{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
لما جرى يوم " أحد " ما جرى ، وجرى على النبي صلى الله عليه وسلم مصائب ، رفع الله بها درجته ، فشج رأسه وكسرت رباعيته ، قال " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم " وجعل يدعو على رؤساء من المشركين مثل أبي سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، أنزل الله تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة الله { ليس لك من الأمر شيء } إنما عليك البلاغ وإرشاد الخلق والحرص على مصالحهم ، وإنما الأمر لله تعالى هو الذي يدبر الأمور ، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء ، فلا تدع عليهم بل أمرهم راجع إلى ربهم ، إن اقتضت حكمته ورحمته أن يتوب عليهم ويمن عليهم بالإسلام فعل ، وإن اقتضت حكمته إبقاءهم على كفرهم وعدم هدايتهم ، فإنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وضروها وتسببوا بذلك ، فعل ، وقد تاب الله على هؤلاء المعينين وغيرهم ، فهداهم للإسلام رضي الله عنهم ، وفي هذه الآية مما يدل على أن اختيار الله غالب على اختيار العباد ، وأن العبد وإن ارتفعت درجته وعلا قدره قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء فغيره من باب أولى ففيها أعظم رد على من تعلق بالأنبياء أو غيرهم من الصالحين وغيرهم ، وأن هذا شرك في العبادة ، نقص في العقل ، يتركون من الأمر كله له ويدعون من لا يملك من الأمر مثقال ذرة ، إن هذا لهو الضلال البعيد ، وتأمل كيف لما ذكر تعالى توبته عليهم أسند الفعل إليه ، ولم يذكر منهم سببا موجبا لذلك ، ليدل ذلك على أن النعمة محض فضله على عبده ، من غير سبق سبب من العبد ولا وسيلة ، ولما ذكر العذاب ذكر معه ظلمهم ، ورتبه على العذاب بالفاء المفيدة للسببية ، فقال { أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ليدل ذلك على كمال عدل الله وحكمته ، حيث وضع العقوبة موضعها ، ولم يظلم عبده بل العبد هو الذي ظلم نفسه ،
فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة ، وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم ، فيتوب الله عليهم من كفرهم ، ويختم لهم بالإسلام والهداية . .
( أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) . .
يعذبهم بنصر المسلمين عليهم . أو بأسرهم . أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب . . جزاء لهم على ظلمهم بالكفر ، وظلمهم بفتنة المسلمين ، وظلمهم بالفساد في الأرض ، وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه . . إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله .
وعلى أية حال فهي حكمة الله ، وليس لبشر منها شيء . . حتى رسول الله [ ص ] يخرجه النص من مجال هذا الأمر ، ليجرده لله وحده - سبحانه - فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك .
بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر : من أسبابه ومن نتائجه ! وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين ، ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم ! وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء ، إنما الأمر كله لله أولا وأخيرا .
وبذلك يرد أمر الناس - طائعهم وعاصيهم - إلى الله . فهذا الشأن شأن الله وحده - سبحانه . شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها : طائعهم وعاصيهم سواء . . وليس للنبي [ ص ] وليس للمؤمننين معه إلا أن يؤدوا دورهم ، ثم ينفضوا أيديهم من النتائج ، وأجرهم من الله على الوفاء ، وعلى الولاء ، وعلى الأداء .
وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص : ( ليس لك من الأمر شيء ) فسيرد في السياق قول بعضهم : ( هل لنا من الأمر من شيء ؟ ) . . وقولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . . . ليقول لهم : إن أحدا ليس له من الأمر من شيء . لا في نصر ولا في هزيمة . إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس . وأما الأمر بعد ذلك فكله لله . ليس لأحد منه شيء . ولا حتى لرسول الله . . فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي . وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث ، وأكبر من شتى الاعتبارات . .
ثم اعترض بجملة دَلَّت على أنّ الحُكْم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له ، فقال : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } أي : بل الأمر كلّه إلي ، كما قال : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] وقال { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة : 272 ] . وقال { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ القصص : 56 ] .
قال محمد بن إسحاق في قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } أي : ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم .
ثم ذكر تعالى بقية الأقسام فقال : { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي : مما هم فيه من الكفر ويهديهم بعد الضلالة { أَوْ يُعَذِّبَهُمْ } أي : في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم ؛ ولهذا قال : { فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } أي : يستحقون ذلك .
وقال البخاري : حدثنا حِبّان بن مُوسى ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، حدثني سالم ، عن أبيه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر{[5650]} اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وفُلانًا " بعد ما يقول : " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، ربنا ولك الحمد " فأنزل الله تعالى{[5651]} { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ [ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ] {[5652]} } .
وهكذا رواه النسائي ، من حديث عبد الله بن المبارك وعبد الرزاق ، كلاهما ، عن مَعْمَر{[5653]} ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النَّضْر ، حدثنا أبو عقيل - قال أحمد : وهو عبد الله بن عقيل ، صالح الحديث ثقة - قال : حدثنا عُمَر بن حمزة ، عن سالم ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم العن فلانا ، اللهم العن الحارث بن هِشامِ ، اللهم العن سُهَيلَ بنَ عَمْرو ، اللهم العن صَفْوانَ بْنَ أُمَيَّةَ " . فنزلت هذه الآية : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } فَتِيبَ عليهم كلّهم{[5654]} .
وقال أحمد : حدثنا أبو معاوية الغَلابي ، حدثنا خالد بن الحارث ، حدثنا محمد بن عجْلان ، عن نافع ، عن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو على أربعة قال : فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ [ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ] {[5655]} } قال : وهداهم الله للإسلام{[5656]} .
وقال محمد بن عَجْلان ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على رجال من المشركين يُسَمِّيهم بأسمائهم ، حتى أنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } الآية .
وقال البخاري أيضًا : حَدّثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن سَعْد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيَّب ، وأبي سلمة بن{[5657]} عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يَدْعو على أحد - أو يدعو لأحد - قَنَتَ بعد الركوع ، وربما قال - إذا قال : " سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد - : " اللَّهُمَّ انْجِ الْوَلِيد بن الوليدِ ، وسَلَمَة بْنَ هشَامٍ ، وعَيَّاشَ بْنَ أبِي رَبِيعَةَ ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَر ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسَنِيِّ يُوسُفَ " . يجهر بذلك ، وكان يقول - في بعض صلاته في صلاة الفجر - : " اللهم العن فلانا وفلانا " لأحياء من أحياء العرب ، حتى أنزل الله { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } الآية{[5658]} .
وقال البخاري : قال حُمَيْد وثابت ، عن أنس بن مالك : شُجّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحُد ، فقال : " كَيْفَ يُفْلِحُ قُوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ ؟ " . فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } وقد أسند هذا الحديث الذي عَلَّقه البخاري رحمه الله{[5659]} .
وقال البخاري : في غزوة أُحُد : حدثنا يحيى بن عَبْد الله السلمي ، حدثنا عبد الله - أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، حَدّثَني سالم بن عبد الله ، عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - إذا رفع رأسه من الركوع ، في الركعة الأخيرة من الفجر - : " اللهم العن فلانا وفلانا وَفُلانًا " بعد ما يقول : " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، ربنا ولك الحمد " . فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } [ إلى قوله : { فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } ] {[5660]} .
وعن حنظلة بن أبي سفيان قال : سمعت سالم بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوانَ بن أمَيّة ، وسُهَيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ [ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ]{[5661]} فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }{[5662]} .
هكذا ذكر هذه الزيادة البخاري معلقة مرسلة مسندة متصلة في مسند أحمد متصلة آنفا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس ، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كُسرَتْ رَبَاعيتُهُ يومَ أُحدُ ، وشُجَّ في جبهته حتى سال الدم على وجهه ، فقال : " كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ ، وهو يدعوهم إلى ربهم ، عز وجل " . فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }
انفرد به مسلم ، فرواه{[5663]} [ عن ]{[5664]} القعنبي ، عن حَمّاد ، عن ثابت ، عن أنس ، فذكره{[5665]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن مطر ، عن قتادة قال : أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكُسرت رَبَاعيته ، وفرق حاجبه ، فوقع وعليه درعان والدم يسيل ، فمر به سالم مولى أبي حذيفة ، فأجلسه ومسح عن وجهه ، فأفاق وهو يقول : " كَيْفَ بِقَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ ، وهو يدعوهم إلى اللهِ ؟ " فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ [ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ] {[5666]} } .
وكذا رواه عبدُ الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة ، بنحوه ، ولم يقل : فأفاق{[5667]} .