60- لا تُصرف الزكاة المفروضة إلا للذين لا يجدون ما يكفيهم ، والمرضى الذين لا يستطيعون كسباً ولا مال لهم ، والذين يجمعونها ويعملون فيها ، والذين تؤلف قلوبهم ، لأنهم يرجى منهم الإسلام والانتفاع بهم في خدمته ونصرته ، والذين يدعون إلى الإسلام ويبشرون به ، وفي عتق رقاب الأرقاء والأسرى من ربقة العبودية وذل الأسر ، وفي قضاء الديون عن المدينين العاجزين عن الأداء ، إذا لم تكن ناشئة عن إثم أو ظلم أو سفه ، وفي إمداد الغزاة بما يعينهم على الجهاد في سبيل الله ، وما يتصل بذلك من طريق الخير ووجوه البر ، وفي عون المسافرين إذا انقطعت أسباب اتصالهم بأموالهم وأهليهم . شرع الله ذلك فريضة منه لمصلحة عباده ، والله سبحانه عليم بمصالح خلقه ، حكيم فيما يشرع{[84]} .
{ 60 } { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
يقول تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ } أي : الزكوات الواجبة ، بدليل أن الصدقة المستحبة لكل أحد ، لا يخص بها أحد دون أحد .
أي : إنما الصدقات لهؤلاء المذكورين دون من عداهم ، لأنه حصرها فيهم ، وهم ثمانية أصناف .
الأول والثاني : الفقراء والمساكين ، وهم في هذا الموضع ، صنفان متفاوتان ، فالفقير أشد حاجة من المسكين ، لأن اللّه بدأ بهم ، ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم ، ففسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئا ، أو يجد بعض كفايته دون نصفها .
والمسكين : الذي يجد نصفها فأكثر ، ولا يجد تمام كفايته ، لأنه لو وجدها لكان غنيا ، فيعطون من الزكاة ما يزول به فقرهم ومسكنتهم .
والثالث : العاملون على الزكاة ، وهم كل من له عمل وشغل فيها ، من حافظ لها ، أو جاب لها من أهلها ، أو راع ، أو حامل لها ، أو كاتب ، أو نحو ذلك ، فيعطون لأجل عمالتهم ، وهي أجرة لأعمالهم فيها .
والرابع : المؤلفة قلوبهم ، والمؤلف قلبه : هو السيد المطاع في قومه ، ممن يرجى إسلامه ، أو يخشى شره أو يرجى بعطيته قوة إيمانه ، أو إسلام نظيره ، أو جبايتها ممن لا يعطيها ، فيعطى ما يحصل به التأليف والمصلحة .
الخامس : الرقاب ، وهم المكاتبون الذين قد اشتروا أنفسهم من ساداتهم ، فهم يسعون في تحصيل ما يفك رقابهم ، فيعانون على ذلك من الزكاة ، وفك الرقبة المسلمة التي في حبس الكفار داخل في هذا ، بل أولى ، ويدخل في هذا أنه يجوز أن يعتق منها الرقاب استقلالا ، لدخوله في قوله : { وفي الرقاب }
السادس : الغارمون ، وهم قسمان :
أحدهما : الغارمون لإصلاح ذات البين ، وهو أن يكون بين طائفتين من الناس شر وفتنة ، فيتوسط الرجل للإصلاح بينهم بمال يبذله لأحدهم أو لهم كلهم ، فجعل له نصيب من الزكاة ، ليكون أنشط له وأقوى لعزمه ، فيعطى ولو كان غنيا .
والثاني : من غرم لنفسه ثم أعسر ، فإنه يعطى ما يُوَفِّى به دينه .
والسابع : الغازي في سبيل اللّه ، وهم : الغزاة المتطوعة ، الذين لا ديوان لهم ، فيعطون من الزكاة ما يعينهم على غزوهم ، من ثمن سلاح ، أو دابة ، أو نفقة له ولعياله ، ليتوفر على الجهاد ويطمئن قلبه .
وقال كثير من الفقهاء : إن تفرغ القادر على الكسب لطلب العلم ، أعطي من الزكاة ، لأن العلم داخل في الجهاد في سبيل اللّه .
وقالوا أيضا : يجوز أن يعطى منها الفقير لحج فرضه ، [ وفيه نظر ]{[372]} .
والثامن : ابن السبيل ، وهو الغريب المنقطع به في غير بلده ، فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده ، فهؤلاء الأصناف الثمانية الذين تدفع إليهم الزكاة وحدهم .
{ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } فرضها وقدرها ، تابعة لعلمه وحكمه { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } واعلم أن هذه الأصناف الثمانية ، ترجع إلى أمرين :
أحدهما : من يعطى لحاجته ونفعه ، كالفقير ، والمسكين ، ونحوهما .
والثاني : من يعطى للحاجة إليه وانتفاع الإسلام به ، فأوجب اللّه هذه الحصة في أموال الأغنياء ، لسد الحاجات الخاصة والعامة للإسلام والمسلمين ، فلو أعطى الأغنياء زكاة أموالهم على الوجه الشرعي ، لم يبق فقير من المسلمين ، ولحصل من الأموال ما يسد الثغور ، ويجاهد به الكفار وتحصل به جميع المصالح الدينية .
وبعد بيان هذا الأدب اللائق في حق اللّه وحق رسوله ، تطوعاً ورضا وإسلاماً ، يقرر أن الأمر -مع ذلك - ليس أمر الرسول ؛ إنما هو أمر اللّه وفريضته وقسمته ، وما الرسول فيها إلا منفذ للفريضة المقسومة من رب العالمين . فهذه الصدقات - أي الزكاة - تؤخذ من الأغنياء فريضة من اللّه ، وترد على الفقراء فريضة من اللّه . وهي محصورة في طوائف من الناس يعينهم القرآن ، وليست متروكة لاختيار أحد ، حتى ولا اختيار الرسول :
( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل اللّه وابن السبيل . فريضة من اللّه واللّه عليم حكيم ) . .
وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة اللّه ، ومكانها في النظام الإسلامي ، لا تطوعاً ولا تفضلا ممن فرضت عليهم . فهي فريضة محتمة . ولا منحة ولا جزافاً من القاسم الموزع . فهي فريضة معلومة . إنها إحدى فرائض الإسلام تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدي بها خدمة اجتماعية محددة . وهي ليست إحساناً من المعطي وليست شحاذة من الآخذ . . كلا فما قام النظام الاجتماعي في الإسلام على التسول ، ولن يقوم !
إن قوام الحياة في النظام الإسلامي هو العمل - بكل صنوفه وألوانه - وعلى الدولة المسلمة أن توفر العمل لكل قادر عليه ، وأن تمكنه منه بالإعداد له ، وبتوفير وسائله ، وبضمان الجزاء الأوفى عليه ، وليس للقادرين على العمل من حق في الزكاة ، فالزكاة ضريبة تكافل اجتماعي بين القادرين والعاجزين ، تنظمها الدولة وتتولاها في الجمع والتوزيع ؛ متى قام المجتمع على أساس الإسلام الصحيح ، منفذاً شريعة اللّه ، لا يبتغي له شرعاً ولا منهجاً سواه .
عن ابن عمر - رضي اللّه عنهما - قال : قال رسول اللّه - [ ص ] - : " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي " .
وعن عبداللّه بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي - [ ص ] - يسألانه من الصدقة ، فقلب فيهما البصر ، فرآهما جلدين ، فقال : " إن شئتما أعطيتكما . ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " .
إن الزكاة فرع من فروع نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام . وهذا النظام أشمل وأوسع كثيراً من الزكاة ؛ لأنه يتمثل في عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها ، ونواحي الارتباطات البشرية بأكملها ، والزكاة خط أساسي من هذه الخطوط :
والزكاة تجمع بنسبة العشر ونصف العشر وربع العشر من أصل المال حسب أنواع الأموال . وهي تجمع من كل من يملك حوالي عشرين جنيهاً فائضة عن حاجته يحول عليها الحول . وبذلك يشترك في حصيلتها معظم أفراد الأمة . ثم تنفق في المصارف التي بينتها الآية هنا ، وأول المستحق لها هم الفقراء والمساكين . والفقراء هم الذين يجدون دون الكفاية ، والمساكين مثلهم ولكنهم هم الذين يتجملون فلا يبدون حاجتهم ولا يسألون .
وإن كثيراً ممن يؤدون الزكاة في عام ، قد يكونون في العام التالي مستحقين للزكاة . بنقص ما في أيديهم عن الوفاء بحاجاتهم . فهي من هذه الناحية تأمين اجتماعي . وبعضهم يكون لم يؤد شيئا في حصيلة الزكاة ولكنه يستحقها . فهي من هذه الناحية ضمان اجتماعي . . وهي قبل هذا وذاك فريضة من اللّه ، تزكو النفس بأدائها وهي إنما تعبد بها اللّه ، وتخلص من الشح وتستعلي عليه في هذا الأداء .
( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) . . وقد سبق بيانهما .
( والعاملين عليها ) . . أي الذين يقومون على تحصيلها .
( والمؤلفة قلوبهم ) . . وهم طوائف ، منهم الذين دخلوا حديثاً في الإسلام ويراد تثبيتهم عليه . ومنهم الذين يرجى أن تتألف قلوبهم فيسلموا . ومنهم الذين أسلموا وثبتوا ويرجى تأليف قلوب أمثالهم في قومهم ليثوبوا إلى الإسلام حين يرون إخوانهم يرزقون ويزادون . . وهناك خلاف فقهي حول سقوط سهم هؤلاء المؤلفة قلوبهم بعد غلبة الإسلام . . ولكن المنهج الحركي لهذا الدين سيظل يواجه في مراحله المتعددة كثيراً من الحالات ، تحتاج إلى إعطاء جماعة من الناس على هذا الوجه ؛ إما إعانة لهم على الثبات على الإسلام إن كانوا يحاربون في أرزاقهم لإسلامهم ، وإما تقريباً لهم من الإسلام كبعض الشخصيات غير المسلمة التي يرجى أن تنفع الإسلام بالدعوة له والذب عنه هنا وهناك . ندرك هذه الحقيقة ، فنرى مظهراً لكمال حكمة اللّه في تدبيره لأمر المسلمين على اختلاف الظروف والأحوال .
( وفي الرقاب ) . . ذلك حين كان الرق نظاماً عالمياً ، تجري المعاملة فيه على المثل في استرقاق الأسرى بين المسلمين وأعدائهم . ولم يكن للإسلام بد من المعاملة بالمثل حتى يتعارف العالم على نظام آخر غير الاسترقاق . . وهذا السهم كان يستخدم في إعانة من يكاتب سيده على الحرية في نظير مبلغ يؤديه له ، ليحصل على حريتهبمساعدة قسطه من الزكاة . أو بشراء رقيق وإعتاقهم بمعرفة الدولة من هذا المال .
( والغارمين ) . . وهم المدينون في غير معصية . يعطون من الزكاة ليوفوا ديونهم ، بدلاً من إعلان إفلاسهم كما تصنع الحضارة المادية بالمدينين من التجار مهما تكن الأسباب ! فالإسلام نظام تكافلي ، لا يسقط فيه الشريف ، ولا يضيع فيه الأمين ، ولا يأكل الناس بعضهم بعضاً في صورة قوانين نظامية ، كما يقع في شرائع الأرض أو شرائع الغاب !
( وفي سبيل اللّه ) . . وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة ، تحقق كلمة اللّه .
( وابن السبيل ) . . وهو المسافر المنقطع عن ماله ، ولو كان غنياً في بلده .
هذه هي الزكاة التي يتقول عليها المتقولون في هذا الزمان ، ويلمزونها بأنها نظام تسول وإحسان . . هذه هي فريضة اجتماعية ، تؤدى في صورة عبادة إسلامية . ذلك ليطهر اللّه بها القلوب من الشح ؛ وليجعلها وشيجة تراحم وتضامن بين أفراد الأمة المسلمة ، تندّي جو الحياة الإنسانية ، وتمسح على جراح البشرية ؛ وتحقق في الوقت ذاته التأمين الاجتماعي والضمان الاجتماعي في أوسع الحدود . وتبقى لها صفة العبادة التي تربط بين القلب البشري وخالقه ، كما تربط بينه وبين الناس :
( فريضة من اللّه ) الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية ، ويدبر أمرها بالحكمة :
لما ذكر [ الله ]{[13560]} تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قَسْم الصدقات ، بين تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها ، وتولى أمرها بنفسه ، ولم يَكلْ قَسْمها إلى أحد غيره ، فجزّأها لهؤلاء المذكورين ، كما رواه الإمام أبو داود في سننه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم - وفيه ضعف - عن زياد بن نعيم ، عن زياد بن الحارث الصُدَائي ، رضي الله عنه ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته ، فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال له : " إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أصناف ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك " {[13561]} وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية : هل يجب استيعاب الدفع إليها أو إلى ما أمكن منها ؟ على قولين :
أحدهما : أنه يجب ذلك ، وهو قول الشافعي وجماعة .
والثاني : أنه لا يجب استيعابها ، بل يجوز الدفع إلى واحد منها ، ويعطى جميعَ الصدقة مع وجود الباقين . وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف ، منهم : عمر ، وحذيفة ، وابن عباس ، وأبو العالية ، وسعيد بن جُبَير ، وميمون بن مِهْران .
قال ابن جرير : وهو قول عامة أهل العلم ، وعلى هذا فإنما ذكرت الأصناف هاهنا لبيان المصرف لا لوجوب استيعاب الإعطاء .
ولوجوه الحجاج والمآخذ مكان غير هذا ، والله أعلم .
وإنما قدم الفقراء هاهنا لأنهم أحوج من البقية على المشهور ، لشدة فاقتهم وحاجتهم ، وعند أبي حنيفة أن المسكين أسوأ حالا من الفقير ، وهو كما قال ، قال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، أنبأنا ابن عَوْن ، عن محمد قال : قال عمر ، رضي الله عنه : الفقير ليس بالذي لا مال له ، ولكن الفقير الأخلق الكسب . قال ابن علية : الأخلق : المحارَفُ عندنا{[13562]} والجمهور على خلافه . ورُوي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن البصري ، وابن زيد . واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير : هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ، والمسكين : هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس .
وقال قتادة : الفقير : من به زمانة ، والمسكين : الصحيح الجسم .
وقال الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم : هم فقراء المهاجرين . قال سفيان الثوري : يعني : ولا يُعْطَى الأعرابُ منها شيئا .
وكذا روي عن سعيد بن جُبَير ، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبْزَى .
وقال عِكْرِمة : لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين ، وإنما المساكين مساكين أهل الكتاب .
ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية .
فأما " الفقراء " ، فعن ابن عمرو{[13563]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغَنِيٍّ ولا لذي مِرَّة سَويّ " . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي{[13564]} ولأحمد أيضا ، والنسائي ، وابن ماجه عن أبي هريرة ، مثله{[13565]} وعن عبيد الله بن عَدِيِّ بن الخيار : أن رجلين أخبراه : أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة ، فقلب إليهما البصر ، فرآهما جَلْدين ، فقال : " إن شئتما أعطيتكما ، ولا حَظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " .
رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي{[13566]} بإسناد جيد قوي .
وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح [ والتعديل : أبو بكر العبسي قال : قرأ عمر ، رضي الله عنه : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } قال : هم أهل الكتاب ]{[13567]} روى عنه عمر بن نافع ، سمعت أبي يقول ذلك{[13568]} قلت : وهذا قول غريب جدا بتقدير صحة الإسناد ، فإن أبا بكر هذا ، وإن لم ينص أبو حاتم على جهالته ، لكنه في حكم المجهول .
وأما المساكين : فعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس ، فتردُّه اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان " . قالوا : فما المسكين{[13569]} يا رسول الله ؟ قال : " الذي لا يجدُ غنًى يغنيه ، ولا يُفْطَن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئا " .
رواه الشيخان : البخاري ومسلم{[13570]}
وأما العاملون عليها : فهم الجباة والسعاة يستحقون منها قسطا على ذلك ، ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة ، لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث : أنه انطلق هو والفضل بن عباس يسألان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملهما على الصدقة ، فقال : " إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس " {[13571]}وأما المؤلفة قلوبهم : فأقسام : منهم من يعطى ليُسلم ، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين ، وقد كان شهدها مشركا . قال : فلم يزل يعطيني حتى صار أحبَّ الناس إليَّ بعد أن كان أبغض الناس إلي ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا زكريا بن عدي ، أنا{[13572]} ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن صفوان بن أمية قال : أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إلي .
ورواه مسلم والترمذي ، من حديث يونس ، عن الزهري ، به{[13573]} ومنهم من يُعْطَى ليحسُن إسلامه ، ويثبت قلبه ، كما أعطى يوم حنين أيضا جماعة من
صناديد الطلقاء وأشرافهم : مائة من الإبل ، مائة من الإبل وقال : " إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه ، مخافة أن يَكُبَّه الله على وجهه في نار جهنم " {[13574]} وفي الصحيحين عن أبي سعيد : أن عليا بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذُهَيبة في تربتها من اليمن فقسمها بين أربعة نفر : الأقرع بن حابس ، وعُيَينة بن بدر ، وعلقمة بن عُلاثة ، وزيد الخير ، وقال : " أتألفهم " {[13575]} ومنهم من يُعطَى لما يرجى من إسلام نظرائه . ومنهم من يُعطَى ليجبي الصدقات ممن يليه ، أو ليدفع عن حَوزة المسلمين الضرر من{[13576]} أطراف البلاد . ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع ، والله أعلم .
وهل تعطى المؤلفة على الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فيه خلاف ، فرُوي عن عمر ، وعامر الشعبي وجماعة : أنهم لا يُعطَون بعده ؛ لأن الله قد أعز الإسلام وأهله ، ومَكَّن لهم في البلاد ، وأذل لهم رقاب العباد .
وقال آخرون : بل يُعطَون ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام{[13577]} قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هَوازن ، وهذا أمر قد يحتاج إليه فيصرف إليهم .
وأما الرقاب : فرُوي عن الحسن البصري ، ومقاتل بن حيان ، وعمر بن عبد العزيز ، وسعيد بن جُبَير ، والنَّخعي ، والزهري ، وابن زيد : أنهم المكاتَبون ، وروي عن أبي موسى الأشعري نحوه ، وهو قول الشافعي والليث .
وقال ابن عباس ، والحسن : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، ومالك ، وإسحاق ، أي : إن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب ، أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالا . وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة ، وأن الله يعتق بكل عضو منها عضوا من مُعتقها حتى الفَرْج بالفرج ، وما ذاك إلا لأن{[13578]} الجزاء من جنس العمل ، { وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 39 ]
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة حق على الله عونُهم : الغازي في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف " .
رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا أبا داود{[13579]} وفي المسند عن البراء بن عازب قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، دُلَّني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار . فقال : " أعتق النسَمة وفك الرقبة " . فقال : يا رسول الله ، أو ليسا واحدا ؟ قال : " لا عتق النسمة أن تُفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها " {[13580]} وأما الغارمون : فهم أقسام : فمنهم من تحمّل حمالة أو ضمن دينا فلزمه فأجحف بماله ، أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب ، فهؤلاء يدفع إليهم . والأصل في هذا الباب حديث قَبِيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملت حمالة فأتيت رسول الله{[13581]} صلى الله عليه وسلم أسأله فيها ، فقال : " أقم حتى تأتينا الصدقة ، فنأمر لك بها " . قال : ثم قال : " يا قَبِيصة ، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمَّل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ، ثم يمسك . ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش : أو قال : سدادًا من عيش - ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه ، فيقولون : لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة ، حتى يصيب قواما من عيش - أو قال سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة سحت ، يأكلها صاحبها سحتا " . رواه مسلم{[13582]}
وعن أبي سعيد قال : أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها ، فكثر دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم{[13583]} تصدقوا عليه " . فتصدق الناس{[13584]} فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لغرمائه : " خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك " . رواه مسلم{[13585]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، أنبأنا صدقة بن موسى ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن قيس بن زيد عن قاضي المصرين{[13586]} عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يدعو الله بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يديه ، فيقول : يا بن آدم ، فيم أخذت هذا الدين ؟ وفيم ضيعت حقوق الناس ؟ فيقول : يا رب ، إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع ، ولكن أتى على يدي إما حرق وإما سرق وإما وضيعة . فيقول الله : صدق عبدي ، أنا أحق من قضى عنك اليوم . فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه ، فترجح حسناته على سيئاته ، فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته " {[13587]} وأما في سبيل الله : فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان ، وعند الإمام أحمد ، والحسن ، وإسحاق : والحج من سبيل الله ، للحديث .
وكذلك ابن السبيل : وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره ، فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال . وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شيء ، فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه . والدليل على ذلك الآية ، وما رواه الإمام أبو داود وابن ماجه من حديث مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سعيد ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغنيّ إلا لخمسة : العامل عليها ، أو رجل اشتراها بماله ، أو غارم ، أو غاز في سبيل الله ، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى لغني " {[13588]} وقد رواه السفيانان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء مرسلا . ولأبي داود عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله ، وابن السبيل ، أو جار فقير فيُهدي لك أو يدعوك " {[13589]} وقوله : { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } أي حكما مقدرا بتقدير الله وفَرْضِه وقَسْمه{[13590]} { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده ، { حَكِيمٌ } فيما يفعله ويقوله ويشرعه ويحكم به ،
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : لا تنال الصدقات إلا للفقراء والمساكين ومن سماهم الله جلّ ثناؤه .
ثم اختلف أهل التأويل في صفة الفقير والمسكين ، فقال بعضهم : الفقير : المحتاج المتعفف عن المسألة ، والمسكين : المحتاج السائل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن الحسن : إنّمَا الصّدَقاتُ للفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال : الفقير : الجالس في بيته ، والمسكين : الذي يسعى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال : المساكين : الطّوافون ، والفقراء فقراء المسلمين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن جرير بن حازم ، قال : ثني رجل ، عن جابر بن زيد ، أنه سئل عن الفقراء ، قال : الفقراء : المتعففون ، والمساكين : الذين يسألون .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله الحراني ، قال : سألت الزهري عن قوله : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال : الذين في بيوتهم لا يسألون ، والمساكين : الذين يخرجون فيسألون .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الوارث بن سعيد ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد ، قال : الفقير الذي لا يسأل ، والمسكين : الذي يسأل .
قال : حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال : الفقراء الذين لا يسألون الناس وهم أهل حاجة ، والمساكين : الذين يسألون الناس .
حدثنا الحرث ، قال : ثني عبد العزيز ، قال : حدثنا عبد الوارث ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الفقراء الذين لا يسألون ، والمساكين : الذين يسألون .
وقال آخرون : الفقير هو ذو الزمانة من أهل الحاجة ، والمسكين : هو الصحيح الجسم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال : الفقير من به زمانة ، والمسكين : الصحيح المحتاج .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ أما الفقير : فالزمن الذي به زمانة ، وأما المسكين : فهو الذي ليست به زمانة .
وقال آخرون : الفقراء فقراء المهاجرين ، والمساكين : من لم يهاجر من المسلمين وهو محتاج . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا جرير بن حازم ، عن عليّ بن الحكم ، عن الضحاك بن مزاحم : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال : فقراء المهاجرين ، والمساكين : الذين لم يهاجروا .
13083قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ المهاجرين ، قال : سفيان : يعني : ولا يعطي الأعراب منها شيئا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : كان يقال : إنما الصدقة لفقراء المهاجرين .
قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : كانت تجعل الصدقة في فقراء المهاجرين ، وفي سبيل الله تعالى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي ، قالا : كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها ويغزو ، فنسبهم الله إلى أنهم فقراء ، وجعل لهم سهما في الزكاة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : كان يقال : إنما الصدقات في فقراء المهاجرين ، وفي سبيل الله .
وقال آخرون : المسكين : الضعيف الكَسْب . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا ابن عون ، عن محمد ، قال : قال عمر : ليس الفقير بالذي لا مال له ، ولكن الفقير : الأخْلق الكَسْب . قال يعقوب ، قال ابن علية : الأخلق : المُحَارَفُ عندنا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب رحمة الله تعالى قال ليس المسكين بالذي لا ماله له ولكن المسكين الإخلاق الكسب وقال بعضهم الفقير من المسلمين والمسكين أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عمر بن نافع ، قال : سمعت عكرمة في قوله : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال : لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين ، إنما المساكين مساكين أهل الكتاب .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : الفقير : هو ذو الفقر أو الحاجة ومع حاجته يتعفف عن مسألة الناس والتذلل لهم في هذا الموضع ، والمسكين : هو المحتاج المتذلل للناس بمسألتهم . وإنما قلنا إن ذلك كذلك وإن كان الفريقان لم يعطيا إلا بالفقر والحاجة دون الذلة والمسكنة ، لإجماع الجميع من أهل العلم أن المسكين إنما يعطى من الصدقة المفروضة بالفقر ، وأن معنى المسكنة عند العرب : الذلة ، كما قال الله جلّ ثناؤه : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ يعني بذلك الهون ، والذلة لا الفقر . فإذا كان الله جلّ ثناؤه قد صنف من قسم له من الصدقة المفروضة قسما بالفقر فجعلهم صنفين ، كان معلوما أن كل صنف منهم غير الاَخر . وإذ كان ذلك كذلك كان لا شكّ أن المقسوم له باسم الفقير غير المقسوم له باسم الفقر والمسكنة ، والفقير المعطى ذلك باسم الفقير المطلق هو الذي لا مسكنة فيه ، والمعطى باسم المسكنة والفقر هو الجامع إلى فقره المسكنة ، وهي الذلّ بالطلب والمسألة .
فتأويل الكلام إذ كان ذلك معناه : إنما الصدقات للفقراء المتعفف منهم الذي لا يسأل ، والمتذلل منهم الذي يسأل ، وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك خبر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن شريك بن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ المِسْكِينُ بالّذِي تَرُدّهُ اللّقْمَةُ وَاللّقْمَتانِ والتّمْرَةُ والتّمْرَتانِ ، إنّمَا المسْكِينُ المُتَعَفّفُ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ لا يَسْألونُ النّاسَ إلْحافا » .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : «إنّمَا المِسْكِينُ المُتَعَفّفُ » على نحو ما قد جرى به استعمال الناس من تسميتهم أهل الفقر مساكين ، لا على تفصيل المسكين من الفقير . ومما ينبىء عن أن ذلك كذلك ، انتزاعه صلى الله عليه وسلم لقول الله : «اقرءوا إن شِئتم لا يَسأَلُونَ النّاسَ إلْحافا » وذلك في صفة من ابتدأ الله ذكره ووصفه بالفقر ، فقال للْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التّعَفّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسأَلُونَ النّاسَ إلْحافا .
وقوله : وَالعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة في قبضها من أهلها ، ووضعها في مستحقيها يعطون ذلك بالسعاية ، أغنياء كانوا أو فقراء .
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله ، قال : سألت الزهري عن العاملين عليها ، فقال : السعاة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَالعامِلِينَ عَلَيْها قال : جباتها الذين يجمعونها ، ويسعون فيها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَالعامِلِينَ عَلَيْها : الذي يعمل عليها .
ثم اختلف أهل التأويل في قدر ما يُعْطَى العامل من ذلك ، فقال بعضهم : يُعْطَى منه الثمن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن حسن بن صالح ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : للعاملين عليها الثمن من الصدقة .
حُدثت عن مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَالعامِلِينَ عَلَيْها قال : يأكل العمال من السهم الثامن .
وقال آخرون : بل يعطى على قدر عمالته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن الأخضر بن عجلان ، قال : حدثنا عطاء بن زهير العامريّ ، عن أبيه ، أنه لقي عبد الله بن عمرو بن العاص ، فسأله عن الصدقة : أيّ مال هي ؟ فقال : مال العرجان والعوران والعميان وكلّ منقطع به . فقال له : إن للعاملين حقّا والمجاهدين . قال : إن المجاهدين قوم أحلّ لهم وللعاملين عليها على قدر عمالتهم . ثم قال : لا تحلّ الصدقة لغنيّ ، ولا لذي مِرّة سويّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : يكون للعامل عليها إن عمل بالحقّ . ولم يكن عمر رحمه الله تعالى ولا أولئك يعطون العامل الثمن ، إنما يفرضون له بقدر عمالته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن الحسن : وَالعامِلِينَ عَلَيْها قال : كان يعطى العاملون .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : يعطى العامل عليها على قدر عمالته أجر مثله .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الله جلّ ثناؤه لم يقسم صدقة الأموال بين الأصناف الثمانية على ثمانية أسهم وإنما عرّف خلقه أنّ الصدقات لن تجاوز هؤلاء الأصناف الثمانية إلى غيرهم . وإذ كان كذلك بما سنوضح بعد وبما قد أوضحناه في موضع آخر ، كان معلوما أن من أُعطي منها حقا ، فإنما يعطى على قدر اجتهاد المعطي فيه . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان العامل عليها إنما يعطى على عمله لا على الحاجة التي تزول بالعطية ، كان معلوما أن الذي أعطاه من ذلك إنما هو عوض من سعيه وعمله ، وأن ذلك إنما هو قدر يستحقه عوضا من عمله الذي لا يزول بالعطية وإنما يزول بالعزل .
وأما المؤلّفة قلوبهم ، فإنهم قوم كانوا يُتألّفون على الإسلام ممن لم تصحّ نصرته استصلاحا به نفسه وعشيرته ، كأبي سفيان بن حرب وعيينة بن بدر والأقرع بن حابس ، ونظرائهم من رؤساء القبائل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمر ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : والمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ ، وهم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد أسلموا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضخ لهم من الصدقات ، فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرا قالوا : هذا دين صالح وإن كان غير ذلك ، عابوه وتركوه .
حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير : أن المؤلفة قلوبهم من بني أمية : أبو سفيان بن حرب ، ومن بني مخزوم : الحرث بن هشام ، وعبد الرحمن بن يربوع ، ومن بني جمح : صفوان بن أمية ، ومن بني عامر بن لؤيّ : سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العُزّى ، ومن بني أسد بن عبد العُزّى : حكيم بن حزام ، ومن بني هاشم : سفيان بن الحرث بن عبد المطلب ، ومن بني فزارة : عيينة بن حصن بن بدر ، ومن بني تميم : الأقرع بن حابس ، ومن بني نصر : مالك بن عوف ، ومن بني سليم : العباس بن مرداس ، ومن ثقيف : العلاء بن حارثة . أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم كلّ رجل منهم مئة ناقة ، إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العُزّى ، فإنه أعطى كلّ رجل منهم خمسين .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، قال : قال صفوان بن أمية : لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الناس إليّ ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إليّ .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : ناس كان يتألفهم بالعطية ، عيينة بن بدر ومن كان معه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن حماد بن سلمة ، عن يونس ، عن الحسن : والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ : الذين يؤلفون على الإسلام .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وأما المؤلّفة قلوبهم ، فأناس من الأعراب ومن غيرهم ، كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله ، قال : سألت الزهريّ عن قوله : والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ فقال : من أسلم من يهودي أو نصراني . قلت : وإن كان غنيا ؟ قال : وإن كان غنيا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله الحراني ، عن الزهريّ : والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ قال : من هو يهودي أو نصراني .
ثم اختلف أهل العلم في وجود المؤلفة اليوم وعدمها ، وهل يعطى اليوم أحد على التألف على الإسلام من الصدقة ؟ فقال بعضهم : قد بطلت المؤلّفة قلوبهم اليوم ، ولا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلا لذي حاجة إليها وفي سبيل الله أو لعامل عليها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن الحسن : والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ قال : أما المؤلفة قلوبهم فليس اليوم .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، قال : لم يبق في الناس اليوم من المؤلفة قلوبهم ، إنما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا مبارك ، عن الحسن ، قال : ليس اليوم مؤلفة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، قال : إنما كانت المؤلفة قلوبهم على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما وُلي أبو بكر رحمة الله تعالى عليه انقطعت الرشا .
وقال آخرون : المؤلفة قلوبهم في كلّ زمان ، وحقهم في الصدقات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : في الناس اليوم المؤلفة قلوبهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، مثله .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي : أن الله جعل الصدقة في معنيين : أحدهما سدّ خلة المسلمين ، والاَخر معونة الإسلام وتقويته فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه فإنه يعطاه الغنيّ والفقير ، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه وإنما يعطاه معونة للدين ، وذلك كما يعطي الذي يعطاه بالجهاد في سبيل الله ، فإنه يعطي ذلك غنيا كان أو فقيرا للغزو لا لسدّ خلته . وكذلك المؤلفة قلوبهم يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء ، استصلاحا بإعطائهموه أمر الإسلام وطلب تقويته وتأييده . وقد أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم ، بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفشا الإسلام وعزّ أهله ، فلا حجة لمحتجّ بأن يقول : لا يتألف اليوم على الإسلام أحد لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم وقد أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت .
وأما قوله : وفِي الرّقابِ فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم ، وهم الجمهور الأعظم : هم المكاتبون ، يعطون منها في فكّ رقابهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن الحسين : أن مكاتبا قام إلى أبي موسى الأشعري رحمه الله تعالى وهو يخطب الناس يوم الجمعة ، فقال له : أيها الأمير حثّ الناس عليّ فحثّ عليه أبو موسى ، فألقي الناس عليه عمامة وملاءة وخاتما ، حتى ألقوا سوادا كثيرا . فلما رأى أبو موسى ما ألقى عليه ، قال : اجمعوه فجمع ثم أمر به فبيع ، فأعطى المكاتب مكاتبته ، ثم أعطى الفضل في الرقاب ولم يردّه على الناس ، وقال : إنما أعطيَ الناسُ في الرقاب .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله ، قال : سألت الزهري عن قوله : وفِي الرّقابِ قال : المكاتبون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وفِي الرّقابِ قال : المكاتَبُ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن : وَفِي الرّقابِ قال : هم المكاتبون .
ورُوي عن ابن عباس أنه قال : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال : عنى بالرقاب في هذا الموضع المكاتبون ، لإجماع الحجة على ذلك فإن الله جعل الزكاة حقا واجبا على من أوجبها عليه في ماله يخرجها منه ، لا يرجع إليه منها نفع من عرض الدنيا ولا عوض ، والمعتق رقبة منها راجع إليه ولاء من أعتقه ، وذلك نفع يعود إليه منها .
وأما الغارمون : فالذين استدانوا في غير معصية الله ، ثم لم يجدوا قضاء في عين ولا عرض .
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : الغارمون : من احترق بيته ، أو يصيبه السيل فيذهب متاعه ، ويدّان على عياله فهذا من الغارمين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، في قوله : وَالغارِمينَقال : من احترق بيته ، وذهب السيل بماله ، وادّان على عياله .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : الغارمين : المستدين في غير سرف ، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال .
قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله ، قال : سألنا الزهري ، عن الغارمين ، قال : أصحاب الدين .
قال : حدثنا معقل ، عن عبد الكريم ، قال : ثني خادم لعمر بن عبد العزيز خدمه عشرين سنة ، قال : كتب عمر بن عبد العزيز أن يعطى الغارمون . قال أحمد : أكثر ظني من الصدقات .
قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : الغارمون : المستدين في غير سرف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أما الغارمون : فقوم غرّقتهم الديون ، في غير إملاق ولا تبذير ولا فساد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الغارم : الذي يدخل عليه الغرم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : والغارِمِينَ قال : هو الذي يذهب السيل والحريق بماله ، ويدّان على عياله .
قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : المستدين في غير فساد .
قال : ثني أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : الغارمون : الذين يستدينون في غير فساد ، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : هم قوم ركبتهم الديون في غير فساد ولا تبذير ، فجعل الله لهم في هذه الآية سهما .
وأما قوله : وفِي سَبِيلِ اللّهِ فإنه يعني : وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده بقتال أعدائه ، وذلك هو غزو الكفار .
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وفِي سَبِيلِ اللّهِ قال : الغازي في سبيل الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لا تَحِلّ الصّدَقَةُ لِغَنِيّ إلاّ لِخَمْسَةٍ : رَجُلٍ عَمِلَ عَلَيْها ، أوْ رَجُلٍ اشْتَرَاها بِمالهِ ، أو فِي سَبِيلِ اللّهِ ، أوِ ابْنِ السّبِيلِ ، أوْ رَجُلٍ كانَ لَهُ جارٌ تُصُدّقَ عَلَيْهِ فَأهْدَاها لَهُ » .
قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدريّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لا تَحِلّ الصّدَقَةُ لِغَنِيّ إلاّ لِثَلاثَةٍ : فِي سَبِيلِ اللّهِ ، أوِ ابْنِ السّبِيلِ ، أوْ رَجُلٍ كانَ لَهُ جارٌ فَتُصُدّقَ عَلَيْهِ فَأهْدَاها لَهُ » .
وأما قوله : وَابْنِ السّبِيلِ فالمسافر الذي يجتاز من بلد إلى بلد ، والسبيل : الطريق ، وقيل للضارب فيه ابن السبيل للزومه إياه ، كما قال الشاعر :
أنا ابْنُ الحَرْبِ رَبّتْني وَليدا *** إلى أنْ شِبْتُ وَاكْتَهَلَتْ لِداتِي
وكذلك تفعل العرب ، تسمي اللازم للشيء يعرف بابنه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : ابن السبيل : المجتاز من أرض إلى أرض .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد : وَابْنِ السّبيلِ قال : لابن السبيل حقّ من الزكاة وإن كان غنيا إذا كان منقطعا به .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله ، قال : سألت الزهري ، عن ابن السبيل قال : يأتي عليّ ابن السبيل ، وهو محتاج ، قلت : فإن كان غنيا ؟ قال : وإن كان غنيا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَابْنِ السّبِيلِ الضيف جعل له فيها حقّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن السبيل : المسافر من كان غنيا أو فقيرا إذا أصيبت نفقته ، أو فقدت ، أو أصابها شيء ، أو لم يكن معه شيء ، فحقّه واجب .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، أنه قال في الغنيّ إذا سافر فاحتاج في سفره ، قال : يأخذ من الزكاة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : ابن السبيل : المجتاز من الأرض إلى الأرض .
وقوله : فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ يقول جلّ ثناؤه : قسم قسمه الله لهم ، فأوجبه في أموال أهل الأموال لهم ، والله عليم بمصالح خلقه فيما فرض لهم وفي غير ذلك لا يخفى عليه شيء . فعلى علم منه فرض ما فرض من الصدقة وبما فيها من المصلحة ، حكيم في تدبيره خلقه ، لا يدخل في تدبيره خلل .
واختلف أهل العلم في كيفية قسم الصدقات التي ذكرها الله في هذه الآية ، وهل يجب لكل صنف من الأصناف الثمانية فيها حقّ أو ذلك إلى ربّ المال ، ومن يتولى قسمها في أن له أن يعطي جميع ذلك من شاء من الأصناف الثمانية ؟ فقال عامة أهل العلم : للمتولي قسمها ووضعها في أيّ الأصناف الثمانية شاء ، وإنما سمى الله الأصناف الثمانية في الآية إعلاما منه خلقه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف الثمانية إلى غيرها ، لا إيجابا لقسمها بين الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن المنهال بن عمرو ، عن زرّ بن حبيش ، عن حذيفة ، في قوله : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها قال : إن شئت جعلته في صنف واحد ، أو صنفين ، أو لثلاثة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الحجاج ، عن المنهال ، عن زرّ ، عن حذيفة ، قال : إذا وضعتها في صنف واحد أجزأ عنك .
قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عمر : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال : أيما صنف أعطيته من هذا أجزأك .
قال : حدثنا ابن نمير ، عن عبد المطلب ، عن عطاء : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ . . . الآية ، قال : لو وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف أجزأك ، ولو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحبّ إليّ .
قال : أخبرنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ . . . وَابْنِ السّبِيلِ فأيّ صنف أعطيته من هذه الأصناف أجزأك .
قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .
قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها قال : إنما هذا شيء أعلمه ، فأيّ صنف من هذه الأصناف أعطيته أجزأ عنك .
قال : حدثنا أبي عن شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال : في أيّ هذه الأصناف وضعتها أجزأك .
قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : إذا وضعتها في صنف واحد مما سمى الله أجزأك .
قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : إذا وضعتها في صنف واحد مما سمى الله أجزأك .
قال : حدثنا خالد بن حيان أبو يزيد ، عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال : إذا جعلتها في صنف واحد من هؤلاء أجزأ عنك .
قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن مسعود ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ . . . . الآية ، قال : أعلم أهلها من هم .
قال : حدثنا حفص ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عمر : أنه كان يأخذ الفرض في الصدقة ، ويجعلها في صنف واحد .
وكان بعض المتأخرين يقول : إذا تولى ربّ المال قسمها كان عليه وضعها في ستة أصناف وذلك أن المؤلفة قلوبهم عنده قد ذهبوا ، وأن سهم العاملين يبطل بقسمه إياها ، ويزعم أنه لا يجزيه أن يعطى من كلّ صنف أقلّ من ثلاثة أنفس . وكان يقول : إن تولى قسمها الإمام كان عليه أن يقسمها على سبعة أصناف ، لا يجزي عنده غير ذلك .
{ إنما } في هذه الآية حاصرة تقتضي وقوف { الصدقات } على الثمانية الأصناف ، وإنما اختلف في صورة القسمة فقال مالك وغيره : ذلك على قدر اجتهاد الإمام وبحسب أهل الحاجة ، وقال الشافعي : هي ثمانية أقسام على ثمانية أصناف لا يخل بواحد منها إلا أن { المؤلفة } انقطعوا .
قال القاضي أبو محمد : ويقول صاحب هذا القول : إنه لا يجزيء المتصدق والقاسم من كل صنف أقل من ثلاثة ، وأما الفقير والمسكين فقال الأصمعي وغيره : الفقير أبلغ فاقة ، وقال غيرهم : المسكين أبلغ فاقة .
قال القاضي أبو محمد : ولا طريق إلى هذا الاختلاف ولا إلى الترجيح إلا النظر النظر في شواهد القرآن والنظر في كلام العرب وأشعارها ، فمن حجة الأولين قول الله عز وجل { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر }{[5724]} واعترض هذا الشاهد بوجوه منها ، أن يكون سماهم «مساكين » بالإضافة إلى الغاصب وإن كانوا أغنياء على جهة الشفقة كما تقول في جماعة تظلم مساكين لا حيلة لهم وربما كانوا مياسير ومنها : أنه قرىء «لمسّاكين » بشد السين بمعنى : دباغين يعملون المسوك{[5725]} قاله النقاش وغيره ومنها : أن تكون إضافتها إليهم ليست بإضافة ملك بل كانوا عاملين بها فهي كما تقول : سرج الفرس ، ومن حجة الآخرين قول الراعي : [ البسيط ]
أما الفقير الذي كانت حلوبته*** وفق العيال فلم يترك له سبد{[5726]}
وقد اعترض هذا الشاهد بأنه إنما سماه فقيراً بعد أن صار لا حلوبة له ، وإنما ذكر الحلوبة بأنها كانت ، وهذا اعتراض يرده معنى القصيدة ومقصد الشاعر بأنه إنما يصف سعاية أتت على مال الحي بأجمعه ، فقال : أما الفقير فاستؤصل ماله فكيف بالغني مع هذه الحال ، وذهب من يقول : إن المسكين أبلغ فاقه إلى أنه مشتق من السكون ، وأن الفقير مشتق من فقار الظهر كأنه أصيب فقارة فيه لا محالة حركة ، وذهب من يقول إن الفقير أبلغ فاقه : إلى أنه مشتق من فقرت البئر إذا نزعت جميع ما فيها ، وأن المسكين من السكن .
قال القاضي أبو محمد : ومع هذا الاختلاف فإنهما صنفان يعمهما الإقلال والفاقة ، فينبغي أن يبحث على الوجه الذي من أجله جعلهما الله اثنين ، والمعنى فيهما واحد ، وقد اضطرب الناس في هذا ، فقال الضحاك بن مزاحم : { الفقراء } هم من المهاجرين { والمساكين } من لم يهاجر ، وقال النخعي نحوه ، قال سفيان : يعني لا يعطى فقراء الأعراب منها شيئاً .
قال القاضي أبو محمد : «والمسكين السائل » يعطى في المدينة وغيرها ، وهذا القول هو حكاية الحال وقت نزول الآية ، وأما منذ زالت الهجرة فاستوى الناس ، وتعطى الزكاة لكل متصف بفقر ، وقال عكرمة : { الفقراء } من المسلمين ، { والمساكين } من أهل الذمة ، ولا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين ، وقال الشافعي في كتاب ابن المنذر «الفقير » من لا مال له ولا حرفة سائلاُ كان أو متعففاً «والمسكين الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلاً كان أو غير سائل ، وقال قتادة بن دعامة : الفقير الزمن{[5727]} المحتاج ، والمسكين الصحيح المحتاج ، وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد وجابر بن زيد ومحمد بن مسلمة : » المساكين «الذين يسعون ويسألون ، و » الفقراء «هم الذين يتصاونون ، وهذا القول الأخير إذا لخص وحرر أحسن ما يقال في هذا ، وتحريره : أن الفقير هو الذي لا مال له إلا أنه لم يذل ولا بذل وجهه ، وذلك إما لتعفف مفرط وإما لُبْلَغة تكون له كالحلوبة وما أشبهها ، والمسكين هو الذي يقترن بفقره تذلل وخضوع وسؤال ، فهذه هي المسكنة ، فعلى هذا كل مسكين فقير وليس كل فقير مسكيناً ، ويقوي هذا أن الله تعالى قد وصف بني إسرائيل بالمسكنة وقرنها بالذلة مع غناهم ، وإذا تأملت ما قلناه بان أنهما صنفان موجودان في المسلمين ، ويقوي هذا قوله تعالى :
{ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف }{[5728]} وقيل لأعرابي : أفقير أنت فقال : إني والله مسكين ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وليس المسكين بهذا الطوّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين هو الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه » ، اقرأوا إن شئتم { لا يسألون الناس إلحافاً }{[5729]} ، فدل هذا الحديث على أن المسكين في اللغة هو الطواف ، وجرى تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على المتصاون مجرى تقديم { الفقراء } في الآية لمعنى الاهتمام إذ هم بحيث إن لم ُيَتَهَّمم بهم هلكوا ، والمسكين يلح ويذكر بنفسه ، وأما العامل فهو الرجل الذي يستنيبه الإمام في السعي على الناس وجمع صدقاتهم ، وكل من يصرف من عون لا يستغنى عنه فهو من { العاملين } لأنه يحشر الناس على الساعي{[5730]} ، وقال الضحاك : للعاملين ثمن ما عملوا على قسمة القرآن ، وقال الجمهور : لهم قدر تعبهم ومؤنتهم قاله مالك والشافعي في كتاب ابن المنذر ، فإن تجاوز ذلك ثمن الصدقة فاختلف ، فقيل يتم لهم ذلك من سائر الأنصباء وقيل ، بل يتم لهم ذلك من خمس الغنيمة ، واختلف إذا عمل في الصدقات هاشمي فقيل : يعطى منها عمالته{[5731]} وقيل : بل يعطاها الخمس ، ولا يجوز للعامل قبول الهدية والمصانعة ممن يسعى عليه ، وذلك إن فعله رد في بيت المال كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بابن اللتبية{[5732]} حين استعمله على الصدقة فقال : هذا لكم وهذا ما أهدي لي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«هلا قعدت في بيت أبيك وأمك حتى تعلم ما يهدى إليك » وأخذ الجميع منه{[5733]} .
قال القاضي أبو محمد : وتأمل عمالة الساعي هل يأخذها قبل العمل أو بعده ، وهل هي إجازة أو هي جعل وهل العمل معلوم أو هو يتتبع وإنما يعرف قدره بعد الفراغ ، وأما { المؤلفة قلوبهم } فكانوا صنفين ، مسلمين وكافرين مساترين{[5734]} ، قال يحيى بن أبي كثير ، كان منهم أبو سفيان بن حرب بن أمية والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعيينة والأقرع{[5735]} ومالك بن عوف والعباس بن مرداس والعلاء بن جارية الثقفي .
قال القاضي أبو محمد : وأكثر هؤلاء من الطلقاء{[5736]} الذين ظاهر أمرهم يوم الفتح الكفر ، ثم بقوا مظهرين الإسلام حتى وثقه الاستئلاف في أكثرهم واستئلافهم إنما كان لتجلب إلى الإسلام منفعة أو تدفع عنه مضرة ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه والحسن والشعبي وجماعة من أهل العلم : انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره ، وهذا مشهور مذهب مالك رحمه الله ، قال عبد الوهاب : إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة .
قال القاضي أبو محمد : وقول عمر عندي إنما هو لمعنيين ، فإنه قال لأبي سفيان حين أراد أخذ عطائه القديم : إنما تأخذ كرجل من المسلمين فإن الله قد أغنى عنك وعن ضربائك{[5737]} ، يريد في الاستئلاف ، وأما أن ينكر عمر الاستئلاف جملة وفي ثغور الإسلام فبعيد ، وقال كثير من أهل العلم : { المؤلفة قلوبهم } موجودون إلى يوم القيامة .
قال القاضي أبو محمد : وإذا تأملت الثغور وجد فيها الحاجة إلى الاستئلاف ، وقال الزهري : { المؤلفة } من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنياً .
قال القاضي أبو محمد : يريد لتبسط نفسه ويحبب دين الإسلام إليه ، وأما { الرقاب } فقال ابن عباس والحسن ومالك وغيره : هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته ، واختلف هل يعان بها المكاتب في أثناء نجومه{[5738]} بالمنع والإباحة ، واختلف على القول بإباحة ذلك إن عجز فقيل يرد ذلك من عند السيد ، وقيل يمضي لأنه كان يوم دفعه بوجه مترتب ، وقال الشافعي : معنى { وفي الرقاب } في المكاتبين ولا يبتدأ منها عتق عبد ، وقاله الليث وإبراهيم النخعي وابن جبير ، وذلك أن هذه الأصناف إنما تعطى لمنفعة المسلمين أو لحاجة في أنفسها ، والعبد ليس له واحدة من هاتين العلتين ، والمكاتب قد صار من ذوي الحاجة وقال الزهري : سهم الرقاب نصفان ، نصف للمكاتبين ونصف يعتق منه رقاب مسلمون ممن صلى ، قال ابن حبيب : ويفدى منه أسارى المسلمين ومنع ذلك غيره{[5739]} ، وأما «الغارم فهو الرجل يركبه دين في غير معصية ولا سفه ، قال العلماء : فهذا يؤدى عنه وإن كانت له عروض تقيم رمقه وتكفي عياله ، وكذلك الرجل يتحمل بحمالة في ديارات أو إصلاح بين القبائل ونحو هذا ، وهو أحد الخمسة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
«ولا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة :العامل عليها أو غاز في سبيل الله أو رجل تحمل بحمالة أو من أهديت له أو من اشتراها بماله »{[5740]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد سقط { المؤلفة } من هذا الحديث ، ولا يؤدى من الصدقة دين ميت ولا يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق الله ، وإنما «الغارم » من عليه دين يسجن فيه ، وقد قيل في مذهبنا وغيره : يؤدى دين الميت من الصدقات قاله أبو ثور ، وأما { في سبيل الله } فهو المجاهد يجوز أن يأخذ من الصدقة لينفقها في غزوه وإن كان غنياً قال ابن حبيب : ولا يعطى منها الحاج إلا أن يكون فقيراً فيعطى لفقره ، وقال ابن عباس وابن عمر وأحمد وإسحاق : يعطى منها الحاج وإن كان غنياً ، والحج سبيل الله ، ولا يعطى منها في بناء مسجد ولا قنطرة ولا شراء مصحف ونحو هذا ، وأما { ابن السبيل } فهو الرجل في السفر والغربة يعدم فإنه يعطى من الزكاة وإن كان غنياً في بلده ، وسمي المسافر ابن السبيل لملازمته السبيل كما يقال للطائر : ابن ماء لملازمته له ومنه عندي قولهم : ابن جلا وقد قيل فيه غير هذا ومنه قولهم : بنو الحرب وبنو المجد{[5741]} ولا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ، قال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وابن حبيب : ولا من التطوع ولا يعطى مواليهم لأن مولى القوم منهم ، قال ابن القاسم : يعطى بنو هاشم من صدقة التطوع ويعطى مواليهم من الصدقتين ، ومن سأل من الصدقة وقال إنه فقير ، فقالت فرقة يعطى دون أن يكلف بينة على فقره بخلاف حقوق الآدميين يدعي معها الفقر فإنه يكلف البينة لأنها حقوق الناس يؤخذ لها بالأحوط ، وأيضاً فالناس إذا تعلقت بهم حقوق آدمي محمولون على الغني حتى يثبت العدم ويظهر ذلك من قوله تعالى { وإن كان ذو عسرة }{[5742]} أي ان وقع فيعطي هذا أن الأصل الغنى{[5743]} فإن وقع ذو عسرة فنظرة ، وقالت فرقة : الرجل الصحيح الذي لا يعلم فقره لا يعطى إلا أن يعلم فقره ، وأما إن ادعى أنه غارم أو مكاتب أو ابن سبيل أو في سبيل الله أو نحو ذلك مما لم يعلم منه فلا يعطى إلا ببينة قولاً واحداً ، وقد قيل في الغارم{[5744]} : تباع عروضه وجميع ما يملك ثم يعطى بالفقر ، ويعطى الرجل قرابته الفقراء وهم أحق من غيرهم فإن كان قريبه غائباً في موضع تقصر إليه الصلاة فجاره الفقير أولى ، وإن كان في غيبة لا تقصر إليه الصلاة فقيل هو أولى من الجار الفقير ، وقيل الجار أولى ويعطى الرجل قرابته الذين لا تلزمه نفقتهم ، وتعطى المرأة زوجها ، وقال بعض الناس ما لم ينفق عليها ، ويعطي الرجل زوجته إذا كانت من الغارمين ، واختلف في ولاء الذي يعتق من الصدقة ، فقال مالك : ولاؤه لجماعة المسلمين وقال أبو عبيد : ولاؤه للمعتق وقال عبيد الله بن الحسن : يجعل ماله في بيت الصدقات ، وقال الحسن وأحمد وإسحاق : ويعتق من ماله رقاب ، وإذا كان لرجل على معسر دين فقيل يتركه له ويقطع ذلك من صدقته وقيل لا يجوز ذلك جملة ، وقيل إن كان ممن لو رفعه للحاكم أمكن أن يؤديه جاز ذلك وإلا لم يجز لأنه قد توي{[5745]} وأما السبيل : فهو الذي قدمنا ذكره يعطى الرجل الغازي وإن كان غنياً ، وقال أصحاب الرأي لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا أن يكون منقطعاً به ، قال ابن المنذر ؟ وهذا خلاف ظاهر القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما القرآن فقوله { وفي سبيل الله } ، وأما الحديث فقوله «إلا لخمسة لعامل عليها أو غاز في سبيل الله » ، وأما صورة التفريق فقال مالك وغيره : على قدر الحاجة ونظر الإمام يضعها في أي صنف رأى وكذلك المتصدق ، وقاله حذيفة بن اليمان وسعيد بن جبير وإبراهيم وأبو العالية ، قال الطبري : وقال بعض المتأخرين : إذا قسم المتصدق قسم في ستة أصناف لأنه ليس ثم عامل ولأن المؤلفة قد انقطعوا فإن قسم الإمام ففي سبعة أصناف ، قال الشافعي وعكرمة والزهري : هي ثمانية أقسام لثمانية أصناف لا يخل بواحد منها واحتج الشافعي بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله : «إن الله تعالى لم يرض في الصدقات بقسم نبي ولا غيره حتى قسمها بنفسه فجعلها ثمانية أقسام لثمانية أصناف فإن كنت واحداً منها أعطيتك » .
قال القاضي أبو محمد : والحديث في مصنف أبي داود ، وقال أبو ثور : إذا قسمها الإمام لم يخل بصنف منها وإن أعطى الرجل صدقته صنفاً دون صنف أجزأه ذلك وقال النخعي : إذا كان المال كثيراً قسم على الأصناف كلها وإذا كان قليلاً أعطاه صنفاً واحداً . وقالت فرقة من العلماء : من له خمسون درهماً فلا يعطى من الزكاة ، وقال الحسن وأبو عبيد ، لا يعطى من له أوقية وهي أربعون درهماً ، قال الحسن : وهو غني وقال الشافعي : قد يكون الرجل الذي لا قدر له غنياً بالدرهم مع سعيه وتحيله ، وقد يكون الرجل له القدر والعيال ضعيف النفس والحيلة فلا تغنيه آلاف ، وقال أبو حنيفة : لا يأخذ الصدقة من لا مائتا درهم ومن كان له أقل فلا بأس أن يأخذ ، قال سفيان الثوري : لا يدفع إلى أحد من الزكاة أكثر من خمسين درهماً ، إلا أن يكون غارماً وقال أصحاب الرأي ، إن أعطي ألفاً وهو محتاج أجزأ ذلك ، وقال أبو ثور : يعطى من الصدقة حتى يغنى ويزول عنه اسم المسكنة ولا بأس أن يعطى الفقير الألف وأكثر من ذلك ، وقال ابن المنذر : أجمع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم أن من له دار وخادم لا يستغني عنهما أن يأخذ من الزكاة وللمعطي أن يعطيه ، وقال مالك : إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة على ما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجزه ، وأما الرجل يعطي الآخر وهو يظنه فقيراً فإذا هو غني ، فإنه إن كان بفور ذلك أخذها منه فإن فاتت نظر ، فإن كان الآخذ غنياً وأخذها مع علمه بأنها لا تحل له ضمنها على كل وجه ، وإن كان لم يغر بل اعتقد أنها تجوز له ، أو لم يتحقق مقصد المعطي نظر ، فقال الحسن وأبو عبيدة : تجزيه ، وقال الثوري وغيره : لا تجزيه ، وأهل بلد الصدقة أحق بها إلا أن تفضل فتنقل إلى غيرها بحسب نظر الإمام ، قال ابن حبيب في الواضحة : أما { المؤلفة } فانقطع سهمهم ، وأما سبيل الله فلا بأس أن يعطى الإمام الغزاة إذا قل الفيء في بيت المال .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الشرط فيه نظر ، قال ابن حبيب : وينبغي للإمام أن يأمر السعاة بتفريقها بالمواضع التي جبيت فيها ولا يحمل منه شيء إلى الإمام إلا أن يرى ذلك لحاجة أو فاقة نزلت بقوم ، قال مالك : ومن له مزرعة أو شيء في ثمنه إذا باعه ما يغنيه لم يجز له أخذ الصدقة ، وهذه جملة من فقه الآية كافية على شرطنا في الإيجاز والله الموفق برحمته{[5746]} ، وقال تعالى : { فريضة من الله } أي موجبة محدودة وهو مأخوذ من الفرض في الشيء بمعنى الحز والقطع ثبوت ذلك ودوامه ، شبه ما يفرض من الأحكام ، ونصب { فريضة } على المصدر{[5747]} ، ثم وصف نفسه تعالى بصفتين مناسبتين لحكم هذه الآية لأنه صدر عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة بينهم .