غير حسبان من العبد ولا كسب ، قال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب } وفي هذه الآية دليل على إثبات كرامات الأولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت الأخبار بذلك ، خلافا لمن نفى ذلك ، فلما رأى زكريا عليه السلام ما من الله به على مريم ، وما أكرمها به من رزقه الهنيء الذي أتاها بغير سعي منها ولا كسب ، طمعت نفسه بالولد ، فلهذا قال تعالى :
( فتقبلها ربها بقبول حسن ، وأنبتها نباتا حسنا ) . .
جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم ، وهذا التجرد الكامل في النذر . . وإعدادا لها أن تستقبل نفخة الروح ، وكلمة الله ، وأن تلد عيسى - عليه السلام - على غير مثال من ولادة البشر .
أي جعل كفالتها له ، وجعله أمينا عليها . . وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي . من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل .
ونشأت مباركة مجدودة . يهيىء لها الله من رزقه فيضا من فيوضاته :
( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا . قال : يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .
ولا نخوض نحن في صفة هذا الرزق كما خاضت الروايات الكثيرة . فيكفي أن نعرف أنها كانت مباركة يفيض من حولها الخير ويفيض الرزق من كل ما يسمى رزقا . حتى ليعجب كافلها - وهو نبي - من فيض الرزق . فيسألها : كيف ومن أين هذا كله ؟ فلا تزيد على أن تقول في خشوع المؤمن وتواضعه واعترافه بنعمة الله وفضله ، وتفويض الأمر إليه كله :
و من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب . .
وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه ، واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه . والتواضع في الحديث عن هذا السر ، لا التنفج به والمباهاة ! كما أن ذكر هذه الظاهرة غير المألوفة التي تثير عجب نبي الله زكريا . هي التمهيد للعجائب التي تليها في ميلاد يحيى وميلاد عيسى . .
يخبر ربنا{[4967]} أنه تقبلها من أمها نذيرة ، وأنه { وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } أي : جعلها شكلا مليحا ومنظرا بهيجا ، ويَسر لها أسباب القبول ، وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم الخير والعلم والدين . ولهذا{[4968]} قال : { وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا } وفي قراءة : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } بتشديد الفاء ونصب زكريا على المفعولية ، أي جعله كافلا لها .
قال ابن إسحاق : وما ذاك إلا أنها كانت يتيمة . وذكر غيره أن بني إسرائيل أصابتهم سَنَةُ جَدْب ، فكفل زكريا مريم لذلك . ولا منافاة بين القولين . والله أعلم .
وإنما قدر الله كون زكريا كافلها لسعادتها ، لتقتبس منه علما جما نافعًا وعملا صالحًا ؛ ولأنه كان زَوْجَ خالتها ، على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير [ وغيرهما ]{[4969]} وقيل : زوج أختها ، كما ورد في الصحيح : " فإذا بِيحيى{[4970]} وعِيسَى ، وَهُمَا ابْنَا الخَالَةِ " ، وقد يُطْلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضا تَوسُّعا ، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها . وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في عمارة بنت حمَْزَةَ أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي طالب وقال : " الخَالَةُ بِمَنزلَةِ الأمِّ " {[4971]} .
ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلالتها في محل عبادتها ، فقال : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا } قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبو الشعثاء ، وإبراهيم النخَعيّ ، والضحاك ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وعطية العَوْفي ، والسُّدِّي [ والشعبي ]{[4972]} يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف . وعن مجاهد { وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا } أي : علما ، أو قال : صحفًا فيها علم . رواه ابن أبي حاتم ، والأول أصح ، وفيه دلالة على كرامات الأولياء . وفي السنة لهذا نظائر كثيرة . فإذا رأى زكريا هذا عندها { قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا } أي : يقول من أين لك هذا ؟ { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سَهْل بن زنْجَلة ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا عبد الله ابن لَهِيعَة ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام أيامًا لم يَطْعَمْ طعاما ، حتى شَقّ ذلك عليه ، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئًا ، فأتى فاطمة فقال : " يا بُنَيَّة ، هَلْ عِنْدَكِ شَيْء آكُلُهُ ، فَإِنَّي جَائِع ؟ " فقالت : لا والله بأبي أنتَ وأمّي . فلما خَرَج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم ، فأخذته منها فوضعته في جَفْنَةٍ لها ، وقالت : والله لأوثرن بهذا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[4973]} على نفسي ومن عندي . وكانوا جميعًا محتاجين إلى شبعة طعام ، فبعثت حَسَنا أو حُسَينا إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[4974]} فرجع إليها فقالت له : بأبي وأمي{[4975]} قد أتى الله بشيء فخَبَّأتُه لك . قال : " هَلُمِّي يا بُنيَّة " قالت : فأتيته بالجفنة . فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزًا ولحمًا ، فلما نظرَتْ إليها بُهِتتْ وعرفَتْ أنها بركة من الله ، فحمدَت الله وصلَّت على نَبِيِّهِ ، وقدّمَتْه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم . فلما رآه حمد الله وقال : " مِنْ أيْنَ لَكِ هَذَا يَا بُنَية ؟ " فقالت{[4976]} يا أبت ، { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فحمد الله وقال : " الحَمْدُ للهِ الَّذي جَعَلَكِ - يا بُنَيّة - شَبيهَة بسيدةِ{[4977]} نِساء بَنيِ إسْرَائيلَ ، فَإنَّها كَانَتْ إذَا رَزَقَهَا اللهُ شَيْئًا فَسُئِلَتْ عَنْهُ قَالَتْ : { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عَلِي{[4978]} ثم أكل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأكل علي ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين ، وجميع أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم وأهل بيته جميعًا حتى شبعوا . قالت : وبقيت الجفنة كما هي ، فأوسعت ببقيتها{[4979]} على جميع الجيران ، وجعل الله فيها بركة وخيرا كثيرا{[4980]} .
{ فتقبلها ربها } فرضي بها في النذر مكان الذكر . { بقبول حسن } أي بوجه حسن يقبل به النذائر ، وهو إقامتها مقام الذكر ، أو تسلمها عقيب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسدانة . روي أن حنة لما ولدتها لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، فإن بني ماثان كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم فقال زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها فأبوا إلا القرعة ، وكانوا سبعة وعشرين فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فطفا قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها زكريا . ويجوز أن يكون مصدرا على تقدير مضاف أي بذي قبول حسن ، وأن يكون تقبل بمعنى استقبل كتقضي وتعجل أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت بقبول حسن . { وأنبتها نباتا حسنا } مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها { وكفلها زكريا } شدد الفاء حمزة والكسائي وعاصم ، وقصروا زكريا غير عاصم في رواية ابن عياش على أن الفاعل هو الله تعالى وزكريا مفعول أي جعله كافلا لها وضامنا لمصالحها ، وخفف الباقون . ومدوا " زكرياء " مرفوعا . { كلما دخل عليها زكريا المحراب } أي الغرفة التي بنيت لها ، أو المسجد ، أو أشرف مواضعه ومقدمها ، سمي به لأنه محل محاربة الشيطان كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس . { وجد عندها رزقا } جواب { كلما } وناصبه . روي : أنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب ، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وبالعكس . { قال يا مريم أنى لك هذا } من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه والأبواب مغلقة عليك ، وهو دليل جواز الكرامة للأولياء . جعل ذلك معجزة زكريا يدفعه اشتباه الأمر عليه . { قالت هو من عند الله } فلا تستبعده . قيل تكلمت صغيرة كعيسى عليه السلام ولم ترضع ثديا قط وكان رزقها ينزل عليها من الجنة . { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } بغير تقدير لكثرته ، أو بغير استحقاق تفضلا به . وهو يحتمل أن يكون من كلامهما وأن يكون من كلام الله تعالى . روي ( أن فاطمة رضي الله تعالى عنها أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رغيفين وبضعة لحم فرجع بها إليها وقال : هلمي يا بنية ، فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما فقال لها : أنى لك هذا ! فقالت : { هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } ، فقال الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل ، ثم جمع عليا والحسن والحسين وجمع أهل بيته عليه حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
تقبل مريم من أمها بتحريرها إياها للكنيسة وخدمتها، وخدمة ربها بقبول حسن، والقبول: مصدر من قبلها ربها.
{وأنْبَتَها نَباتا حَسَنا}: وأنبتها ربها في غذائه ورزقه نباتا حسنا حتى تمت فكملت امرأة بالغة تامة.
{وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا}: اختلفت القراء في قراءة قوله: {وَكَفّلَهَا}؛ فقرأته عامة قراء أهل الحجاز والمدينة والبصرة: «وكَفَلَها» مخففة الفاء بمعنى: ضمها زكريا إليه، اعتبارا بقول الله عزّ وجلّ: {يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَم}. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: {وَكَفّلَها زَكَرِيّا} بمعنى: وكفّلها الله زكريا.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ: {وكَفّلَها} مشددة الفاء بمعنى: وكفّلها الله زكريا، بمعنى: وضمها الله إليه¹ لأن زكريا أيضا ضمها إليها بإيجاب الله له ضمها إليه بالقرعة التي أخرجها الله له، والآية التي أظهرها لخصومه فيها، فجعله بها أولى منهم، إذ قرع فيها من شاحّه فيها. وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومه في مريم إذ تنازعوا فيها أيهم تكون عنده، تساهموا بقداحهم فرموا بها في نهر الأردن، فقال بعض أهل العلم: رتَب قِدْحُ زكريا، فقام فلم يجر به الماء وجرى بقداح الآخرين الماء، فجعل الله ذلك لزكريا أنه أحقّ المتنازعين فيها. وقال آخرون: بل صعد قدح زكريا في النهر، وانحدرت قداح الآخرين مع جرية الماء وذهبت، فكان ذلك له علما من الله في أنه أولى القوم بها. وأيّ الأمرين كان من ذلك فلا شكّ أن ذلك كان قضاء من الله بها لزكريا على خصومه بأنه أولاهم بها، وإذا كان ذلك كذلك، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضم الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تشاحهم فيها واختصامهم في أولاهم بها.
وإذا كان ذلك كذلك كان بيّنا أن أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد «كفلّها». وأما ما اعتلّ به القارئون ذلك بتخفيف الفاء من قول الله: {أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَم} وأن موجب صحة اختيارهم التخفيف في قوله: {وَكَفّلَهَا} فحجة دالة على ضعف احتيال المحتجّ بها. وذلك أنه غير ممتنع ذو عقل من أن يقول قائل: كفل فلان فلانا فكفله فلان، فكذلك القول في ذلك: ألقى القوم أقلامهم أيهم يكفل مريم، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام.
فتأويل الكلام: وضمها الله إلى زكريا.
وقال آخرون: بل كان زكريا كفلها بغير اقتراعٍ ولا استهامٍ عليها ولا منازعة أحد إياه فيها. وإنما كفلها لأن أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة، وعند زكريا خالتها... فضمها إلى خالتها أمّ يحيى، فكانت إليهم ومعهم، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذر أمها التي نذرت فيها. قالوا: والاقتراع فيها بالأقلام، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة إصابتهم ضعف زكريا عن حمل مؤنتها، فتدافعوا حمل مؤنتها، لا رغبة منهم، ولا تنافسا عليها وعلى احتمال مؤنتها.
فعلى هذا التأويل تصحّ قراءة من قرأ: «وَكَفَلَها زَكَرِيّا» بتخفيف الفاء لو صحّ التأويل. غير أن القول متظاهر من أهل التأويل بالقول الأول إن استهام القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سهمه منها فالجا على سهام خصومه فيها، فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف.
{كُلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا}: أن زكريا كان كلما دخل عليها المحراب بعد إدخاله إياها المحراب، وجد عندها رزقا من الله لغذائها. فقيل: إن ذلك الرزق الذي كان يجده زكريا عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء... كان يجد عندها العنب في غير حينه... كان زكريا إذا دخل عليها يعني على مريم المحراب وجد عندها رزقا من السماء من الله، ليس من عند الناس. وقالوا: لو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده لم يسألها عنه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن زكريا كان إذا دخل إليها المحراب وجد عندها من الرزق فضلاً عما كان يأتيها به الذي كان يمونها في تلك الأيام. وأما المحراب: فهو مقدم كل مجلس ومصلى، وهو سيد المجالس وأشرفها وأكرمها، وكذلك هو من المساجد.
{قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنّى لَكَ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}: قال زكريا يا مريم: أنى لك هذا؟ من أيّ وجه لك هذا الذي أرى عندك من الرزق، قالت مريم مجيبة له: هو من عند الله، تعني أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها وأعطاها...
وأما قوله: {إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِساب}: فخبر من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقه بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبده، لأنه جل ثناؤه لا ينقص سوقه ذلك إليه، كذلك خزائنه، ولا يزيد إعطاؤه إياه، ومحاسبته عليه في ملكه، وفيما لديه شيئا، ولا يعزب عنه علم ما يرزقه، وإنما يحاسب من يعطي ما يعطيه من يخشى النقصان من ملكه، بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف ومن كان جاهلاً بما يعطى على غير حساب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فتقبلها ربها بقبول حسن} يحتمل قوله: {فتقبلها ربها بقبول حسن} إذ أعاذها {وذريتها من الشيطان الرجيم} على ما سألت. ويحتمل أن جعلها تصلح للتحرير، ولما جعلت، وإن كانت أنثى...
{وأنبتها نباتا حسنا} يحتمل أن لم يجعل الشيطان إليها سبيلا، ويحتمل أن رباها تربية حسنة أن لم يجعل رزقها وكفايتها بيد أحد من الخلق، بل هو الذي تولى ذلك، لما يبعث إليها من ألوان الرزق... كقوله: {وجد عندها رزقا} وكقوله: {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا} [مريم: 25]...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}؛ حتى استقامت على الطاعة، وآثرت رضاه -سبحانه- في جميع الأوقات، وحتى كانت الثمرة منها مثل عيسى عليه السلام، وهذا هو النبات الحسن. "وكفلها زكريا"؛ ومن القبول الحسن والنبات الحسن أَنْ جعل كافِلَها والقَيَّمَ بأمرها وحفظها نبياً من الأنبياء مثل زكريا عليه السلام،... {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هّذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يرزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}...
مِنْ إمارات القبول الحسن أنها لم تكن توجد إلا في المحراب، ومن كان مسكنه وموضعه الذي يتعبَّدُ فيه وهناك يوجد المحراب -فذلك عَبْدٌ عزيز...
كان زكريا عليه السلام يقول: {أَنَّى لَكِ هَذَا}؟ لأنه لم يكن يعتقد فيها استحقاق تلك المنزلة، وكان يخاف أن غيره يغلبه وينتهز فرصة تعهدها ويسبقه بكفاية شُغْلها، فكان يسأل ويقول: {أَنَّى لَكِ هَذَا} ومن أتاكِ به؟... وكانت مريم تقول: هو من عند الله لا من عند مخلوق، فيكون لزكريا فيه راحتان: إحداهما شهود مقامها وكرامتها عند الله تعالى، والثانية أنه لم يغلبه أحد على تعهدها، ولم يسبق به...
{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ}؛ فلفظة "كلَّما" للتكرار، وفي هذا إشارة: وهو أن زكريا عليه السلام لم يَذَرْ تَعهُّدَها- وإنْ وجد عندها رزقًا -بل كل يومٍ وكل وقتٍ كان يتفقد حالها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمعنى يقتضي أن الله أوحى إلى زكرياء ومن كان هنالك بأنه تقبلها، ولذلك جعلوها كما نذرت،... وقوله {وأنبتها نباتاً حسناً}، عبارة عن حسن وسرعة الجودة فيها في خلقة وخلق،... وقوله تعالى: {وكفلها زكريا} معناه: ضمها إلى إنفاقه وحضنه، والكافل هو المربي الحاضن،... وقال السدي وغيره: إن زكرياء كان زوج ابنة أخرى لعمران، ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى: ابنا الخالة،...، و {المحراب} المبنى الحسن كالغرف والعلالي ونحوه، ومحراب القصر أشرف ما فيه ولذلك قيل لأشرف ما في المصلى وهو موقف الإمام محراب،... وقوله {أنى} معناه كيف ومن أين؟ وقولها: {هو من عند الله}، دليل على أنه ليس من جلب بشر،... وقولها: {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} تقرير لكون ذلك الرزق من عند الله...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فتقبلها ربها بقبول حسن} أي تقبل مريم من أمها ورضي أن تكون محررة للانقطاع لعبادته وخدمة بيته وهو أبلغ من قبلها وزاده مبالغة وتأكيدا وصفه بالحسن كأنه قال فقبلها ربها أبلغ قبول حسن: {وأنبتها نباتا حسنا} أي رباها ونماها في خيره ورزقه وعنايته وتوفيقه تربية حسنة شاملة للروح والجسد كما تربى الشجرة في الأرض الصالحة حتى تنمو وتثمر الثمرة الصالحة لا يفسد طبيعتها شيء ولعله عبر عن التربية بالإنبات لبيان أن التربية فطرية لا شائبة فيها. ومن مباحث اللفظ أن القبول مصدر "قبل "لا "تقبل" والنبات مصدر لنبت لا لأنبت، ولكن العرب تخرج المصدر أحيانا على غير صفة الفعل والشواهد على هذا كثيرة.
{وكفلها زكريا} شدد الكوفيون من القراء الفاء وخففها الباقون. والمعنى على الأولى: وجعل زكريا كافلا لها وعلى الثانية ظاهر. {كلما دخل عليها زكريا المحراب} وهو مقدم المصلى ويطلق على مقدم المجلس، كما قال ابن جرير وقيل لا يسمى محرابا إلا إذا كان يصعد إليه بالسلاليم. وأقول: المحراب هنا هو ما يعبر عنه أهل الكتاب بالمذبح، وهو مقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذي درجات قليلة ويكون من فيه محجوبا عمن في المعبد. {وجد عندها رزقا} قالوا كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. والله لم يقل ذلك ولا قاله رسوله صلى الله عليه وسلم ولا هو مما يعرف بالرأي ولم يثبته تاريخ يعتد به والروايات عن مفسري السلف متعارضة. وفي أسانيدها ما فيها. ومما قال ابن جرير في ذلك: إن بني إسرائيل أصابتهم أزمة حتى ضعف زكريا عن حملها وإنهم اقترعوا على حملها فخرج السهم على نجار منهم، فكان يأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها فينميه الله ويكثره فيدخل عليها زكريا فيجد عندها فضلا من الرزق فإذا وجد ذلك: {قال يا مريم أنى لك هذا} أي من أين لك هذا والأيام أيام قحط: {قالت هو من عند الله} رازق الناس بتسخير بعضهم لبعض: {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} ولا توقع من المرزوق، أو رزقا واسعا (راجع آية 27) وأنت ترى أنه لا دليل في الآية على أن الرزق كان من خوارق العادات وإسناد المؤمنين الأمر إلى الله في هذا المقام معهود في القديم والحديث.
قال الأستاذ الإمام ما مثاله مبسوطا: إن القرآن نزل سائغا يسهل على كل أحد فهمه من غير حاجة إلى عناء ولا ذهاب في الدفاع عن شيء خلاف الظاهر، فعلينا أن لا نخرج عن سنته ولا نضيف إليه حكايات إسرائيلية أو غير إسرائيلية لجعل هذه القصة من خوارق العادات والبحث عن ذلك الرزق ما هو، ومن أين جاء؟ فضول لا يحتاج إليه لفهم المعنى ولا لمزيد العبرة. ولو علم الله أن في بيانه خيرا لنا لبينه.
أما ما سيقت القصة لأجله وهو الذي يجب أن نبحث فيه، ونستخرج العبر من قوادمه وخوافيه، فهو تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله وجعلوه خاصا بشعب إسرائيل وشبهة المشركين الذين كانوا ينكرون نبوته لأنه بشر. وبيان ذلك: أن المقصد الأول من مقاصد الوحي هو تقرير عقيدة الألوهية وأهم مسائلها مسألة الوحدانية، وتقرير عقيدة البعث والجزاء وعقيدة الوحي والأنبياء. وقد افتتحت السورة بذكر التوحيد وإنزال الكتاب ثم كانت الآيات من أولها إلى هذه القصة أو قبيل هذه القصة في الألوهية والجزاء بعد البعث بالتفصيل وإزالة الشبهات والأوهام في ذلك، ثم بين أن الإيمان بالله وادعاء حبه ورجاء النجاة في الآخرة والفوز بالسعادة فيها إنما تكون باتباع رسوله، وقفى على ذلك بهذه القصة التي تزيل شبه المشركين وأهل الكتاب في رسالته وتردها على وجوههم.
رد عليهم بما يعرفونه من أن آدم أبو البشر وأن الله اصطفاه بجعله أفضل من كل أنواع الحيوان وتمكينه هو وذريته من تسخيرها وهذا متفق عليه بين المشركين وأهل الكتاب، ومن اصطفاء نوح وجعله أبا البشر الثاني وجعل ذريته هم الباقين، ومن اصطفاء إبراهيم وآله على البشر. فإن العرب وأهل الكتاب كانوا يعرفون ذلك فالأولون يفخرون بأنهم من ولد إسماعيل وعلى ملة إبراهيم كما يفخر الآخرون باصطفاء آل عمران من بني إسرائيل حفيد إبراهيم. فالله سبحانه وتعالى يرشد هؤلاء وأولئك وجميع البشر إلى أنه هو الذي اصطفى هؤلاء بغير مزية سبقت منهم تقتضي ذلك وتوجبه عليه. فإذا كان الأمر له في اصطفاء من يشاء من عباده وبذلك اصطفى هؤلاء على عالمي زمانهم. فما المانع له من اصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على العالمين كما اصطفى أولئك؟ لا مانع يمنع ذلك عند من يعقل.
فإن قيل إنه لم يعهد أن بعث نبيا من غير بني إسرائيل بعد وجودهم. قلنا ولم اصطفى بني إسرائيل عند وجودهم؟ أليس ذلك بمحض مشيئته؟ بلى. وبمحض مشيئته اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم. فهذه المثل مسوقة لبيان أنه تعالى يصطفي من خلقه من يشاء. أما الدليل على كونه شاء اصطفاءه فاصطفاه بالفعل فهو أنه اصطفاه بالفعل إذ جعله هاديا للناس مخرجا لهم من ظلمات الشرك والجهل والفساد، إلى نور الحق الجامع للتوحيد والعلم والصلاح، ولم يكن أثر غيره من آل إبراهيم وآل عمران في الهداية بأظهر من أثره، بل أثره أظهر، ونوره أسطع، صلى الله عليه وعلى كل عبد مصطفى وهذا بيان لوجه اتصال القصة بما قبلها من أول السورة.
ومن هذه المثل قصة مريم فإن أمها إذا كانت قد ولدتها وهي عاقر على خلاف المعهود كما نقل، أو يقال إذا كان قبول الأنثى محررة لخدمة بيت الله على خلاف المعهود عندهم وقد تقبله الله، فلماذا لا يجوز ان يرسل الله محمدا من غير بني إسرائيل على خلاف المعهود عندهم؟ ومثل هذا يقال في قصة زكريا عليه السلام الآتية، ومن ذلك كله يعلم أن أعماله لا تأتي دائما على ما يعهد الناس ويألفون.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وكفلها} إياه، وهذا من رفقه بها ليربيها على أكمل الأحوال، فنشأت في عبادة ربها وفاقت النساء، وانقطعت لعبادة ربها، ولزمت محرابها أي: مصلاها... {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} أي: من غير حسبان من العبد ولا كسب، قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب} وفي هذه الآية دليل على إثبات كرامات الأولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت الأخبار بذلك،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فتقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتا حسنا).. جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم، وهذا التجرد الكامل في النذر.. وإعدادا لها أن تستقبل نفخة الروح، وكلمة الله، وأن تلد عيسى -عليه السلام- على غير مثال من ولادة البشر...
(وكفلها زكريا).. أي جعل كفالتها له، وجعله أمينا عليها.. وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي. من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل. ونشأت مباركة مجدودة. يهيىء لها الله من رزقه فيضا من فيوضاته... (فتقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتا حسنا).. جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم، وهذا التجرد الكامل في النذر.. وإعدادا لها أن تستقبل نفخة الروح، وكلمة الله، وأن تلد عيسى -عليه السلام- على غير مثال من ولادة البشر...
(وكفلها زكريا).. أي جعل كفالتها له، وجعله أمينا عليها.. وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي. من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل. ونشأت مباركة مجدودة. يهيئ لها الله من رزقه فيضا من فيوضاته...