{ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ْ } أي : لا بد أن الله يقضي بينهم{[437]} يوم القيامة ، بحكمه العدل ، فيجازي كلا بما يستحقه .
{ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ ْ } من خير وشر { خَبِيرٌ ْ } فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، دقيقها وجليلها .
( وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم . إنه بما يعملون خبير ) وفي التعبير توكيدات منوعة حتى لا يشك أحد في الجزاء والوفاء من جراء الإنظار والتأجيل . وحتى لا يشك أحد في أن ما عليه القوم هو الباطل الذي لا شك في بطلانه ، وأنه الشرك الذي زاوله من قبل كل المشركين .
ولقد كان لهذه التوكيدات ما يقتضيها من واقع الحركة في تلك الفترة . فقد وقف المشركون وقفتهم العنيدة منها ومن رسول الله [ ص ] والقلة المؤمنة معه ، وتجمدت الدعوة على وجه التقريب . بينما عذاب الله الموعود مؤجل لم يقع بعد . والأذى ينزل بالعصبة المؤمنة ويمضي أعداؤها ناجين ! . . إنها فترة تهتزفيها بعض القلوب . وحتى القلوب الثابتة تنالها الوحشة ، وتحتاج إلى مثل هذه التسرية وإلى مثل هذا التثبيت .
وتثبيت القلوب المؤمنة لا يكون بشيء كما يكون بتوكيد أن أعداءها هم أعداء الله ، وأنهم على الباطل الذي لا شك فيه !
كذلك لا يكون تثبيت القلوب المؤمنة بشيء كما يكون بجلاء حكمة الله في إمهال الظالمين ، وإرجاء الطغاة إلى يوم معلوم ، ينالون فيه جزاءهم ولا يفلتون !
وهكذا نلمح مقتضيات الحركة بهذه العقيدة في النصوص القرآنية ، ونرى كيف يخوض القرآن المعركة بالجماعة المسلمة ، وكيف يكشف لها معالم الطريق !
ثم أخبرنا{[14937]} تعالى أنه سيجمع الأولين والآخرين من الأمم ، ويجزيهم بأعمالهم ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر ، فقال : { وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : عليم بأعمالهم جميعها ، جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها .
وفي هذه الآية قراءات كثيرة ، ويرجع معناها إلى هذا الذي ذكرناه ، كما في قوله تعالى : { وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنّ كُلاّ لّمّا لَيُوَفّيَنّهُمْ رَبّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
اختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة من قرأة أهل المدينة والكوفة : وَإنّ مشددة كُلاّ لمّا مشدّدة .
واختلفت أهل العربية في معنى ذلك ؛ فقال بعض نحويي الكوفيين : معناه إذا قرىء كذلك : وإن كلاّ لمما ليوفيهم ربك أعمالهم ، ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة ، فبقيت ثنتان ، فأدغمت واحدة في الأخرى ، كما قال الشاعر :
وإنّي لَمّا أُصْدِرُ الأمْرَ وَجْهَهُ *** إذَا هُوَ أعْيا بالنّبِيل مَصَادِرُه
ثم تخفف ، كما قرأ بعض القرأة : { والبَغْي يَعِظُكُمْ } ، يخفف الياء مع الياء ، وذكر أن الكسائي أنشده :
وأشْمَتّ العُدَاةَ بِنَا فَأضْحَوا *** لَدَيْ يَتَباشَرُونَ بِمَا لَقَيْنَا
وقال : يريد : لديّ يتباشرون بما لقينا ، فحذف «ياء » لحركتهن واجتماعهن ، قال : ومثله :
كأنَّ مِنْ آخرَها إلقادِم *** مَخْرِمُ نَجْدٍ فارعِ المَخارِمِ
وقال : أراد : إلى القادم ، فحذف اللام عند اللام .
وقال آخرون : معنى ذلك إذا قرىء كذلك : وإنّ كُلاّ شديدا وحقّا ليوفيهم ربك أعمالهم . قال : وإنما يراد إذا قرىء ذلك كذلك : وإنّ كُلاّ لَمّا بالتشديد والتنوين ، ولكن قارىء ذلك كذلك حذف منه التنوين ، فأخرجه على لفظ : «فَعْلَى » ، لما كما فعل ذلك في قوله : { ثُمّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرَى } ، فقرأ «تترى » بعضهم بالتنوين ، كما قرأ من قرأ : «لَمّا » بالتنوين ، وقرأ آخرون بغير تنوين ، كما قرأ لَمّا بغير تنوين من قرأه ، وقالوا : أصله من اللمّ ، من قول الله تعالى : { وتَأْكُلُونَ التّراثَ أكْلاً لَمّا } ، يعني : أكلاً شديدا .
وقال آخرون : معنى ذلك إذا قرىء كذلك : وإن كلاّ إلا ليوفيهم ، كما يقول القائل : لقد قمت عنا ، وبالله إلا قمت عنا . ووجدت عامة أهل العلم بالعربية ينكرون هذا القول ، ويأبون أن يكون جائزا توجيه «لما » إلى معنى «إلا » في اليمين خاصة ، وقالوا : لو جاز أن يكون ذلك بمعنى إلا ، جاز أن يقال : قام القوم لما أخاك ، بمعنى : إلا أخاك ، ودخولها في كل موضع صلح دخول إلا فيه . وأنا أرى أن ذلك فاسد من وجه هو أبين مما قاله الذين حكينا قولهم من أهل العربية إنّ في فساده ، وهو أنّ «إنّ » إثبات للشيء وتحقيق له ، و «إلا » أيضا تحقيق أيضا ، وإنما تدخل نقضا لجحد قد تقدمها . فإذا كان ذلك معناها : فواجب أن تكون عند متأوّلها التأويل الذي ذكرنا عنه ، أن تكون بمعنى الجحد عنده ، حتى تكون إلا نقضا لها . وذلك إن قاله قائل ، قولٌ لا يخفى جهل قائله ، اللهمّ إلا أن يخفف قارىء «إنّ » ، فيجعلها بمعنى : «إن » التي تكون بمعنى الجحد . وإن فعل ذلك فسدت قراءته ذلك كذلك أيضا من وجه آخر ، وهو أنه يصير حينئد ناصبا ل «كلّ » ، بقوله : ليوفيهم ، وليس في العربية أن ينصب ما بعد «إلا » من الفعل الاسم الذي قبلها ، لا تقول العرب : ما زيدا إلا ضربت ، فيفسد ذلك إذا قرىء كذلك من هذا الوجه إلا أن يرفع رافع الكلّ ، فيخالف بقراءته ذلك كذلك قراءة القرأة وخطّ مصاحف المسلمين ، ولا يخرج بذلك من العيب بخروجه من معروف كلام العرب . وقد قرأ ذلك بعض قراء الكوفيين ) ، { وإنْ كُلاّ } ، بتخفيف «إن » ونصب «كلاّ لمّا » مشددة . وزعم بعض أهل العربية أن قارىء ذلك كذلك أراد «إنّ » الثقيلة ، فخففها . وذُكر عن أبي زيد البصري أنه سمع : كأنْ ثدييه حُقّان ، فنصب ب «كأنْ » ، والنون مخففة من «كأن » ، ومنه قول الشاعر :
وَوَجْهٌ مُشْرِقُ النّحْرِ *** كأنْ ثَدْيَيْهِ حُقّانٍ
وقرأ ذلك بعض المدنين بتخفيف «إنّ » ونصب «كُلاّ » وتخفيف «لَمَا » . وقد يحتمل أن يكون قارىء ذلك كذلك قصد المعنى الذي حكيناه عن قارىء الكوفة من تخفيفه نون «إن » ، وهو يريد تشديدها ، ويريد بما التي في «لَمَا » التي تدخل في الكلام صلة ، وأن يكون قصد إلى تحميل الكلام معنى : وإن كلاّ ليوفينهم ، ويجوز أن يكون معناه كان في قراءته ذلك كذلك : وإنْ كُلاّ ليوفينهم ، أيْ : ليوفّينّ كُلاّ ، فيكون نيته في نصب «كلّ » كانت بقوله : «ليَوفينهم » ، فإن كان ذلك أراد ففيه من القبح ما ذكرت من خلافه كلام العرب ، وذلك أنها لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسما قبلها .
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والبصرة : «وإنّ » مشددة «كُلاّ لَمَا » مخففة ، لَيُوفّيَنّهُمْ ، ولهذه القراءة وجهان من المعنى : أحدهما : أن يكون قارئها أراد : وإنّ كُلاّ لمَنْ ليوفيهم ربك أعمالهم ، فيوجه «ما » التي في «لما » إلى معنى «مَنْ » ، كما قال جلّ ثناؤه : { فانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } ، وإن كان أكثر استعمال العرب لها في غير بني آدم ، وينوي باللام التي في «لما » اللام التي يتلقى بها «وإن » جوابا لها ، وباللام التي في قوله : لَيُوفّيَنّهُمْ لام اليمين دخلت فيما بين ما وصلتها ، كما قال جلّ ثناؤه : { وإنْ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطّئَنّ } ، وكما يقال هذا ما لغيره أفضل منه . والوجه الاَخر : أن يجعل «ما » التي في «لما » بمعنى : «ما » التي تدخل صلة في الكلام ، واللام التي فيها اللام التي يجاب بها ، واللام التي في : لَيُوَفّيَنّهُمْ هي أيضا اللام التي يجاب بها «إنّ » كرّرت وأعيدت ، إذا كان ذلك موضعها ، وكانت الأولى مما تدخلها العرب في غير موضعها ، ثم تعيدها بعدُ في موضعها ، كما قال الشاعر :
فَلَوْ أنّ قَوْمي لَمْ يَكُونُوا أعِزّةً *** لَبَعْدُ لَقَدْ لا قَيْتُ لا بُدّ مَصْرَعا
وقرأ ذلك الزهري ، فيما ذكر عنه : { وَإنّ كُلاّ } ، بتشديد إنّ ولَمّا بتنوينها ، بمعنى : شديدا وحقّا وجميعا .
وأصح هذه القراءات مخرجا على كلام العرب المستفيض فيهم قراءة من قرأ : «وإنّ » بتشديد نونها ، «كُلاّ لَمَا » بتخفيف ما { لَيُوَفّيَنّهُمْ رَبّكَ } ، بمعنى : وإن كلّ هؤلاء الذين قصصنا عليك يا محمد قصصهم في هذه السور ، لمن ليوفينهم ربك أعمالهم بالصالح منها بالجزيل من الثواب ، وبالطالح منها بالتشديد من العقاب ، فتكون «ما » بمعنى : «من » واللام التي فيها : جوابا لأن واللام في قوله : لَيُوفّيَنّهُمْ لام قسم .
وقوله : { إنّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ، يقول تعالى ذكره : إن ربك بما يعمل هؤلاء المشركون بالله من قومك ، يا محمد ، { خبير } ، لا يخفى عليه شيء من عملهم ، بل يخبرُ ذلك كله ويعلمه ويحيط به حتى يجازيهم على جميع ذلك جزاءهم .
{ وإن كلاًّ } وإن كل المختلفين المؤمنين منهم والكافرين ، والتنوين بدل من المضاف إليه . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالتخفيف مع الإعمال اعتبارا للأصل . { لما ليُوفينّهم ربك أعمالهم } اللام الأولى موطئة للقسم والثانية للتأكيد أو بالعكس وما مزيدة بينهما للفصل . وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة { لمّا } بالتشديد على أن أصله لمن ما فقلبت النون ميما للإدغام ، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن ، والمعنى لمن الذين يوفينهم ربك جزاء أعمالهم . وقرئ لما بالتنوين أي جميعا كقوله : { أكلاً لمّاً } { وإن كلٌّ لمَّا } على أن { إن } نافية و{ لما } بمعنى إلا وقد قرئ به . { إنه بما يعملون خبير } فلا يفوته شيء منه وإن خفي .
تذييل للأخبار السابقة . والواو اعتراضية . و ( إنْ ) مخفّفة من { إنّ } الثّقيلة في قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي بكر عن عاص ، وأعملت في اسمها فانتصب بعدها . و( إنْ ) المخففة إذا وقعت بعدها جملة اسمية يكثر إعمالها ويكثر إهمالها قاله الخليل وسيبويه ونحاة البصرة وهو الحق . وقرأ الباقون ( إنّ ) مشدّدة على الأصل .
وبتنوين { كُلاّ } عوض عن المضاف إليه . والتقدير : وإنّ كلّهم ، أي كلّ المذكورين آنفاً من أهل القرى ، ومن المشركين المعرّض بهم ، ومن المختلفين في الكتاب من أتباع موسى عليه السّلام .
و ( لَما ) مخفّفة في قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، والكسائي ، فاللاّم الدّاخلة على ( مَا ) لام الابتداء التي تدخل على خبر { إنّ } . واللاّم الثّانية الدّاخلة على { ليوفينّهم } لام جواب القسم . و ( مَا ) مزيدة للتأكيد . والفصل بين اللاّمين دفعاً لكراهة توالي مثلين .
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وخلَف بتشديد الميم من ( لَمّا ) . فعند مَن قرأ ( إنْ ) مخفّفة وشدّد الميم وهو أبو بكر عن عاصم تكون ( إن ) مخفّفة من الثقيلة ، وأمّا مَن شدّد النون ( إنّ ) وشدّد الميم من ( لمّا ) وهم ابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف فتوجيه قراءتهم وقراءة أبي بكر ما قاله القراء : إنّها بمعنى ( لَمِنْ مَا ) فحذف إحدى الميمات الثلاث ، يريد أنّ ( لَمّا ) ليست كلمة واحدة وإن كانت في صُورتها كصورة حرف ( لَمّا ) في رسم المصحف ( لأنّه اتّبع فيه صورة النطق بها ) وإنّما هي مركّبة من لاَم الابتداء و ( مِنْ ) الجارة التي تستعمل في معنى كثرة تكرّر الفعل كالتي في قول أبي حَية النمري :
وإنّا لَمِمّا نَضرب الكبش ضربة *** على رأسه تُلقِي اللسانَ من الفم
أي نكثر ضرب الكبش ، أي أمير جيش العدوّ على رأسه . وقول ابن عبّاس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاقي من الوحي شدّة ، وكان ممّا يحرّك لسانه حين يُنزل عليه القرآن ، فقال الله تعالى : { لا تحرّك به لسانك لتعجل به } [ القيامة : 16 ] الآية . فأصل هذه الكلمات في الآية على هذه القراءات : وإنّ كُلا لَمِنْ مَا ليُوفينهم ، فلمّا قلبت نون ( من ) ميماً لإدغامها في ميم ( مَا ) اجتمع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى تخفيفاً وهي ميم ( مِن ) لوجود دليل عليها وهو الميم الثانية لأنّ أصل الميم الثّانية نون ( مِن ) فصار ( لَمّا ) .
ومعنى الكثرة في هذه الآية الكناية عن عدم إفلات فريق من المختلفين في الكتاب من إلحاق الجزاء عن عمله به .
والمعنى : وإنّ جميعهم لَلاَقُون جزاء أعمالهم لا يفلت منهم أحد ، وإن توفية الله إياهم أعمالهم حقّقه الله ولم يسامح فيه . فهذا التخريج هو أولى الوجوه التي خرجت عليها هذه القراءة وهو مروي عن الفراء وتبعه المهدوي ونصر الشيرازي النّحوي ومشى عليه البيضاوي .
وقد أنهاها أبو شامة في « شرح منظومَة الشّاطبي » إلى ستّة وجوه وأنهاها غيره إلى ثمانية وجوه .
وفي تفسير الفخر : سمعت بعض الأفاضل قال : إنّ الله تعالى لمّا أخبر عن توفية الأجزية على المستحقّين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التّوكيدات ، أوّلها : كلمة ( إنْ ) وهي للتأكيد ، وثانيها ( كلّ ) وهي أيضاً للتّأكيد ، وثالثها اللاّم الدّاخلة على خبر ( إنّ ) ، ورابعها حرف ( ما ) إذا جعلناه موصولاً على قول الفراء ، وخامسها القسم المضمر ، وسادسها اللاّم الدّاخلة على جواب القسم ، وسابعها النون المؤكدة في قوله : { ليوفينهم } .
وتوفية أعمالهم بمعنى توفية جزاء الأعمال ، أي إعطاء الجزاء وافياً من الخير على عمل الخير ومن السوء على عمل السوء .
وجملة { إنّه بما يعملون خبير } استئناف وتعليل للتّوفية لأنّ إحاطة العلم بأعمالهم مع آرادة جزائهم توجب أن يكون الجزاء مطابقاً للعمل تمام المطابقة . وذلك محقق التوفية .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وإن كلّ هؤلاء الذين قصصنا عليك يا محمد قصصهم في هذه السور، لمن ليوفينهم ربك أعمالهم بالصالح منها بالجزيل من الثواب، وبالطالح منها بالتشديد من العقاب،...
{إنّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، يقول تعالى ذكره: إن ربك بما يعمل هؤلاء المشركون بالله من قومك، يا محمد، {خبير}، لا يخفى عليه شيء من عملهم، بل يخبرُ ذلك كله ويعلمه ويحيط به حتى يجازيهم على جميع ذلك جزاءهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ) في الآخرة؛ إن كان شرا فشر، وإن كان حسن فحسن...
المعنى أن من عجلت عقوبته ومن أخرت ومن صدق الرسل ومن كذب فحالهم سواء في أنه تعالى يوفيهم جزاء أعمالهم في الآخرة، فجمعت الآية الوعد والوعيد؛ فإن توفيه جزاء الطاعات وعد عظيم، وتوفيه جزاء المعاصي وعيد عظيم، وقوله تعالى: {إنه بما يعملون خبير} توكيد الوعد والوعيد، فإنه لما كان عالما بجميع المعلومات كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي فكان عالما بالقدر اللائق بكل عمل من الجزاء، فحينئذ لا يضيع شيء من الحقوق والأجزية وذلك نهاية البيان... إنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التوكيدات:
وثانيها: كلمة «كل» وهي أيضا للتأكيد.
وثالثها: اللام الداخلة على خبر {إن} وهي تفيد التأكيد أيضا.
ورابعها: حرف {ما} إذا جعلناه على قول الفراء موصولا.
وخامسها: القسم المضمر، فإن تقدير الكلام وإن جميعهم والله ليوفينهم. وسادسها: اللام الثانية الداخلة على جواب القسم.
وسابعها: النون المؤكدة في قوله {ليوفينهم} فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدل على أن أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر ثم أردفه بقوله: {إنه بما يعملون خبير} وهو من أعظم المؤكدات...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم. إنه بما يعملون خبير) وفي التعبير توكيدات منوعة حتى لا يشك أحد في الجزاء والوفاء من جراء الإنظار والتأجيل. وحتى لا يشك أحد في أن ما عليه القوم هو الباطل الذي لا شك في بطلانه، وأنه الشرك الذي زاوله من قبل كل المشركين...
ولقد كان لهذه التوكيدات ما يقتضيها من واقع الحركة في تلك الفترة. فقد وقف المشركون وقفتهم العنيدة منها ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه، وتجمدت الدعوة على وجه التقريب. بينما عذاب الله الموعود مؤجل لم يقع بعد. والأذى ينزل بالعصبة المؤمنة ويمضي أعداؤها ناجين!.. إنها فترة تهتزفيها بعض القلوب. وحتى القلوب الثابتة تنالها الوحشة، وتحتاج إلى مثل هذه التسرية وإلى مثل هذا التثبيت. وتثبيت القلوب المؤمنة لا يكون بشيء كما يكون بتوكيد أن أعداءها هم أعداء الله، وأنهم على الباطل الذي لا شك فيه!... كذلك لا يكون تثبيت القلوب المؤمنة بشيء كما يكون بجلاء حكمة الله في إمهال الظالمين، وإرجاء الطغاة إلى يوم معلوم، ينالون فيه جزاءهم ولا يفلتون! وهكذا نلمح مقتضيات الحركة بهذه العقيدة في النصوص القرآنية، ونرى كيف يخوض القرآن المعركة بالجماعة المسلمة، وكيف يكشف لها معالم الطريق!...
{وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير}: إذن: فالحق سبحانه قد أخذ قوم الرسل السابقين على موسى بالعذاب، أما في بدء رسالة موسى عليه السلام فقد تم تأجيل العذاب ليوم القيامة. ويبين الحق سبحانه: لا تعتقدوا أن تأجيل العذاب ليوم القيامة يعني الإفلات من العذاب، بل كل واحد سيوفى جزاء عمله؛ بالثواب لمن أطاع، وبالعقاب لمن عصا، فأمر الله سبحانه آت –لا محال -وتوفية الجزاء إنما تكون على قدر الأعمال، كفرا أو إيمانا، صلاحا أو فسادا، وميعاد ذلك هو يوم القيامة...