90- إن اللَّه يأمر عباده بأن يعدلوا في أقوالهم وأفعالهم ، ويقصدوا إلى الأحسن من كل الأمور ، فيفضلوه على غيره ، كما يأمر بإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه ، لدعم روابط المحبة بين الأسر ، وينهي عن فعل كل خطيئة ، خصوصاً الذنوب المفرطة في القبح ، وكل ما تنكره الشرائع والعقول السليمة ، كما ينهي عن الاعتداء على الغير ، واللَّه - سبحانه - بهذا يذكركم ويوجهكم إلى الصالح من أموركم ، لعلكم تتذكرون فضله في حسن توجيهكم ، فتمتثلوا كلامه .
{ 90 } { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
فالعدل الذي أمر الله به ، يشمل العدل في حقه وفي حق عباده ، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفرة ، بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية ، والمركبة منهما في حقه وحق عباده ، ويعامل الخلق بالعدل التام ، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته ، سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى ، وولاية القضاء ونواب الخليفة ، ونواب القاضي .
والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه ، وعلى لسان رسوله ، وأمرهم بسلوكه ، ومن العدل في المعاملات أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات ، بإيفاء جميع ما عليك ، فلا تبخس لهم حقا ولا تغشهم ولا تخدعهم وتظلمهم . فالعدل واجب ، والإحسان فضيلة مستحب ، وذلك كنفع الناس بالمال والبدن والعلم ، وغير ذلك من أنواع النفع ، حتى إنه يدخل فيه الإحسان إلى الحيوان البهيم المأكول وغيره .
وخص الله إيتاء ذي القربى -وإن كان داخلا في العموم- ؛ لتأكد حقهم وتعين صلتهم وبرهم ، والحرص على ذلك .
ويدخل في ذلك جميع الأقارب ، قريبهم وبعيدهم ، لكن كل ما كان أقرب كان أحق بالبر .
وقوله : { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ } ، وهو كل ذنب عظيم استفحشته الشرائع والفطر ، كالشرك بالله ، والقتل بغير حق ، والزنا ، والسرقة ، والعجب ، والكبر ، واحتقار الخلق ، وغير ذلك من الفواحش .
ويدخل في المنكر كل ذنب ومعصية متعلق بحق الله تعالى .
وبالبغي كل عدوان على الخلق في الدماء والأموال والأعراض .
فصارت هذه الآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات ، لم يبق شيء إلا دخل فيها ، فهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات ، فكل مسألة مشتملة على عدل أو إحسان أو إيتاء ذي القربى ، فهي مما أمر الله به .
وكل مسألة مشتملة على فحشاء أو منكر أو بغي ، فهي مما نهى الله عنه . وبها يعلم حسن ما أمر الله به وقبح ما نهى عنه ، وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال وترد إليها سائر الأحوال ، فتبارك من جعل في كلامه الهدى والشفاء والنور والفرقان بين جميع الأشياء .
ولهذا قال : { يَعِظُكُمْ بِهِ } ، أي : بما بينه لكم في كتابه ، بأمركم بما فيه غاية صلاحكم ، ونهيكم عما فيه مضرتكم .
{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، ما يعظكم به فتفهمونه وتعقلونه ، فإنكم إذا تذكرتموه وعقلتموه ، عملتم بمقتضاه ، فسعدتم سعادة لا شقاوة معها .
( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي . يعظكم لعلكم تذكرون . وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ، إن الله يعلم ما تفعلون . ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة ، إنما يبلوكم الله به ، وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ، ولكن يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، ولتسألن عما كنتم تعملون ) . .
لقد جاء هذا الكتاب لينشيء أمة وينظم مجتمعا ، ثم لينشيء عالما ويقيم نظاما . جاء داء دعوة عالمية إنسانية لا تعصب فيها لقبيلة أو أمة أو جنس ؛ إنما العقيدة وحدها هي الآصرة والرابطة والقومية والعصبية .
ومن ثم جاء بالمباديء التي تكفل تماسك الجماعة والجماعات ، واطمئنان الأفراد والأمم والشعوب ، والثقة بالمعاملات والوعود والعهود .
جاء ( بالعدل ) الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل ، لا تميل مع الهوى ، ولا تتأثر بالود والبغض ، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب ، والغني والفقير ، والقوة والضعف . إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع ، وتزن بميزان واحد للجميع .
وإلى جوار العدل . . ( الإحسان ) . . يلطف من حدة العمل الصارم الجازم ، ويدع الباب مفتوحا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثارا لود القلوب ، وشفاء لغل الصدور . ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحا أو يكسب فضلا .
والإحسان أوسع مدلولا ، فكل عمل طيب إحسان ، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل ، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه ، وعلاقاته بأسرته ، وعلاقاته بالجماعة ، وعلاقاته بالبشرية جميعا .
ومن الإحسان ( إيتاء ذي القربى ) إنما يبرز الأمر به تعظيما لشأنه ، وتوكيدا عليه . وما يبني هذا على عصبية الأسرة ، إنما يبنيه على مبدأ التكافل الذي يتدرج به الإسلام من المحيط المحلي إلى المحيط العام . وفق نظريته التنظيمية لهذا التكافل .
( وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ) . . والفحشاء كل أمر يفحش أي يتجاوز الحد . ومنه ما خصص به غالبا وهو فاحشة الاعتداء على العرض ، لأنه فعل فاحش فيه اعتداء وفيه تجاوز للحد حتى ليدل على الفحشاء ويختص بها . والمنكر كل فعل تنكره الفطرة ومن ثم تنكره الشريعة فهي شريعة الفطرة . وقد تنحرف الفطرة أحيانا فتبقى الشريعة ثابتة تشير إلى أصل الفطرة قبل انحرافها . والبغي الظلم وتجاوز الحق والعدل .
وما من مجتمع يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي . ما من مجتمع تشيع فيه الفاحشة بكل مدلولاتها ، والمنكر بكل مغرراته ، والبغي بكل معقباته ، ثم يقوم . .
والفطرة البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة ، مهما تبلغ قوتها ، ومهما يستخدم الطغاة من الوسائل لحمايتها . وتاريخ البشرية كله انتفاضات وانتفاضات ضد الفحشاء والمنكر والبغي . فلا يهم أن تقوم عهود وأن تقوم دول عليها حينا من الدهر ، فالانتفاض عليها دليل على أنها عناصر غريبة على جسم الحياة ، فهي تنتفض لطردها ، كما ينتفض الحي ضد أي جسم غريب يدخل إليه . وأمر الله بالعدل والإحسان ونهيه عن الفحشاء والمنكر والبغي يوافق الفطرة السليمة الصحيحة ، ويقويها ويدفعها للمقاومة باسم الله . لذلك يجيء التعقيب : ( يعظكم لعلكم تذكرون ) فهي عظة للتذكر وتذكر وحي الفطرة الأصيل القويم .
يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل ، وهو القسط والموازنة ، ويندب إلى الإحسان ، كما قال تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } [ النحل : 126 ] ، وقال : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ الشورى : 40 ] ، وقال : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } [ المائدة : 45 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا ، من{[16643]} شرعية العدل ، والندب إلى الفضل .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } ، قال : شهادة أن لا إله إلا الله .
وقال سفيان بن عيينة : العدل في هذا الموضع : هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا . والإحسان : أن تكون{[16644]} سريرته أحسن من علانيته . والفحشاء والمنكر : أن تكون{[16645]} علانيته أحسن من سريرته .
وقوله : { وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } ، أي : يأمر بصلة الأرحام ، كما قال : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } [ الإسراء : 26 ] .
وقوله : { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } ، فالفواحش : المحرمات . والمنكرات : ما ظهر منها من فاعلها ؛ ولهذا قيل في الموضع الآخر : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأعراف : 33 ] . وأما البغي فهو : العدوان على الناس . وقد جاء في الحديث : " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا ، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم " {[16646]} .
وقوله { يَعِظُكُمْ } ، أي : يأمركم بما يأمركم به من الخير ، وينهاكم عما{[16647]} ينهاكم عنه من الشر ، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، قال الشعبي ، عن شُتَيْر بن شَكَل : سمعت ابن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } الآية . رواه ابن جرير{[16648]} .
وقال سعيد عن قتادة : قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } الآية ، ليس من خُلُق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به ، وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه . وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها .
قلت : ولهذا جاء في الحديث : " إن الله يحب معالي الأخلاق ، ويكره سَفْسافها " {[16649]} .
وقال الحافظ أبو نُعَيم في كتابه " كتاب معرفة الصحابة " : حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح الحنبلي ، حدثنا يحيى{[16650]} بن محمد مولى بني هاشم ، حدثنا الحسن بن داود المنْكَدري ، حدثنا عمر بن علي المقدمي ، عن علي بن عبد الملك بن عمير{[16651]} عن أبيه قال : بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه وقالوا : أنت كبيرنا ، لم تكن لتخف إليه ! قال : فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه . فانتدب رجلان ، فأتيا النبي{[16652]} صلى الله عليه وسلم ، فقالا : نحن رسل أكثم بن صيفي ، وهو يسألك : من أنت ؟ وما أنت{[16653]} ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما من أنا ، فأنا محمد بن عبد الله ، وأما ما أنا ، فأنا عبد الله ورسوله " . قال : ثم تلا عليهم هذه الآية : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، قالوا : اردد علينا هذا القول ، فردده عليهم حتى حفظوه . فأتيا أكثم ، فقالا : أبى أن يرفع نسبه ، فسألنا عن نسبه ، فوجدناه زاكي النسب ، وسطا في مضر ، وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها ، فلما سمعهن أكثم قال : إني قد أراه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها ، فكونوا في هذا الأمر رءوسا ، ولا تكونوا فيه أذنابا{[16654]} .
وقد ورد في نزول هذه الآية الكريمة حديث حَسن ، رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شهر ، حدثني عبد الله بن عباس قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته جالس ، إذ مر به عثمان بن مظعون ، فكشر{[16655]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا تجلس ؟ " فقال : بلى . قال : فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله ، فبينما هو يحدثه إذ شَخَص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره في السماء ، فنظر ساعة إلى [ السماء ]{[16656]} ، فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يَمْنته في الأرض ، فتحرَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره ، فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له ، وابن مظعون ينظر ، فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له ، شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة . فأتبعه بصره حتى توارى في السماء . فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى فقال : يا محمد ، فيما كنت أجالسك ؟ ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة ! قال : " وما رأيتني فعلت ؟ " قال : رأيتك شخص بصرك إلى السماء ، ثم وضعته حيث وضعته على يمينك ، فتحرفت إليه وتركتني ، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك . قال : " وفطنت لذلك ؟ " فقال عثمان : نعم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس " . قال : رسولُ الله ؟ قال : " نعم " . قال : فما قال لك ؟ قال : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي ، وأحببت محمدًا صلى الله عليه وسلم{[16657]} .
إسناد جيد متصل حسن ، قد{[16658]} بُيِّن فيه السماع المتصل . ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث عبد الحميد بن بَهرام مختصرًا .
حديث آخر : عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك ، قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا هُرَيْم ، عن لَيْث ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ، إذ شَخَصَ بَصره فقال : " أتاني جبريل ، فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ [ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ] }{[16659]} {[16660]} .
وهذا إسناد لا بأس به ، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين ، والله أعلم .