{ 27 - 30 } { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }
يعني أن محل تكذيب الكفار وغرورهم به حين كانوا في الدنيا ، فإذا كان يوم الجزاء ، ورأوا العذاب منهم { زُلْفَةً } أي : قريبًا ، ساءهم ذلك وأفظعهم ، وقلقل أفئدتهم ، فتغيرت لذلك وجوههم ، ووبخوا على تكذيبهم ، وقيل لهم هذا الذي كنتم به تكذبون ، فاليوم رأيتموه عيانًا ، وانجلى لكم الأمر ، وتقطعت بكم الأسباب ولم يبق إلا مباشرة العذاب .
وبينما هم يسألون في شك ويجابون في جزم ، يخيل السياق القرآني كأن هذا اليوم الذي يسألون عنه قد جاء ، والموعد الذي يشكون فيه قد حان ؛ وكأنما هم واجهوه الآن . فكان فيه ما كان :
( فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا ، وقيل : هذا الذي كنتم به تدعون ) !
فقد رأوه قريبا مواجها لهم حاضرا أمامهم دون توقع ودون تمهيد . فسيئت وجوههم ، وبدا فيها الاستياء . ووجه إليهم التأنيب : ( وقيل : هذا الذي كنتم به تدعون ) . . هذا هو حاضرا قريبا . وهو الذي كنتم تدعون أنه لن يكون !
وهذه الطريقة في عرض ما سيكون تتكرر في القرآن ، لمواجهة حالة التكذيب أو الشك بمفاجأة شعورية تصويرية تقف المكذب أو الشاك وجها لوجه مع مشهد حاضر لما يكذب به أو يشك فيه .
ثم هي في الوقت ذاته تصور حقيقة . فهذا اليوم كائن في علم الله ؛ أما خط الزمن بينه وبين البشر فهو قائم بالقياس إلى البشر . وهي مسألة نسبية لا تمثل الحقيقة المجردة كما هي في حساب الله . ولو أذن الله لرأوه اللحظة كما هو في علم الله . فهذا الانتقال المفاجئ لهم من الدنيا إلى الآخرة ، ومن موقف الشك والارتياب إلى موقف المواجهة والمفاجأة ، يشير إلى حقيقة قائمة لو أذن الله بها لانكشفت لهم . في الوقت الذي يصور لهم هذه الحقيقة تصويرا يهز مشاعرهم .
قال الله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : لما قامت القيامة وشاهدها الكفار ، ورأوا أن الأمر كان قريبا ؛ لأن كل ما هو آتٍ آتٍ وإن طال زمنه ، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك ، لما يعلمون ما لهم هناك من الشر ، أي : فأحاط بهم ذلك ، وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب ، { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا{[29120]} وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الزمر : 47 ، 48 ] ؛ ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ : { هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } أي : تستعجلون .
وقوله : { فَلَمّا رأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الّذِينَ كَفَرُوا } يقول تعالى ذكره : فلما رأى هؤلاء المشركون عذاب الله زلفة : يقول : قريبا ، وعاينوه ، سيئت وجوه الذين كفروا ، يقول : ساء الله بذلك وجوه الكافرين . وبنحو الذي قلنا في قوله : زُلْفَة ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : فَلَمّا رأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ ، قال : لما عاينوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، قال : سألت الحسن ، عن قوله : فَلَمّا رأَوْهُ زُلْفَة ، قال : معاينة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَلَمّا رأَوْهُ زُلْفَةً قال : قد اقترب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلَمّا رأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجوهُ الّذِينَ كَفَرُوا ، لما عاينت من عذاب الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فَلَمّا رأَوْهُ زُلْفَةً قال : لما رأوا عذاب اللّه زُلفة ، يقول : سيئت وجوههم حين عاينوا من عذاب الله وخزيه ما عاينوا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلَمّا رأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ ، قيل : الزلفة حاضر ، قد حضرهم عذاب الله عزّ وجلّ .
{ وَقِيلَ هَذَا الّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدّعُونَ } يقول : وقال الله لهم : هذا العذاب الذي كنتم به تذكرون ربكم أن يعجله لكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقِيلَ هَذَا الّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدّعُونَ ، قال : استعجالهم بالعذاب .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار هَذَا الّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدّعُونَ ، بتشديد الدال ، بمعنى تفتعلون من الدعاء .
وذُكر عن قتادة والضحاك أنهما قرءا ذلك : «تَدْعُونَ » بمعنى تفعلون في الدنيا .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، قال : أخبرنا أبان العطار وسعيد بن أبي عُروبة ، عن قتادة أنه قرأها : «الذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدْعُونَ » خفيفة ، ويقول : كانوا يدعون بالعذاب ، ثم قرأ : { وَإذْ قالُوا اللهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِندِكَ فأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بعَذَابٍ أليمٍ } .
والصواب من القراءة في ذلك ، ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وقوله : { فلما رأوه } الضمير للعذاب الذي تضمنه الوعد ، وهذه حكاية حال تأتي ، المعنى : { فإذا رأوه } و : { زلفة } معناه قريباً ، قال الحسن : عياناً ، وقال ابن زيد : حاضراً ، و : { سيئت } معناه : ظهر فيها السوء ، وقرأ جمهور الناس : «سِيئت » بكسر السين ، وقرأ أبو جعفر الحسن ونافع أيضاً وابن كثير وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة : بالإشمام بين الضم والكسر . وقرأ جمهور الناس ونافع بخلاف عنه : «تدّعون » بفتح الدال وشدها ، على وزن : تفتعلون ، أي تتداعون أمره بينكم ، وقال الحسن : يدّعون أنه لا جنة ولا نار ، وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك وقتادة وابن يسار وسلام : «يدْعون » بسكون الدال على معنى : يستعجلون ، كقولهم : عجل لنا قطنا{[11224]} ، وأمطر علينا حجارة{[11225]} وغير ذلك .