37- وإذا كانوا يطلبون التعجيل بالعذاب فإن طبيعة الإنسان التعجل ، سأريكم - أيها المستعجلون - نعمتي في الدنيا ، وعذابي في الآخرة فلا تشغلوا أنفسكم باستعجال ما لابد منه{[130]} .
{ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ْ } أي : خلق عجولا ، يبادر الأشياء ، ويستعجل بوقوعها ، فالمؤمنون ، يستعجلون عقوبة الله للكافرين ، ويتباطئونها ، والكافرون يتولون{[530]} ويستعجلون بالعذاب ، تكذيبا وعنادا ،
ثم هم يستعجلون بما ينذرهم به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من عذاب ؛ ويحذرهم من عاقبته . والإنسان بطبعه عجول :
( خلق الإنسان من عجل . سأريكم آياتي فلا تستعجلون . ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ! ) . .
( خلق الإنسان من عجل ) . . فالعجلة في طبعه وتكوينه . وهو يمد ببصره دائما إلى ما وراء اللحظة الحاضرة يريد ليتناوله بيده ، ويريد ليحقق كل ما يخطر له بمجرد أن يخطر بباله ، ويريد أن يستحضر كل ما يوعد به ولو كان في ذلك ضرره وإيذاؤه . ذلك إلا أن يتصل بالله فيثبت ويطمئن ، ويكل الأمر لله فلا يتعجل قضاءه . والإيمان ثقة وصبر واطمئنان .
وقوله : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } ، كما قال في الآية الأخرى : { وَكَانَ{[19628]} الإنْسَانُ عَجُولا } [ الإسراء : 11 ] أي : في الأمور .
قال مجاهد : خلق الله آدم بعد كل شيء من آخر النهار ، من يوم خلق الخلائق فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ، ولم يبلغ{[19629]} أسفله قال : يا رب ، استعجل بخلقي قبل غروب الشمس .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا محمد بن علقمة بن وقاص الليثي ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة ، وفيه أهبط منها ، وفيه تقوم الساعة ، وفيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي - وقبض أصابعه قَلَّلَها{[19630]} - فسأل الله خيرًا ، إلا أعطاه إياه " . قال أبو سلمة : فقال عبد الله بن سلام : قد عرفت تلك الساعة ، وهي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة ، وهي التي خلق الله فيها آدم ، قال الله تعالى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ } {[19631]} .
والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول ، صلوات الله [ وسلامه ]{[19632]} عليه ، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت{[19633]} ، فقال الله تعالى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } ؛ لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، يؤجل ثم يعجل ، وينظر ثم لا يؤخر ؛ ولهذا قال : { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي } أي : نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني ، { فَلا تَسْتَعْجِلُونِ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَىَ هََذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : خُلِقَ الإنْسانُ يعني آدم مِنْ عَجَلٍ .
واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : من عَجَل في بنيته وخلقته كان من العجلة ، وعلى العجلة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد في قوله : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال : لما نفخ فيه الروح في ركبتيه ذهب لينهض ، فقال الله : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما نُفخ فيه يعني في آدم الروح ، فدخل في رأسه عطس ، فقالت الملائكة : قل الحمد لله فقال : الحمد لله . فقال الله له : رحمك ربك فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ يقول : خلق الإنسان عجولاً .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال : خلق عجولاً .
وقال آخرون : معناه : خلق الإنسان من عجل ، أي من تعجيل في خلق الله إياه ومن سرعة فيه وعلى عجل . وقالوا : خلقه الله في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس على عجل في خلقه إياه قبل مغيبها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال : قول آدم حين خُلق بعد كلّ شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق ، فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ولم تبلغ أسفله ، قال : يا ربّ استعجل بخلقي قبل غروب بالشمس .
حدثني الحارث ، قال حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال آدم حين خُلق بعد كلّ شيء ثم ذكر نحوه ، غير أنه قال في حديثه : استعجلْ بخلقي فقد غربت الشمس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال : على عجل آدم آخر ذلك اليوم من ذينك اليومين ، يريد يوم الجمعة ، وخلقه على عجل ، وجعله عجولاً .
وقال بعض أهل العربية من أهل البصرة ممن قال نحو هذه المقالة : إنما قال : خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ وهو يعني أنه خلقه من تعجيل من الأمر ، لأنه قال : إنّمَا قَوْلُنا لِشَيْء إذَا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ قال : فهذا العجل . وقوله : فَلا تَسْتَعْجِلُونِ إنّي سأُرِيكُمْ آياتي .
وعلى قول صاحب هذه المقالة ، يجب أن يكون كلّ خلق الله خُلق على عجل ، لأن كل ذلك خلق بأن قيل له كن فكان .
فإذا كان ذلك كذلك ، فما وجه خصوص الإنسان إذا بذكر أنه خُلق من عجل دون الأشياء كلها وكلها مخلوق من عجل ؟ وفي خصوص الله تعالى ذكره الإنسان بذلك الدليل الواضح ، على أن القول في ذلك غير الذي قاله صاحب هذه المقالة .
وقال آخرون منهم : هذا من المقلوب ، وإنما خُلق العَجَل من الإنسان ، وخُلقت العجلة من الإنسان . وقالوا : ذلك مثل قوله : ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولي القُوّةِ إنما هو : لَتنوء العصبة بها متثاقلة . وقالوا : هذا وما أشبهه في كلام العرب كثير مشهور . قالوا : وإنما كلم القوم بما يعقلون . قالوا : وذلك مثل قولهم : عرَضتُ الناقة ، وكقولهم : إذا طلعت الشعرى واستوت العود على الحِرْباء أي استوت الحرباء على العود ، كقول الشاعر :
وتَرْكَبُ خَيْلاً لا هَوَادَة بَيْنَها *** وَتَشْقَى الرماحُ بالضياطِرَةِ الحُمْرِ
حَسَرْتُ كَفّي عَنِ السّرْبالِ آخُذُهُ *** فَرْدا يُجَرّ عَلى أيْدِي المُفَدّينا
يريد : حسرت السربال عن كفّي ، ونحو ذلك من المقلوب . وفي إجماع أهل التأويل على خلاف هذا القول ، الكفاية المغنية عن الاستشهاد على فساده بغيره .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا الذي ذكرناه عمن قال معناه : خُلق الإنسان من عجل في خلقه أيْ على عجل وسرعة في ذلك . وإنما قيل ذلك كذلك ، لأنه بُودر بخلقه مغيب الشمس في آخر ساعة من نهار يوم الجمعة ، وفي ذلك الوقت نفخ فيه الروح .
وإنما قلنا أولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب ، لدلالة قوله تعالى : سأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونَ عليّ ذلك ، وأن أبا كريب :
حدثنا قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ فِي الجُمُعَةِ لَساعَةً » يُقَلّلُها ، قال : «لا يَوَافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسأَلُ اللّهَ فِيها خَيْرا إلاّ آتاهُ اللّهُ إيّاهُ » فقال عبد الله بن سلام : قد علمت أيّ ساعة هي ، هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة . قال الله : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونَ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي وعبدة بن سليمان وأسير بن عمرو ، عن محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وذكر كلام عبد الله بن سلام بنحوه .
فتأويل الكلام إذا كان الصواب في تأويل ذلك ما قلنا بما به استشهدنا خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ، ولذلك يستعجل ربه بالعذاب . سأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أيها المستعجلون ربهم بالاَيات القائلون لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم : بل هو شاعر ، فليأتنا بآية كما أرسل الأوّلون آياتي ، كما أريتها من قبلكم من الأمم التي أهلكناها بتكذيبها الرسل ، إذا أتتها الاَيات : فلا تَسْتَعْجِلُونِ يقول : فلا تستعجلوا ربكم ، فإنا سنأتيكم بها ونريكموها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فقرأته عامة قرّاء الأمصار : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ بضمّ الخاء على مذهب ما لم يسِمّ فاعله . وقرأه حُميد الأعرج : «خَلَقَ » بفتحها ، بمعنى : خلق الله الإنسان . والقراءة التي عليها قرّاء الأمصار ، هي القراءة التي لا أستجيز خلافها .
{ خلق الإنسان من عجل } كأنه خلق منه لفرط استعجاله وقلة ثباته كقولك : خلق زيد من الكرم ، جعل ما طبع عليه بمنزلة المطبوع وهو منه مبالغة في لزومه له ولذلك قيل : إنه على القلب ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد . روي أنها نزلت في النضر بن الحارث حين استعجل العذاب . { سأريكم آياتي نقماتي في الدنيا كوقعة بدر وفي الآخرة عذاب النار . { فلا تستعجلون } بالإتيان بها ، والنهي عما جبلت عليه نفوسهم ليقعدوها عن مرادها .
وقوله تعالى : { خلق الإنسان من عجل } ، توطئة للرد عليهم في استعجالهم العذاب وطلبهم آية مقترحة وهي مقرونة بعذاب مجهز إن كفروا بعد ذلك ، ووصف تعالى الإنسان الذي هو اسم الجنس بأنه «خلق من عجل » وهذا على جهة المبالغة كما تقول للرجل البطال أنت من لعب ولهو وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لست من دد ولا دد مني »{[8223]} ، وهذا نحو قول الشاعر :
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة . . . على رأسه تلقي اللسان على الفم{[8224]}
كأنه مما كانوا أهل ضرب الهام ، وملازمة الضرب قال إنهم من الضرب ع وهذا التأويل يتم به معنى الآية المقصود في أن ذمت عجلتهم وقيل لهم على جهة الوعيد إن الآيات ستأتي { فلا تستعجلون } وقال بعض المفسرين في قوله تعالى : { خلق الإنسان من عجل } إنه على المقلوب كأنه أراد خلق العجل من الإنسان على معنى أنه جعل طبيعة من طبائعه وجزءاً من أخلاقه ع وهذا التأويل ليس فيه مبالغة وإنما هو إخبار مجرد وإنما حمل قائليه عليه عدمهم وجه التجوز والاستعارة في أن يبقى الكلام على ترتيبه ونظير هذا القلب الذي قالوه قول العرب : إذا طلعت الشعرى استوى العود على الحرباء ، وكما قالوا عرضت الناقة على الحوض{[8225]} وكما قال الشاعر : [ البسيط ]
حسرت كفي على السربال آخذه . . . فرداً يخر على أيدي المفدينا{[8226]}
وأما المعنى في تأويل من رأى الكلام من المقلوب فكالمعنى الذي قدمناه ، وقالت فرقة من المفسرين قوله { خلق الإنسان من عجل } إنما أراد أن آدم عليه السلام خلقه الله تعالى في آخر ساعة من يوم الجمعة فتعجل به قبل مغيب الشمس ، وروى بعضهم أن آدم عليه السلام قال يا رب أكمل خلقي فإن الشمس على الغروب أو غربت ع وهذا قول ضعيف ومعناه لا يناسب معنى الآية ، وقالت فرقة العجل الطين والمعنى خلق آدم من طين .
وأنشد النقاش : والنخل ينبت بين الماء والعجل{[8227]} . وهذا أيضاً ضعيف ومعناه مباين لمعنى الآية ، وقالت فرقة معنى قوله { خلق الإنسان من عجل } أي بقوله كن فهو حال عجله وهذا أيضاً ضعيف وفيه تخصيص ابن آدم بشيء كل مخلوق يشاركه فيه ، وليس في هذه الأقوال ما يصح معناه ويلتئم مع الآية إلا القول الأول ، وقرأت فرقة «خُلق » على بناء الفعل للمفعول ، وقرأت فرقة «خَلَق الإنسانَ » على معنى خلق الله الإنسان ، فمعنى الآية بجملتها خلق الإنسان من عجل على معنى التعجب ، من تعجل هؤلاء المقصودين بالرد ، ثم توعدهم بقوله { سأوريكم آياتي } أي سآتي ما يسوءكم إذا دمتم على كفركم ، يريد يوم بدر وغيره .