المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى لَّقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُ مُرِيبٖ} (14)

14- وما اختلف أتباع الرسل السابقين في الدين عداوة وحسداً فيما بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم بحقيقته في رسالتك ، ولولا وعْد سابق من الله بتأجيل العذاب إلى يوم القيامة لأهلكوا ، وإن الذين ورثوا الكتاب من أسلافهم وأدركوا عهدك لفي شك من كتابهم موقع في الريب ، حيث لم يستجيبوا لدعوتك .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى لَّقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُ مُرِيبٖ} (14)

{ 14-15 } { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }

لما أمر تعالى باجتماع المسلمين على دينهم ، ونهاهم عن التفرق ، أخبرهم

أنكم لا تغتروا بما أنزل الله عليكم من الكتاب ، فإن أهل الكتاب لم يتفرقوا حتى أنزل الله عليهم الكتاب الموجب للاجتماع ، ففعلوا ضد ما يأمر به كتابهم ، وذلك كله بغيا وعدوانا منهم ، فإنهم تباغضوا وتحاسدوا ، وحصلت بينهم المشاحنة والعداوة ، فوقع الاختلاف ، فاحذروا أيها المسلمون أن تكونوا مثلهم .

{ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ } أي : بتأخير العذاب القاضي { إلى أجل مسمى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } ولكن حكمته وحلمه ، اقتضى تأخير ذلك عنهم . { وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ } أي : الذين ورثوهم وصاروا خلفا لهم ممن ينتسب إلى العلم منهم { لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي : لفي اشتباه كثير يوقع في الاختلاف ، حيث اختلف سلفهم بغيا وعنادا ، فإن خلفهم اختلفوا شكا وارتيابا ، والجميع مشتركون في الاختلاف المذموم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى لَّقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُ مُرِيبٖ} (14)

ثم يعود إلى موقف أتباع الرسل ، الذين جاءوا قومهم بدين واحد ، فتفرق أتباعهم شيعاً وأحزابا :

( وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم - بغيا بينهم - ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب ) . .

فهم لم يتفرقوا عن جهل ؛ ولم يتفرقوا لأنهم لا يعرفون الأصل الواحد الذي يربطهم ، ويربط رسلهم ومعتقداتهم . إنما تفرقوا بعد ما جاءهم العلم . تفرقوا بغيا بينهم وحسدا وظلما للحقيقة ولأنفسهم سواء . تفرقوا تحت تأثير الأهواء الجائرة ، والشهوات الباغية . تفرقوا غير مستندين إلى سبب من العقيدة الصحيحة والمنهج القويم . ولو أخلصوا لعقيدتهم ، واتبعوا منهجهم ما تفرقوا .

ولقد كانوا يستحقون أن يأخذهم الله أخذاً عاجلا ، جزاء بغيهم وظلمهم في هذا التفرق والتفريق . ولكن كلمة سبقت من الله لحكمة أرادها ، بإمهالهم إلى أجل مسمى ( و لولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ) . . فحق الحق وبطل الباطل وانتهى الأمر في هذه الحياة الدنيا . ولكنهم مؤجلون إلى يوم الوقت المعلوم .

فأما الأجيال التي ورثت الكتاب من بعد أولئك الذين تفرقوا وفرقوا من أتباع كل نبي ، فقد تلقوا عقيدتهم وكتابهم بغير يقين جازم ؛ إذ كانت الخلافات السابقة مثارا لعدم الجزم بشيء ، وللشك والغموض والحيرة بين شتى المذاهب والاختلافات :

( وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب ) . .

وما هكذا تكون العقيدة . فالعقيدة هي الصخرة الصلبة التي يقف عليها المؤمن ، فتميد الأرض من حوله وهو ثابت راسخ القدمين فوق الصخرة الصلبة التي لا تميد . والعقيدة هي النجم الهادي الثابت على الأفق يتجه إليه المؤمن وسط الأنواء والزوابع ، فلا يضل ولا يحيد . فأما حين تصبح العقيدة ذاتها موضع شك ومثار ريبة ، فلا ثبات لشيء ولا لأمر في نفس صاحبها ، ولا قرار له على وجهة ، ولا اطمئنان إلى طريق .

ولقد جاءت العقيدة ليعرف أصحابها طريقهم ووجهتهم إلى الله ؛ ويقودوا من وراءهم من البشر في غير ما تلجلج ولا تردد ولا ضلال . فإذا هم استرابوا وشكوا فهم غير صالحين لقيادة أحد ، وهم أنفسهم حائرون .

وكذلك كان حال أتباع الرسل يوم جاء هذا الدين الجديد .

يقول الأستاذ الهندي أبو الحسن الندوي في كتابه : " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " :

" أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين ، ولعبة المحرفين والمنافقين ، حتى فقدت روحها وشكلها ، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها ، وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام ، وعسف الحكام ، وشغلت بنفسها ، لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة وأفلست في معنوياتها ، ونضب معين حياتها ، لا تملك مشرعاً صافياً من الدين السماوي ، ولا نظاماً ثابتاً من الحكم البشري "

ويقول الكاتب الأوربي " ج . ه . دنيسون " في كتابه " العواطف كأساس للحضارة " :

" ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدن على شفا جرف هارٍ من الفوضى ، لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ؛ ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها . وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى ، التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة ، مشرفة على التفكك والانحلال ؛ وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ماكانت عليه من الهمجية ، إذ القبائل تتحارب وتتناحر ، لا قانون ولا نظام . أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار ، بدلاً من الاتحاد والنظام . وكانت المدينة كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله . واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب . . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه " . . يعني محمداً - [ صلى الله عليه وسلم ] . .

ولأن أتباع الرسل تفرقوا - من بعد ما جاءهم العلم - ولأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم كانوا في شك منه مريب . . لهذا وذلك ، ولخلو مركز القيادة البشرية من قائد ثبت مستيقن يعرف طريقه إلى الله . . أرسل الله محمداً [ صلى الله عليه وسلم ] ووجه إليه الأمر أن يدعو وأن يستقيم على دعوته ، وألا يلتفت إلى الأهواء المصطرعة حوله وحول دعوته الواضحة المستقيمة ؛ وأن يعلن تجديد الإيمان بالدعوة الواحدة التي شرعها الله للنبيين أجمعين :

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى لَّقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُ مُرِيبٖ} (14)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَمَا تَفَرّقُوَاْ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى لّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنّ الّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ }

يقول تعالى ذكره : وما تفرّق المشركون بالله في أديانهم فصاروا أحزاباً ، إلا من بعد ما جاءهم العلم ، بأن الذي أمرهم الله به ، وبعث به نوحاً ، هو إقامة الدين الحقّ ، وأن لا تتفرّقوا فيه .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَما تَفَرّقُوا إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ فقال : إياكم والفرْقة فإنها هَلكة بَغْياً بَيْنَهُمْ يقول : بغياً من بعضكم على بعض وحسداً وعداوة على طلب الدنيا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ إلى أجَلٍ مُسَمّى يقول جلّ ثناؤه : ولولا قول سبق يا محمد من ربك لا يعاجلهم بالعذاب ، ولكنه أخر ذلك إلى أجل مسمى ، وذلك الأجل المسمى فيما ذُكر : يوم القيامة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكْ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : يوم القيامة .

وقوله : لقضي بينهم يقول : لفرغ ربك من الحكم بين هؤلاء المختلفين في الحقّ الذي بعث به نبيه نوحاً من بعد علمهم به ، بإهلاكه أهل الباطل منهم ، وإظهاره أهل الحق عليهم .

وقوله : وإنّ الّذِينَ أُورثُوا الكِتابَ مِنْ بَعْدَهِمْ يقول : وإن الذين أتاهم الله من بعد هؤلاء المختلفين في الحقّ كتابه التوراة والإنجيل لَفِي شَكْ مِنْهُ مُرِيبٌ يقول : لفي شكّ من الدين الذين وصّى الله به نوحاً ، وأوحاه إليك يا محمد ، وأمركما بإقامته مريب . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : وَإنّ الّذِينَ أُورثُوا الكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : وَإنّ الّذِينَ أُورِثُوا الكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ قال : اليهود والنصارى .

القول في تأويل قوله تعالى :

{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللّهُ رَبّنَا وَرَبّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }

يقول تعالى ذكره : فإلى ذلك الدين الذي شَرَع لكم ، ووصّى به نوحاً ، وأوحاه إليك يا محمد ، فادع عباد الله ، واستقم على العمل به ، ولا تَزِغ عنه ، واثبتْ عليه كما أمرك ربك بالاستقامة . وقيل : فلذلك فادع ، والمعنى : فإلى ذلك ، فوضعت اللام موضع إلى ، كما قيل : بأنّ رَبّكَ أوْحَى لَهَا . وقد بيّنا ذلك في غير موضع من كتابنا هذا .

وكان بعض أهل العربية يوجه معنى ذلك ، في قوله : فَلِذَلكَ فادْعُ إلى معنى هذا ، ويقول : معنى الكلام : فإلى هذا القرآن فادع واستقم . والذي قال من هذا القول قريب المعنى مما قلناه ، غير أن الذي قلنا في ذلك أولى بتأويل الكلام ، لأنه في سياق خبر الله جلّ ثناؤه عما شرع لكم من الدين لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإقامته ، ولم يأت من الكلام ما يدلّ على انصرافه عنه إلى غيره .

وقوله : وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَهُم يقول تعالى ذكره : ولا تتبع يا محمد أهواء الذين شكّوا في الحقّ الذي شرعه الله لكم من الذين أورثوا الكتاب من بعد القرون الماضية قبلهم ، فتشك فيه ، كالذي شكوا فيه وقُلْ آمَنْتُ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ مِنْ كِتابٍ يقول تعالى ذكره : وقل لهم يا محمد : صدّقتُ بما أنزل الله من كتاب كائناً ما كان ذلك الكتاب ، توراة كان أو أنجيلاً أو زبوراً أو صحف إبراهيم ، لا أكذّب بشيء من ذلك تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب ، وتصديقكم ببعض .

وقوله : وأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللّهُ رَبّنا وَرَبّكُمْ يقول تعالى ذكره : وقل لهم يا محمد : وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب ، فأسير فيكم جميعاً بالحقّ الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه . كالذي :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمْ قال : أمر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يعدل ، فعدل حتى مات صلوات الله وسلامه عليه . والعدل ميزان الله في الأرض ، به يأخذ للمظلوم من الظالم ، وللضعيف من الشديد ، وبالعدل يصدّق الله الصادق ، ويكذّب الكاذب ، وبالعدل يردّ المعتدي ويوبخه .

ذُكر لنا أن نبيّ الله داود عليه السلام : كان يقول : ثلاث من كنّ فيه أعجبني جداً : القصد في الفاقة والغنى ، والعدل في الرضا والغضب ، والخشية في السرّ والعلانية وثلاث من كنّ فيه أهلكته : شحّ مطاع ، وهوىً متبع ، وإعجاب المرء بنفسه . وأربع من أُعطِيَهُنّ فقد أُعطي خير الدنيا والاَخرة : لسان ذاكر ، وقلب شاكر ، وبدن صابر ، وزوجة مؤمنة .

واختلف أهل العربية في معنى اللام التي في قوله : وأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمْ فقال بعض نحويي البصرة : معناها : كي ، وأمرت كي أعدل وقال غيره : معنى الكلام : وأمرت بالعدل ، والأمر واقع على ما بعده ، وليست اللام التي في لأعدل بشرط قال : وأُمِرْتُ تقع على «أن » وعلى «كي » واللام أمرت أن أعبد ، وكي أعبد ، ولأعبد . قال : وكذلك كلّ ما طالب الاستقبال ، ففيه هذه الأوجه الثلاثة .

والصواب من القول في ذلك عندي أن الأمر عامل في معنى لأعدل ، لأن معناه : وأمرت بالعدل بينكم .

وقوله : اللّهُ رَبّنا وَرَبّكُمْ يقول : الله مالكنا ومالككم معشر الأحزاب من أهل الكتابين التوراة والإنجيل لنَا أعمالُنا ولَكُمْ أعمالُكُمْ يقول : لنا ثواب ما اكتسبناه من الأعمال ، ولكم ثواب ما اكتسبتم منها .

وقوله : لا حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ يقول : لا خصومة بيننا وبينكم . كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال حدثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لا حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ قال : لا خصومة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عزّ وجلّ : لا حُجّةَ بَيْنَا وَبَيْنَكُمْ : لا خصومة بيننا وبينكم ، وقرأ : وَلا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلاّ بالتي هِيَ أحْسَنُ . . . إلى آخر الاَية .

وقوله : اللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يقول : الله يجمع بيننا يوم القيامة ، فيقضي بيننا بالحقّ فيما اختلفنا فيه وإلَيْهِ المَصِيرُ يقول : وإليه المعاد والمرجع بعد مماتنا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى لَّقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُ مُرِيبٖ} (14)

{ وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ } .

عطف على جملة { ولا تتفرقوا فيه } [ الشورى : 13 ] وما بينهما اعتراض كما علمت ، وفي الكلام حذف يدل عليه قوله : { وما تفرقوا } تقديره : فتفرقوا . وضمير { تفرقوا } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { أن أقيموا الدّين ولا تتفرقوا } [ الشورى : 13 ] وهم أمم الرّسل المذكورين ، أي أوصيناهم بواسطة رسلهم بأن يقيموا الدّين . دلّ على تقديره ما في فعل { وصَّى } [ الشورى : 13 ] من معنى التبليغ كما تقدم .

والعلم : إدراك العقل جزماً أو ظنّاً . ومجيء العِلم إليهم يؤذن بأن رسلهم بيّنوا لهم مضارّ التفرق من عهد نوح كما حكى الله عنه في قوله : { ثم إنّي دعوتُهم جِهاراً ثم إنِيَ أعلنتُ لهم وأسررت لهم إسراراً } إلى قوله : { سُبُلاً فِجَاجاً } في سورة نوح ( 8 20 ) . وإنما تلقَّى ذلك العِلمَ علماؤهم .

ويجوز أن يكون المراد بالعلم سببَ العلم ، أي إلاّ من بعد مجيء النبي بصفاته الموافقة لما في كِتابهم فتفرقوا في اختلاق المطاعن والمعاذير الباطلة لينفوا مطابقة الصفات ، فيكون كقوله تعالى : { وما تَفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيَّنة } [ البينة : 4 ] على أحد تفسيرين .

والمعنى : وما تفرقت أممهم في أديانهم إلا من بعد ما جاءهم العلم على لسان رسلهم من النهي عن التفرق في الدّين مع بيانهم لهم مفاسد التفرق وأضراره ، أي أنهم تفرقوا عالمين بمفاسد التفرق غير معذورين بالجهل . وهذا كقوله تعالى : { وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة } [ البينة : 4 ] على التفسير الآخر .

وذُكر سبب تفرقهم بقوله : { بغياً بينهم } أي تفرّقوا لأجل العداوة بينهم ، أي بين المتفرقين ، أي لم يحافظوا على وصَايَا الرّسل . وهذا تعريض بالمشركين في إعراضهم عن دعوة الإسلام لعداوتهم للمؤمنين وقولُه : { ولولا كلمة سبقت من ربك } الخ تحذير للمؤمنين من مثل ذلك الاختلاف . وتنكير { كلمة } للتنويع لأن لكل فريق من المتفرقين في الدّين كلمة من الله في تأجيلهم فهو على حدّ قوله تعالى : { وعلى أبصارهم غشاوة } [ البقرة : 7 ] . وتنكير { أجل } أيضاً للتنويع لأن لكل أمة من المتفرقين أجلاً مسمى ، فهي آجال متفاوتة في الطّول والقصر ومختلفة بالأزمنة والأمكنة .

والمراد بالكلمة ما أراده الله من إمهالهم وتأخير مؤاخذتهم إلى أجل لهم اقتضته حكمتُه في نظام هذا العالم ، فربّما أخرهم ثم عذّبهم في الدنيا ، وربّما أخرهم إلى عذاب الآخرة ، وكل ذلك يدخل في الأجل المسمّى ، ولكل ذلك كلمته . فالكلمة هنا مستعارة للإرادة والتقدير . وسبقها تقدمها من قَبل وقت تفرقهم وذلك سبْق علم الله بها وإرادته إيّاها على وقف علمه وقدره ، وقد تقدم نظير هذه الكلمة في سورة هود وفي سورة طه .

{ وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مريب } .

عطف على جملة { وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم } إلى قوله : { لقضي بينهم } . وهذه الجملة هي المقصود من جملة { شَرع لكم من الدّين ما وصَّى به نوحاً } إلى قوله : { ولا تتفرقوا فيه } [ الشورى : 13 ] ، لأن المقصود أهل الكتاب الموجودون في زمن نزول الآية .

وإذ قد كانت من الأمم التي أوحى الله إلى رسلهم أمتَاننِ موجودتان في حين نزول هذه الآية وهما اليهود والنصارى ، وكانتا قد تفرقتا فيما جاءهم به العلم ، وكان الله قد أخّر القضاء بين المختلفين منهم إلى أجل مسمّى ، وكانوا لمَّا بلغتهم رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم شَكُّوا في انطباق الأوصاف التي وردت في الكتاب بوصف النبي الموعود به .

فالمعنى : أنه كما تفرق أسلافهم في الدّين قبل بعثة النبي الموعود به تفرق خلَفُهم مثلهم وزادوا تفرقاً في تطبيق صفات النبي الموعود به تفرقاً ناشئاً عن التردد والشك ، أي دونَ بذل الجهد في تحصيل اليقين ، فلم يزل الشك دأبهم . فالمخبر عنهم بأنهم في شك : هم الذين أُورثوا الكتاب من بعدِ سلفهم .

وقد جاء نظم الآية على أسلوب إيجاز يتحمل هذه المعاني الكثيرةَ وما يتفرع عنها ، فجيء بضمير { منه } بعد تقدُّم ألفاظ صالحة لأن تكون معادَ ذلك الضمير ، وهي لفظ { الدِّين في قوله من الدّين } [ الشورى : 13 ] ، ولفظ الذي } في قوله : { والذي أوحينا إليك } [ الشورى : 13 ] ، و { ما } الموصولةُ في قوله : { ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ] ، وهذه الثلاثة مدلولها الإسلام . وهنالك لفظ { ما وصيّنا } [ الشورى : 13 ] المتعدّي إلى موسى وعيسى ، ولفظ { الكتاب } في قوله { وإن الذين أُورثوا الكتاب } . وهذان مدلولهما كتابَا أهل الكتاب .

وهؤلاء الذين أوتوا الكتاب هم الموجودون في وقت نزول الآية . والإخبار عنهم بأنهم في شك ناشىءٍ من تلك المعادات للضمير معناه : أن مبلغ كفرهم وعنادهم لا يتجاوز حالة الشك في صدق الرّسالة المحمدية ، أي ليسوا مع ذلك بموقنين بأن الإسلام باطل ، ولكنهم تردّدوا ثم أقدموا على التكذيب به حسداً وعناداً . فمنهم من بقي حالهم في الشك . ومنهم من أيقن بأن الإسلام حق ، كما قال تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } [ البقرة : 146 ] . ويحتمل أن المعنى لفي شك بصدق القرآن أو في شك مما في كتابهم من الأمور التي تفرقوا فيها ، أو ما في كتابهم من الدّلالة على مجيء النبي الموعود به وصفاته . فهذه معان كثيرة تتحملها الآية وكلها منطبقة على أهل الكتابَيْن وبذلك يظهر أنه لا داعي إلى صرف كلمة { شك } عن حقيقتها .

ومعنى { أورثوا الكتاب } صار إليهم علم الكتاب الذي اختلف فيه سلفُهم فاستعير الإرث للخَلفِيّة في علم الكتاب .

والتعريف في { الكتاب } للجنس ليشمل كتاب اليهود وكتاب النصارى .

فضمير { من بعدهم } عائِد إلى ما عاد إليه ضمير { تفرقوا } وهم الذين خوطبوا بقوله { ولا تتفرقوا فيه } [ الشورى : 13 ] .

وظرفية قوله : { في شك } ظرفية مجازية وهي استعارة تبعية ، شُبه تمكن الشك من نفوسهم بإحاطة الظرف بالمظروف .

و ( من ) في قوله : { لفي شك منه } ابتدائية وهو ابتداء مجازي معناه المصاحبة والملابسة ، أي شك متعلق به أو في شك بسببه . ففي حرف ( من ) استعارة تبعية ، وقع حرف ( مِن ) موقع باء المصاحبة أو السببية .

وتأكيد الخبر ب { إنَّ } للاهتمام ومجرد تحقيقه للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وهذا الاهتمام كناية عن التحريض للحذر من مكرهم وعدم الركون إليهم لظهور عداوتهم لئلا يركنوا إليهم ، ولعل اليهود قد أخذوا يومئذٍ في تشكيك المسلمين واختلطوا بهم في مكّة ليتطلعوا حال الدعوة المحمدية .

هذا هو الوجه في تفسير هذه الآية وهو الذي يلتئم مع ما قبله ومع قوله بعده { ولا تتبع أهواءهم وقُل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأُمرتُ لأعدل بينكم الله رَبّنا وربّكم } [ الشورى : 15 ] الآية .

والمريب : الموجب الريب وهو الاتهام . فالمعنى : لفي شك يفضي إلى الظنة والتهمة ، أي شك مشوب بتكذيب ، ف { مريب } اسم فاعل من أراب الذي همزته للتعدية ، أي جاعل الريب ، وليست همزةَ أراب التي هي للجعل في قولهم : أرابني بمعنى أوهمني منه ريبة وهو ليس بذي ريب ، كما في قول بشار :

أخوك الذي إن رِبْتَه قال إنّما *** أرَبْتَ وإن عاتبته لان جانبه

على رواية فتح التاء من أربتَ ، وتقدم قوله { وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } في سورة هود ( 62 ) .