المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا} (51)

51- ألا تعجب من أمر هؤلاء الذين أوتوا حظاً من علم الكتاب يُرْضُون عبدة الأصنام والشيطان ويقولون عن الذين عبدوا الأوثان : إنهم أهدى من أهل الإيمان طريقاً .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا} (51)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا }

وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أن أخلاقهم الرذيلة وطبعهم الخبيث ، حملهم على ترك الإيمان بالله ورسوله ، والتعوض عنه بالإيمان بالجبت والطاغوت ، وهو الإيمان بكل عبادة لغير الله ، أو حكم بغير شرع الله .

فدخل في ذلك السحر والكهانة ، وعباده غير الله ، وطاعة الشيطان ، كل هذا من الجبت والطاغوت ، وكذلك حَمَلهم الكفر والحسد على أن فضلوا طريقة الكافرين بالله -عبدة الأصنام- على طريق المؤمنين فقال : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي : لأجلهم تملقا لهم ومداهنة ، وبغضا للإيمان : { هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } أي : طريقا . فما أسمجهم وأشد عنادهم وأقل عقولهم " كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم ؟ " هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من العقلاء ، أو يدخل عقلَ أحد من الجهلاء ، فهل يُفَضَّل دين قام على عبادة الأصنام والأوثان ، واستقام على تحريم الطيبات ، وإباحة الخبائث ، وإحلال كثير من المحرمات ، وإقامة الظلم بين الخلق ، وتسوية الخالق بالمخلوقين ، والكفر بالله ورسله وكتبه ، على دين قام على عبادة الرحمن ، والإخلاص لله في السر والإعلان ، والكفر بما يعبد من دونه من الأوثان والأنداد والكاذبين ، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق ، حتى البهائم ، وإقامة العدل والقسط بين الناس ، وتحريم كل خبيث وظلم ، والصدق في جميع الأقوال والأعمال ، فهل هذا إلا من الهذيان ، وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس وأضعفهم عقلا ، وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق ، وهذا هو الواقع ، ولهذا قال تعالى عنهم : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } أي : طردهم عن رحمته وأحل عليهم نقمته . { وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } أي : يتولاه ويقوم بمصالحه ويحفظه عن المكاره ، وهذا غاية الخذلان .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا} (51)

44

ويمضي السياق في التعجيب من أمر أولئك الذين يزكون أنفسهم . . بينما هم يؤمنون بالباطل وبالأحكام التي لا تستند إلى شرع الله ، وليس لها ضابط منه يعصمها من الطغيان : " الجبت والطاغوت " وبينما هم يشهدون للشرك والمشركين بأنهم أهدى من المؤمنين بكتاب الله ومنهجه وشريعته ، ويحمل عليهم - بعد التعجيب من أمرهم ، وذكر هذه المخازي عنهم - حملة عنيفة ؛ ويرذلهم ترذيلا شديدا ؛ ويظهر كامن طباعهم من الحسد والبخل ؛ والأسباب الحقيقية التي تجعلهم يقفون هذا الموقف إلى جانب انحرافهم عن دين إبراهيم - الذي يفخرون بالانتساب إليه - وينهي هذه الحملة بتهديدهم بجهنم . ( وكفى بجهنم سعيرًا ) .

ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، يؤمنون بالجبت والطاغوت ، ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ! أولئك الذين لعنهم الله . ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا . أم لهم نصيب من الملك ؟ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا . أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ؛ وآتيناهم ملكا عظيما . فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه ؛ وكفى بجهنم سعيرًا . .

لقد كان الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، أولى الناس أن يتبعوا الكتاب ؛ وأن يكفروا بالشرك الذي يعتنقه من لم يأتهم من الله هدى ؛ وأن يحكموا كتاب الله في حياتهم ، فلا يتبعوا الطاغوت - وهو كل شرع لم يأذن به الله ، وكل حكم ليس له من شريعة الله سند - ولكن اليهود - الذين كانوا يزكون أنفسهم ، ويتباهون بأنهم أحباء الله - كانوا في الوقت ذاته يتبعون الباطل والشرك باتباعهم للكهانة وتركهم الكهان والأحبار يشرعون لهم ما لم يأذن به الله . وكانوا يؤمنون بالطاغوت ؛ وهو هذا الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله . . وهو طاغوت لما فيه من طغيان - بادعاء الإنسان إحدى خصائص الألوهية - وهي الحاكمية - وبعدم انضباطه بحدود من شرع الله ، تلزمه العدل والحق . فهو طغيان ، وهو طاغوت ؛ والمؤمنون به والمتبعون له ، مشركون أو كافرون . . يعجب الله من أمرهم ، وقد أوتوا نصيبا من الكتاب ، فلم يلتزموا بما أوتوه من الكتاب !

ولقد كانوا يضيفون إلى الإيمان بالجبت والطاغوت ، موقفهم في صف المشركين الكفار ، ضد المؤمنين الذين آتاهم الله الكتاب أيضا :

ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا . .

قال ابن إسحاق . حدثني محمد بن أبى محمد ، عن عكرمة - أو عن سعيد بن جبير - عن ابن عباس . قال : " كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة ، حيي بن أخطب ، وسلام بن الحقيق ، وأبو رافع ، والربيع بن الحقيق ، وأبو عامر ، ووحوح بن عامر ، وهودة بن قيس . فأما وحوح وأبو عامر وهودة ، فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير . . فلما قدموا على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود ، وأهل العلم بالكتاب الأول . فاسألوهم : أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم . فقالوا : دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه . فأنزل الله - عز وجل - : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ) . . . إلى قوله عز وجل : ( وآتيناهم ملكا عظيما ) . . وهذا لعن لهم ، وإخبار بأنه لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة . لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين . وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم . وقد أجابوهم ، وجاءوا معهم يوم الأحزاب ؛ حتى حفر النبي [ ص ] وأصحابة حول المدينة الخندق ، وكفى الله شرهم

( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا . وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا ) .

وكان عجيبا أن يقول اليهود : إن دين المشركين خير من دين محمد ومن معه ، وإن المشركين أهدى سبيلا من الذين آمنوا بكتاب الله ورسوله [ ص ] ولكن هذا ليس بالعجيب من اليهود . . إنه موقفهم دائما من الحق والباطل ، ومن أهل الحق وأهل الباطل . . إنهم ذوو أطماع لا تنتهي ، وذوو أهواء لا تعتدل ، وذوو أحقاد لا تزول ! وهم لا يجدون عند الحق وأهله عونا لهم في شيء من أطماعهم وأهوائهم وأحقادهم . إنما يجدون العون والنصرة - دائما - عند الباطل وأهله . ومن ثم يشهدون للباطل ضد الحق ؛ ولأهل الباطل ضد أهل الحق !

هذه حال دائمة ، سببها كذلك قائم . . وكان طبيعيا منهم ومنطقيا أن يقولوا عن الذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا !

وهم يقولونها اليوم وغدا . إنهم يشوهون بوسائل الدعاية والإعلام التي في أيديهم كل حركة إسلامية ناجحة على ظهر الأرض ؛ ويعينون عليها أهل الباطل لتشويهها وتحطيمها - بالضبط كما كانوا يعينون مشركي قريش ويستنصرون بهم في الوقت ذاته - لتشويه الحركة الإسلامية الأولى وتحطيمها .

ولكنهم أحيانا - لخبثهم ولتمرسهم بالحيل الماكرة ولملابسات العصر الحديث - قد لا يثنون ثناء مكشوفا على الباطل وأهله . بل يكتفون بتشويه الحق وأهله . ليعينوا الباطل على هدمه وسحقه . ذلك أن ثناءهم المكشوف - في هذا الزمان - أصبح متهما ، وقد يثير الشبهات حول حلفائهم المستورين ، الذين يعملون لحسابهم ، في سحق الحركات الإسلامية في كل مكان . .

بل لقد يبلغ بهم المكر والحذق أحيانا ، أن يتظاهروا بعداوة وحرب حلفائهم ، الذين يسحقون لهم الحق وأهله . ويتظاهروا كذلك بمعركة كاذبة جوفاء من الكلام . ليبعدوا الشبهة تماما عن أخلص حلفائهم ، الذين يحققون لهم أهدافهم البعيدة !

ولكنهم لا يكفون أبدا عن تشويه الإسلام وأهله . . لأن حقدهم على الإسلام ، وعلى كل شبح من بعيد لأى بعث إسلامي ، أضخم من أن يداروه . . ولو للخداع والتمويه !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا} (51)

وقوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } أما " الجبت " فقال محمد بن إسحاق ، عن حسان بن فائد ، عن عمر بن الخطاب أنه قال : " الجبت " : السحر ، و " الطاغوت " : الشيطان .

وهكذا روي عن ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، والحسن ، والضحاك ، والسدي .

وعن ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، [ وأبي مالك ]{[7744]} وسعيد بن جبير ، والشعبي ، والحسن ، وعطية : " الجبت " الشيطان - زاد ابن عباس : بالحبشية . وعن ابن عباس أيضا : " الجبت " : الشرك . وعنه : " الجبت " : الأصنام .

وعن الشعبي : " الجبت " : الكاهن . وعن ابن عباس : " الجبت " : حيي بن أخطب . وعن مجاهد : " الجبت " : كعب بن الأشرف .

وقال العلامة أبو نصر بن إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه " الصحاح " : " الجبت " كلمة تقع على الصنم والكاهن{[7745]} والساحر ونحو ذلك ، وفي الحديث : " الطيرة والعيافة والطرق من الجبت " قال : وهذا ليس من محض العربية ، لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة{[7746]} من غير حرف ذولقي . {[7747]}

وهذا الحديث الذي ذكره ، رواه الإمام أحمد في مسنده فقال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا ، عوف عن حيان أبي العلاء ، حدثنا قطن بن قبيصة ، عن أبيه - وهو قبيصة بن مخارق - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت " وقال عوف : " العيافة " : زجر الطير ، و " الطرق " : الخط ، يخط في الأرض ، و " الجبت " قال الحسن : إنه الشيطان .

وهكذا رواه أبو داود في سننه والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث عوف الأعرابي ، به{[7748]}

وقد تقدم الكلام على " الطاغوت " في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسحاق بن الضيف ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله أنه سئل عن " الطواغيت " فقال : هم كهان تنزل عليهم الشياطين .

وقال مجاهد : " الطاغوت " : الشيطان في صورة إنسان ، يتحاكمون إليه ، وهو صاحب أمرهم .

وقال الإمام مالك : " الطاغوت " : هو كل ما يعبد من دون الله ، عز وجل .

وقوله : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا } أي : يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم ، وقلة دينهم ، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم .

وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عكرمة قال : جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة ، فقالوا لهم : أنتم أهل الكتاب وأهل العلم ، فأخبرونا عنا وعن محمد ، فقالوا : ما أنتم وما محمد . فقالوا : نحن نصل الأرحام ، وننحر الكوماء ، ونسقي الماء على اللبن ، ونفك العناة ، ونسقي الحجيج - ومحمد صنبور ، قطع أرحامنا ، واتبعه سراق الحجيج بنو{[7749]} غفار ، فنحن خير أم هو ؟ فقالوا : أنتم خير وأهدى سبيلا . فأنزل الله { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا ]{[7750]} } .

وقد روي هذا من غير وجه ، عن ابن عباس وجماعة من السلف .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه ؟ يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة ، وأهل السقاية ! قال : أنتم خير . قال فنزلت { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ } [ الكوثر : 3 ] ونزل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ } إلى { نَصِيرًا } .

وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع ، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق ، وأبو عمار ، ووحوح{[7751]} بن عامر ، وهوذة بن قيس . فأما وحوح{[7752]} وأبو عمار وهوذة فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير ، فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول{[7753]} فسلوهم : أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم ، فقالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه . فأنزل الله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا }


[7744]:زياد من ر، أ.
[7745]:في ر: "الكافر".
[7746]:في أ: "في حرف واحد".
[7747]:الصحاح (1/245)
[7748]:المسند (5/60) وسنن أبي داود برقم (3907) وسنن النسائي الكبرى برقم (11108).
[7749]:في د: "من".
[7750]:زيادة من ر، أ.
[7751]:في أ: "دحرج".
[7752]:في أ: "دحرج".
[7753]:في ر، أ: "الأولى".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا} (51)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أَهْدَىَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } . .

يعني بذلك جل ثناؤه : ألم تر بقلبك يا محمد إلى الذين أعطوا حظا من كتاب الله فعلموه يؤمنون بالجبت والطاغوت ، يعني : يصدّقون بالجبت والطاغوت ويكفرون بالله ، وهم يعلمون أن الإيمان بهما كفر والتصديق بهما شرك .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى الجبت والطاغوت ، فقال بعضهم : هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني أيوب ، عن عكرمة أنه قال : الجبت والطاغوت : صنمان .

وقال آخرون : الجبت : الأصنام ، والطاغوت : تراجمة الأصنام . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ أُوتُو نَصِيبا مِن الكِتابِ يُؤمِنُونَ بالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ } الجبت : الأصنام ، والطاغوت : الذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس .

وزعم رجال أن الجبت : الكاهن والطاغوت : رجل من اليهود يدعى كعب بن الأشرف ، وكان سيد اليهود .

وقال آخرون : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن حسان بن فائد ، قال : قال عمر رضي الله عنه : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن حسان بن فائد العنسي ، عن عمر مثله .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عمن حدثه ، عن مجاهد ، قال : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان .

حدثني يعقوب ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا زكريا ، عن الشعبي ، قال : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ } قال : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه ، وهو صاحب أمرهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، قال : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطات والكاهن .

وقال آخرون : الجبت : الساحر ، والطاغوت : الشيطان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان أبي يقول : الجبت : الساحر ، والطاغوت : الشيطان .

وقال آخرون : الجبت : الساحر ، والطاغوت : الكاهن . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الاَية : { الجبت والطاغوت » ، قال : الجبت : الساحر بلسان الحبشة ، والطاغوت : الكاهن .

حدثنا ابن المثنى ، قال : عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن رفيع ، قال : الجبت : الساحر ، والطاغوت : الكاهن .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن أبي العالية ، أنه قال : الطاغوت : الساحر ، والجبت : الكاهن .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن داود ، عن أبي العالية في قوله : { الجِبْتِ وَالطّاغُوتِ } قال : أحدهما السحر ، والاَخر الشيطان .

وقال آخرون : الجبت : الشيطان ، والطاغوت : الكاهن . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قوله : { يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ } كنا نحدّث أن الجبت شيطان ، والطاغوت الكاهن .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : الجبت : الشيطان ، والطاغوت : الكاهن .

وقال آخرون : الجبت : الكاهن ، والطاغوت : الشيطان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير ، قال : الجبت : الكاهن : والطاغوت : الساحر .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، قال : حدثنا عوف ، عن محمد ، قال في الجبت والطاغوت ، قال : الجبت : الكاهن ، والاَخر : الساحر .

وقال آخرون : الجبت : حيي بن أخطب ، والطاغوت : كعب بن الأشرف . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ } الطاغوت : كعب بن الأشرف ، والجبت : حيي بن أخطب .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : الجبت : حيي بن أخطب ، والطاغوت : كعب بن الأشرف .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { الجِبْتِ والطّاغُوتِ } قال : الجبت : حيي بن أخطب ، والطاغوت . كعب بن الأشرف .

وقال آخرون : الجبت : كعب بن الأشرف ، والطاغوت : الشيطان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : الجبت كعب بن الأشرف ، والطاغوت : الشيطان كان في صورة إنسان .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل : { يُؤْمِنُونَ بالجبْتِ وَالطّاغُوتِ } أن يقال : يصدّقون بمعبودين من دون الله يعبدونهما من دون الله ، ويتخذونهما إلهين . وذلك أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله ، أو طاعة أو خضوع له ، كائنا ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان .

وإذ كان ذلك كذلك وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها كانت معظمة بالعبادة من دون الله فقد كانت جبوتا وطواغيت ، وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله ، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولاً منهما ما قالا في أهل الشرك بالله ، وكذلك حيي بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ، لأنهما كانا مطاعين في أهل ملتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله ، فكانا جبتين وطاغوتين . وقد بينت الأصل الذي منه قيل للطاغوت طاغوت ، بما أغني عن إعادته في هذا الموضع .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ للّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِن الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : ويقولون للذين جحدوا وحدانية الله ورسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { هَؤلاء } يعني بذلك : هؤلاء الذين وصفهم الله بالكفر { أهْدَى } يعني أقوم وأعدل { مِنَ الّذِينَ آمَنُوا } يعني من الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم { سَبِيلاً } يعني : طريقا . وإنما ذلك مثل ، ومعنى الكلام : إن الله وصف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة والإذعان له بالطاعة في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما ، وأنهم قالوا : إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به ، وإن دين أهل التكذيب لله ولرسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق لله ولرسوله ، وذكر أن ذلك من صفة كعب بن الأشرف ، وأنه قائل ذلك . ذكر الاَثار الواردة بما قلنا :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة ، قالت له قريش : أنت خير أهل المدينة وسيدهم ؟ قال : نعم . قالوا : ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية ؟ قال : أنتم خير منه . قال : فأنزلت : { إنّ شانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ } ، وأنزلت : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بالجبْتِ والطّاغُوتِ } . . . إلى قوله : { فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا } .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة في هذه الاَية : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصيبا مِنَ الكِتاب } ثم ذكر نحوه .

وحدثني إسحاق بن شاهين ، قال : أخبرنا خالد الواسطي ، عن داود ، عن عكرمة ، قال : قدم كعب بن الأشرف مكة ، فقال له المشركون : احكم بيننا وبين هذا الصنبور الأبتر ، فأنت سيدنا وسيد قومك . فقال كعب : أنتم والله خير منه . فأنزل الله تبارك وتعالى : { ألَمْ تَرَ إلى الّذينَ أُوتُوا نَصيبا مِنَ الكِتاب } . . . إلى آخر الاَية .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرنا أيوب ، عن عكرمة : أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش ، فاستجاشهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم أن يغزوه ، وقال : إنا معك نقاتله ، فقالوا : إنكم أهل كتاب ، وهو صاحب كتاب ، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم ، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ! ففعل . ثم قالوا : نحن أهدى أم محمد ؟ فنحن ننحر الكوماء ، ونسقي اللبن على الماء ، ونصل الرحم ، ونقري الضيف ، ونطوف بهذا البيت ، ومحمد قطع رحمه ، وخرج من بلده . قال : بل أنتم خير وأهدى ! فنزلت فيه : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُو نَصِيبا مِنَ الكِتاب يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ والطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ للّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً } .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واليهود بني النضير ما كان حين أتاهم يستعينهم في دية العامريين ، فهمّوا به وبأصحابه ، فأطلع الله ورسوله على ما همّوا به من ذلك ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فهرب كعب بن الأشرف حتى أتى مكة ، فعاهدهم على محمد ، فقال له أبو سفيان : يا أبا سعد ، إنكم قوم تقرءون الكتاب ، وتعلمون ، ونحن قوم لا نعلم ، فأخبرنا : ديننا خير أم دين محمد ؟ قال كعب : اعرضوا عليّ دينكم ! فقال أبو سفيان : نحن قوم ننحر الكوماء ، ونسقي الحجيج الماء ، ونقري الضيف ، ونعمر بيت ربنا ، ونعبد آلهتنا التي كان يعبد آباؤنا ، ومحمد يأمرنا أن نترك هذا ونتبعه . قال : دينكم خير من دين محمد ، فاثبتوا عليه ! ألا ترون أن محمدا يزعم أنه بعث بالتواضع ، وهو ينكح من النساء ما شاء ؟ وما نعلم ملكا أعظم من ملك النساء ! فذلك حين يقول : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنونَ بالجبتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : نزلت في كعب بن الأشرف وكفار قريش قال : كفار قريش أهدى من محمد عليه الصلاة والسلام . قال ابن جريج : قدم كعب بن الأشرف ، فجاءته قريش فسألته عن محمد فصغر أمره ويسره وأخبرهم أنه ضالّ . قال : ثم قالوا له : ننشدك الله نحن أهدى أم هو ؟ فإنك قد علمت أنا ننحر الكوم ، ونسقي الحجيج ، ونعمر البيت ، ونطعم ما هبّت الريح ! قال : أنتم أهدى .

وقال آخرون : بل هذه الصفة جماعة من اليهود منهم حيي بن أخطب ، وهم الذين قالوا للمشركين ما أخبر الله عنهم أنهم قالوه لهم . ذكر الأخبار بذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق عمن قاله ، قال : أخبرني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الذين حزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حُيَيّ بن أخطب ، وسلام بن أي الحُقَيق ، وأبو رافع ، والربيع بن أبي الحُقَقيق ، وأبو عامر ، ووحْوح بن عامر ، وهَوْذة بن قيس¹ فأما وحوح ، وأبو عامر ، وهوذة فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير . فلما قدموا على قريش ، قالوا : هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول ، فاسألوهم أدينكم خير ، أم دين محمد ؟ فسألوهم ، فقالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه ! فأنزل الله فيهم : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ والطّاغُوتِ } . . . إلى قوله : { وآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيما } .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ والطّاغُوتِ } . . . الاَية ، قال : ذكر لنا أن هذه الاَية أنزلت في كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ورجلين من اليهود من بني النضير لقيا قريشا بموسم ، فقال لهم المشركون : أنحن أهدى أم محمد وأصحابه ؟ فإنا أهل السدانة والسقاية وأهل الحرم . فقالا : لا ، بل أهدى من محمد وأصحابه ! وهما يعلمان أنهما كاذبان ، إنما حملهما على ذلك حسد محمد وأصحابه .

وقال آخرون : بل هذه صفة حيي بن أخطب وحده ، وإياه عني بقوله : { وَيقُولُونَ للّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً } . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ } . . . إلى آخر الاَية ، قال : جاء حيي بن أخطب إلى المشركين ، فقالوا : يا حيي إنكم أصحاب كتب ، فنحن خير أم محمد وأصحابه ؟ نحن وأنتم خير منهم ! فذلك قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ } . . . إلى قوله : { وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا } .

وأولى الأقوال بالصحة في ذلك قول من قال : إن ذلك خبر من الله جلّ ثناؤه عن جماعة من أهل الكتاب من اليهود ، وجائز أن يكون كانت الجماعة الذين سماهم ابن عباس في الخبر الذي رواه محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعد أو يكون حييا وآخر معه ، إما كعبا وإما غيره .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا} (51)

أعيد التعجيب من اليهود ، الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ، بما هو أعجب من حالهم التي مرّ ذكرها في قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة } [ النساء : 44 ] ؛ فإنّ إيمانهم بالجبت والطاغوت وتصويبهم للمشركين تباعد منهم عن أصول شرعهم بمراحل شاسعة ، لأنّ أوّل قواعد التوراة وأولى كلماتها العشر هي ( لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ، لا تصنع لك تمثالاً منحُوتاً ، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ ) . وتقدّم بيان تركيب { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } آنفاً في سورة آل عمران ( 23 ) .

والجبت : كلمة معرّبة من الحبشية ، أي الشيطان والسحر ؛ لأنّ مادة : جَ بَ تَ مهملة في العربية ، فتعيّن أن تكون هذه الكلمة دخيلة . وقيل : أصلها جبس : وهو ما لا خير فيه ، فأبدلت السين تاء كما أبدلت في قول علباء بن أرقم : يا لَعَنَ الله بني السعْلات ، عمرَو بنَ يَربوع شرار النَّات ، ليسوا أعفّاء ولا أكيات ، أي شرار الناس ولا بأكياس . وكما قالوا : الجتّ بمعنى الجسّ .

والطاغوت : الأصنام كذا فسّره الجمهور هنا ونقل عن مالك بن أنس . وهو اسم يقع على الواحد والجمع فيقال : للصَّنم طاغوت وللأصنام طاغوت ، فهو نظير طِفْل وفُلْك . ولعلّ التزام اقترانه بلام تعريف الجنس هو الذي سوّغ إطلاقه على الواحد والجمع نظير الكتاب والكتب . ثم لمّا شاع ذلك طردوه حتّى في حالة تجرّده عن اللام ، قال تعالى : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } [ النساء : 60 ] فأفرده ، وقال : { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يَعْبُدوها } [ الزمر : 17 ] ، وقال : { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم } [ البقرة : 257 ] الخ . وهذا الاسم مشتقّ من طغى يطغو إذا تعاظم وترفّع ، وأصله مصدر بوزن فَعَلوت للمبالغة ، مثل : رهبوت ، وملكوت ، ورحموت ، وجبَروت ، فأصله طَغَوُوت فوقع فيه قلب مكاني بتقديم لام الكلمة على عينها فصار طوغوت بوزن فَلَعُوت ، والقصد من هذا القلب تأتّي إبدال الواو ألفاً بتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، وهم قد يقلبون حروف الكلمة ليتأتّى الإبدال كما قلبوا أرْءَام جمع ريم إلى آرام ليتأتى إبدال الهمزة الثانية الساكنة ألفاً بعد الأولى المفتوحة ، وقد ينزّلون هذا الاسم منزلة المفرد فيجمعونه جمع تكسير على طواغيت ووزنه فعاليل ، وورد في الحديث : " لا تحلفوا بالطواغيت " . وفي كلام ابن المسيّب في « صحيح البخاري » : البَحيرة التي يْمُنع درّها للطواغيت .

وقد يطلق الطاغوت على عظيم أهل الشرك كالكاهن ، لأنّهم يعظّمونه لأجل أصنامهم ، كما سيأتي في قوله تعالى : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } في هذه السورة [ النساء : 60 ] .

والآية تشير إلى ما وقع من بعض اليهود ، وفيهم كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، فإنّهم بعد وقعة أحُد طمعوا أن يسعوا في استئصال المسلمين ، فخرجوا إلى مكّة ليحَالفوا المشركين على قتال المسلمين ، فنزل كعب عند أبي سفيان ، ونزل بَقيّتهم في دور قريش ، فقال لهم المشركون ( أنتم أهل كتاب ولعلّكم أن تكونوا أدنى إلى محمّد وأتباعه منكم إلينا فلا نَأمن مكركم ) فقالوا لهم ( إنّ عبادة الأصنام أرضى عند الله ممّا يدعو إليه محمد وأنتم أهدى سبيلاً ) فقال لهم المشركون ( فاسجدوا لآلهتنا حتّى نطمئنّ إليكم ) ففعلوا ، ونزلت هذه الآية إعلاماً من الله لرسوله بما بيتّه اليهود وأهل مكة .

واللام في قوله { للذين كفروا } لام العلّة ، أي يقولون لأجل الذين كفروا وليس لامَ تعدية فعل القول ، وأريد بهم مشركو مكة وذلك اصطلاح القرآن في إطلاق صفة الكفر أنّه الشرك ، والإشارة بقوله : { هؤلاء أهدى } إلى الذين كفروا ، وهو حكاية للقول بمعناه ، لأنّهم إنّما قالوا : « أنتم أهدى من محمّد وأصحابه » ، أو قال بعض اليهود لبعض في شأن أهل مكة { هؤلاء أهدى } ، أي حين تناجوا وزوّروا ما سيقولونه ، وكذلك قوله { من الذين آمنوا } حكاية لقولهم بالمعنى نداء على غلطهم ، لأنّهم إنّما قالوا : « هؤلاء أهدى من محمّد وأتباعه » وإذ كان محمد وأتباعه مؤمنين فقد لزم من قولهم : إنّ المشركين أهدى من المؤمنين . وهذا محلّ التعجيب .