يقول تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } من المطاعم والمشارب ، فإنها نعم أنعم الله بها عليكم ، فاحمدوه إذ أحلها لكم ، واشكروه ولا تردوا نعمته بكفرها أو عدم قبولها ، أو اعتقاد تحريمها ، فتجمعون بذلك بين القول على الله الكذب ، وكفر النعمة ، واعتقاد الحلال الطيب حراما خبيثا ، فإن هذا من الاعتداء .
والله قد نهى عن الاعتداء فقال : { وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم على ذلك .
هذا القطاع بجملته يتناول قضية واحدة على تعدد الموضوعات التي يتعرض لها - ويدور كله حول محور واحد . . إنه يتناول قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية . . الله هو الذي يحرم ويحلل . . والله هو الذي يحظر ويبيح . . والله هو الذي ينهى ويأمر . . ثم تتساوى المسائل كلها عند هذه القاعدة . كبيرها وصغيرها . فشئون الحياة الإنسانية بجملتها يجب أن ترد إلى هذه القاعدة دون سواها .
والذي يدعي حق التشريع أو يزاوله ، فإنما يدعي حق الألوهية أو يزاوله . . وليس هذا الحق لأحد إلا لله . . وإلا فهو الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته . . والله لا يحب المعتدين . . والذي يستمد في شيء من هذا كله من عرف الناس ومقولاتهم ومصطلحاتهم ، فإنما يعدل عما أنزل الله إلى الرسول . . ويخرج بهذا العدول عن الإيمان بالله ويخرج من هذا الدين .
وتبدأ كل فقرة من فقرات هذا القطاع بنداء واحد مكرر : { يا أيها الذين آمنوا } . . { يا أيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . . } . . { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه . . } . . { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب . . } . . { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . . } . . { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . . } . . { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم . . } . .
ولهذا النداء على هذا النحو مكانه ودلالته في سياق هذا القطاع الذي يعالج قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية وقضية الإيمان ، وقضية الدين . . إنه النداء بصفة الإيمان الذي معناه ومقتضاه الاعتراف بألوهية الله وحده ، والاعتراف له سبحانه بالحاكمية . . فهو نداء التذكير والتقرير لأصل الإيمان وقاعدته ؛ بهذه المناسبة الحاضرة في السياق . ومعه الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول ؛ والتحذير من التولي والإعراض ؛ والتهديد بعقاب الله الشديد ، والإطماع في مغفرته ورحمته لمن أناب .
ثم . . بعد ذلك . . المفاصلة بين الذين آمنوا ومن يضل عن طريقهم ، ولا يتبع منهجهم هذا في ترك قضية التشريع لله في الصغيرة والكبيرة ؛ والتخلي عن الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته :
{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، إلى الله مرجعكم جميعاً ، فينبئكم بما كنتم تعملون } . .
فهم أمة واحدة لها دينها ، ولها نهجها ، ولها شرعها ، ولها مصدر هذا الشرع الذي لا تستمد من غيره . ولا على هذه الأمة - حين تبين للناس منهجها هذا ثم تفاصلهم عليه - من ضلال الناس ، ومضيهم في جاهليتهم .
هذا هو المحور العام الذي يقوم عليه القطاع بجملته . أما الموضوعات الداخلة في إطاره فقد أشرنا إليها في التقديم لهذا الجزء إشارة مجملة . والآن نواجهها تفصيلا في حدود هذا الإطار العام :
( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين . وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون . . لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان . فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ، واحفظوا أيمانكم ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) . .
يا أيها الذين آمنوا . . إن مقتضى إيمانكم ألا تزاولوا أنتم - وأنتم بشر عبيد لله - خصائص الألوهية التي يتفرد بها الله . فليس لكم أن تحرموا ما أحل الله من الطيبات ؛ وليس لكم أن تمتنعوا - على وجه التحريم - عن الأكل مما رزقكم الله حلالا طيبا . . فالله هو الذي رزقكم بهذا الحلال الطيب . والذي يملك أن يقول : هذا حرام وهذا حلال :
( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . إن الله لا يحب المعتدين . وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ؛ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون )
إن قضية التشريع بجملتها مرتبطة بقضية الألوهية . والحق الذي ترتكن إليه الألوهية في الاختصاص بتنظيم حياة البشر ، هو أن الله هو خالق هؤلاء البشر ورازقهم . فهو وحده صاحب الحق إذن في أن يحل لهم ما يشاء من رزقه وأن يحرم عليهم ما يشاء . . وهو منطق يعترف به البشر أنفسهم . فصاحب الملك هو صاحب الحق في التصرف فيه . والخارج على هذا المبدأ البديهي معتد لا شك في اعتدائه ! والذين آمنوا لا يعتدون بطبيعة الحال على الله الذي هم به مؤمنون . ولا يجتمع الاعتداء على الله والايمان به في قلب واحد على الإطلاق !
هذه هي القضية التي تعرضها هاتان الآيتان في وضوح منطقي لا يجادل فيه إلا معتد . . والله لا يحب المعتدين . . وهي قضية عامة تقرر مبدأ عاما يتعلق بحق الألوهية في رقاب العباد ؛ ويتعلق بمقتضى الإيمان بالله في سلوك المؤمنين في هذه القضية . . وتذكر بعض الروايات أن هاتين الآيتين والآية التي بعدهما - الخاصة بحكم الأيمان - قد نزلت في حادث خاص في حياة المسلمين على عهد رسول الله [ ص ] ولكن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب . وإن كان السبب يزيد المعنى وضوحا ودقة :
روى ابن جرير . . أنه [ ص ] جلس يوما فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم على التخويف . فقال ناس من أصحابه : ما حقنا إن لم نحدث عملا ، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم ! فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والورك ، وأن يأكل بالنهار ؛ وحرم بعضهم النساء . . فبلغ ذلك رسول الله [ ص ] فقال : " ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم ؟ ألا إني أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، وأنكح النساء فمن رغب عني فليس مني " ؛ فنزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . . . الخ .
وفي الصحيحين من رواية أنس - رضي الله عنه - شاهد بهذا الذي رواه ابن جرير :
قال : " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله [ ص ] يسألون عن عبادته . فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها . قالوا : أين نحن من رسول الله [ ص ] وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبدا . وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر . وقال آخر :
وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا . فجاء رسول الله [ ص ] إليهم ، فقال : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا . أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له . ولكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
وأخرج الترمذي - بإسناده - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلًا أتى النبي [ ص ] فقال : إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي ، فحرمت علي اللحم فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم . . . الآية . .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَآ أَحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه حقّ من عند الله لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أَحَلّ لَكُمْ ، يعني بالطيبات : اللذيذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب ، فتمنعوها إياها ، كالذي فعله القسيسون والرهبان ، فحرّموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة ، وحبس في الصوامع بعضُهم أنفسَهم ، وساح في الأرض بعضهم . يقول تعالى ذكره : فلا تفعلوا أيها المؤمنون كما فعل أولئك ، ولا تعتدوا حَدّ الله الذي حدّ لكم فيما أحلّ لكم وفيما حرّم عليكم ، فتجاوزوا حَدّهُ الذي حَدّه ، فتخالفوا بذلك طاعته ، فإن الله لا يحبّ من اعتدى حدّه الذي حدّه لخلقه فيما أحلّ لهم وحرّم عليهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عبثر أبو زبيد ، قال : حدثنا حصين ، عن أبي مالك في هذه الآية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ . . . الآية " ، قال : عثمان بن مظعون وأناس من المسلمين حرّموا عليهم النساء ، وامتنعوا من الطعام الطيّب ، وأراد بعضهم أن يقطع ذَكَره ، فنزلت هذه الآية .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : ثني خالد الحذاء ، عن عكرمة ، قال : كان أناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء ، فنزلت هذه الآية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ " .
حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة : أن رجالاً أرادوا كذا وكذا ، وأرادوا كذا وكذا ، وأن يختصوا ، فنزلت : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ " إلى قوله : " الّذِي أنْتُمْ بِهِ مُؤمِنُونَ " .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ " قال : كانوا حرّموا الطيب واللحم ، فأنزل الله تعالى هذا فيهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، قال : حدثنا خالد ، عن عكرمة : أن أناسا قالوا : لا نتزوّج ، ولا نأكل ، ولا نفعل كذا وكذا . فأنزل الله تعالى : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ " .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن أبي قِلابة قال : أراد أناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة ، ثم قال : «إنما هَلكَ مَنْ كَان قَبْلَكُمْ بالتّشْدِيدِ ، شَدّدُوا على أنْفُسِهِمْ فَشَدّدَ الله عَلَيْهِمْ ، فأولئك بَقَايَاهُمْ في الدّيار والصّوَامِع ، اعْبُدُوا الله ولا تُشْرِكُوا به شيئا ، وحجّوا واعْتَمِرُوا ، واسْتَقِيمُوا يُستقَمْ لَكُمْ » . قال : ونزلت فيهم : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ . . . " الآية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ " قال : نزلت في أناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أرادوا أن يتخلوا من اللباس ويتركوا النساء ويتزهدوا ، منهم عليّ بن أبي طالب وعثمان بن مظعون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن زياد بن فياض ، عن أبي عبد الرحمن ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لا آمُرُكُمْ أنْ تَكُونُوا قِسّيسينَ وَرُهْبانا » .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا جامع بن حماد ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ . . . " الاية . ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم رفضوا النساء واللحم وأرادوا أن يتخذوا الصوامع ، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «ليس في ديني تَرْكُ النّساءِ واللّحْم ، ولا اتّخَاذُ الصّوَامِعِ » . وخُبّرنا أن ثلاثة نفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا ، فقال أحدهم : أما أنا فأقوم الليل لا أنام ، وقال أحدهم : أما أنا فأصوم النهار فلا أفطر ، وقال الاخر : أما أنا فلا آتي النساء . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فقال : «ألَمْ أُنَبّأْ أنّكُمُ اتّفَقْتُمْ على كَذَا ؟ » قالوا : بلى يا رسول الله ، وما أردنا إلا الخير . قال : «لكِنّي أقُومُ وأنامُ وأصُومُ وأُفْطِرُ وآتِي النّساءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنّتِي فَلَيْسَ مِنّي » . وكان في بعض القراءة : «من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضلّ عن سواء السبيل » . وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال لأناس من أصحابه : «إنّ مَن قبلكم شدّدوا على انْفُسِهِمْ فَشدّدَ الله عَلَيْهِمْ ، فهَؤُلاء إخْوَانُهُم في الدّور والصّوَامِعِ ، اعْبُدُوا الله ولا تُشْرِكُوا به شَيْئا ، وأقِيمُوا الصّلاةَ ، وآتُوا الزّكاة ، وصُومُوا رَمَضَانَ ، وحُجّوا واعْتَمِرُوا ، واسْتَقِيمُوا يُسْتَقَم لكم » .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما ، فذكّر الناس ، ثم قام ولم يزدهم على التخويف ، فقال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة ، منهم عليّ بن أبي طالب ، وعثمان بن مظعون : ما حقنا إن لم نحدث عملاً ، فإن النصارى قد حرّموا على أنفسهم ، فنحن نحرّم . فحرّم بعضهم أكل اللحم والوَدَك وأن يأكل بالنهار ، وحرّم بعضهم النوم ، وحرّم بعضهم النساء ، فكان عثمان بن مظعون ممن حرّم النساء ، وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه ، فأتت امرأته عائشة وكان يقال لها : الحولاء ، فقالت لها عائشة ومَن عندها من نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما بالك يا حولاء متغيرة اللون ، لا تمتشطين ولا تطيبين ؟ فقالت : وكيف أتطيب وأمتشط وما وقع عليّ زوجي ولا رفع عني ثوبا منذ كذا وكذا ، فجعلن يضحكن من كلامها ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن ، فقال : «ما يُضْحِكُكُنّ ؟ » قالت : يا رسول الله ، الحولاء سألتها عن أمرها ، فقالت : ما رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا . فأرسل إليه فدعاه ، فقال : «ما بَالُكَ يا عُثْمانُ ؟ » قال : إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة . وقصّ عليه أمره ، وكان عثمان قد أراد أن يَجُبّ نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أقْسَمْتُ عَلَيْكَ إلاّ رَجَعْتَ فَوَاقَعْتَ أهْلَكَ » فقال : يا رسول الله إني صائم . قال : «أفْطِرْ » فأفْطَر وأتى أهله . فرجعت الحَوْلاء إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت وتطيبت ، فضحكت عائشة فقالت : ما بالك يا حولاء ؟ فقالت : إنه أتاها أمس . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما بالُ أقْوَامٍ حَرّمُوا النّساءَ وَالطّعامَ والنّوْمَ ؟ ألا إنّي أنامُ وأقُومُ وأفْطِرُ وأُصُومُ وأنْكِحُ النّساءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنّتِي فَلَيْسَ مِنّي » . فنزلت : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا " ، يقول لعثمان : لا تجبّ نفسك ، فإن هذا هو الاعتداء . وأمرهم أن يكفّروا أيمانهم ، فقال : " لا يؤاخذكمُ اللّهُ باللّغوِ فِي أيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيمَانَ . "
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ " قال : هم رهط من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان . فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليهم ، فذكر ذلك لهم ، فقالوا : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَكِنّي أصُومُ وأفْطُرِ وأُصَلّي وأنامُ وأنْكِحُ النّساءَ ، فَمَنْ أخَذَ بِسُنّتِي فَهُوَ مِنّي ، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِسُنّتِي فَلَيْسَ مِنّي » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ " ، وذلك أن رجالاً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم منهم عثمان بن مظعون حرّموا النّساءَ وَاللّحْمَ على أنْفُسِهِمْ ، وأخذوا الشفار ليقطعوا مذاكيرهم لكي تنقطع الشهوة ويتفرّغوا لعبادة ربهم . فأُخبر بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ما أرَدْتُمْ ؟ » فقالوا : أردنا أن نقطع الشهوة عنا ونتفرّغ لعبادة ربنا ونلهو عن النساء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمْ أُومَرُ بِذَلِكَ ، وَلَكِنّي أُمِرْتُ فِي دِينِي أنْ أتَزَوّجَ النّساءَ » . فقالوا : نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتِدينَ . . . " إلى قوله : " الّذِي أنُتمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ " .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخْصوا أنفسهم ، ويلبسوا المسوح ، فنزلت هذه الآية إلى قوله : " واتّقُوا الله الّذِي أنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ " . قال ابن جريج عن عكرمة : إن عثمان بن مظعون ، وعليّ بن أبي طالب ، وابن مسعود ، والمقداد بن الأسود ، وسالما مولى أبي حذيفة في أصحاب تبتّلوا ، فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرّموا طيبات الطعام واللباس ، إلا ما أكل ولبس أهل السياحة من بني إسرائيل ، وهمّوا بالاختصاء ، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار ، فنزلت : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ " ، يقول : لا تستَنّوا بغير سنة المسلمين ، يريد ما حرّموا من النساء والطعام واللباس ، وما أجمعوا له من صيام النهار وقيام الليل ، وما همّوا له من الإخصاء . فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «إنّ لأِنْفُسِكُمْ حَقّا ، وَإنّ لأعيُنِكُمْ حَقّا ، صُومُوا وأفْطِرُوا وَصَلّوا وَنامُوا فَلَيْسَ مِنّا مَنْ تَرَكَ سُنّتَنا » . فقالوا : اللهمّ أسلَمْنا واتبعنا ما أنزلت .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد في قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ " قال : قال أبي : ضاف عبدَ الله بن رواحة ضيفٌ ، فانقلب ابن رواحة ولم يتعشّ ، فقال لأهله : ما عشيتِه ؟ فقالت : كان الطعام قليلاً فانتظرت أن تأتي . قال : فحبستِ ضيفي من أجلي ؟ فطعامك عليّ حرام إن ذقته فقالت : هي وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذقه ، وقال الضيف : هو عليّ حرام إن لم تذوقوه ، فلما رأى ذلك ، قال ابن رواحة : قرّبي طعامك ، كلوا بسم الله وغدا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قَدْ أحْسَنْتَ » فنزلت هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ . . . " ، وقرأ حتى بلغ : " لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغُوِ فِي أيمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيمَانَ ، إذا قلت : والله لا أذوقه ، فذلك العقد .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس : أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي ، فحرّمت اللحم . فأنزل الله تعالى ذكره : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ " .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا خالد الحذّاء ، عن عكرمة ، قال : همّ أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك النساء والخصاء ، فأنزل الله تعالى : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ . . . " الاية .
واختلفوا في معنى الاعتداء الذي قال تعالى ذكره : " وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ " فقال بعضهم : الاعتداء الذي نهي الله عنه في هذا الموضع هو ما كان عثمان بن مظعون همّ به من جبّ نفسه ، فنهى عن ذلك ، وقيل له : هذا هو الاعتداء . وممن قال ذلك السديّ .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عنه به .
وقال آخرون : بل ذلك هو ما كان الجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم همّوا به من تحريم النساء والطعام واللباس والنوم ، فُنهوا أن يفعلوا ذلك وأن يستَنّوا بغير سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم . وممن قال ذلك عكرمة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عنه به .
وقال بعضهم : بل ذلك نهي من الله تعالى ذكره أن يتجاوز الحلال إلى الحرام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن عاصم ، عن الحسن : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا قال : لا تعتدوا إلى ما حرّم عليكم .
وقد بيّنا أن معنى الاعتداء : تجاوز المرء ماله إلى ما ليس له في كلّ شيء ، فيما مضى بما أغنى عن إعادته . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان الله تعالى ذكره قد عمّ بقوله : لا تَعْتَدُوا النهي عن العدوان كله ، كان الواجب أن يكون محكوما لما عمه بالعموم حتى يخصه ما يجب التسليم له . وليس لأحد أن يتعدّى حدّ الله تعالى في شي من الأشياء مما أحلّ أو حرّم ، فمن تعدّاه فهو داخل في جملة من قال تعالى ذكره : إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ . وغير مستحيل أن تكون الاية نزلت في أمر عثمان بن مظعون والرهط الذين همّوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما همّوا به من تحريم بعض ما أحلّ الله لهم على أنفسهم ، ويكون مرادا بحكمها كلّ من كان في مثل معناهم ، ممن حرّم على نفسه ما أحلّ الله له أو أحلّ ما حرّم الله عليه أو تجاوز حدّا حدّه الله له ، وذلك أن الذين همّوا بما همّوا به من تحريم بعض ما أحلّ لهم على أنفسهم ، إنما عوتبوا على ما همّوا به من تجاوزهم ما سنّ لهم وحدّ إلى غَيرِه .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الآية قال أبو مالك وعكرمة وإبراهيم النخعي وأبو قلابة وقتادة والسدي وعبد الله بن عباس رضي الله عنه وغيرهم : إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلغت منهم المواعظ وخوف الله إلى أن حرم بعُضهم النساء ، وبعُضهم النوم بالليل والطيب ، وهمَّ بعضهم بالاختصاء وكان منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون ، قال عكرمة : ومنهم ابن مسعود والمقداد وسالم مولى أبي حذيفة ، وقال قتادة رفضوا النساء واللحم وأرادوا أن يتخذوا الصوامع ، وقال ابن عباس أخذوا الشفار{[4668]} ليقطعوا مذاكرهم ، وطول السدي في قصة الحولاء امرأة عثمان بن مظعون مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وإخبارها بأنه لم يلم بها ، فلما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحالهم قال : «أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء وأنال الطيب ، فمن رغب عن سنتي فليس مني »{[4669]} قال الطبري : وكان فيما يتلى من رغب عن سنتك فليس من أمتك ، وقد ضل سواء السبيل ، وقال ابن زيد : سبب هذه الآية أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف فانقلب ابن رواحة وضيفه لم يتعشَّ فقال لزوجه ما عشيته ؟ قالت : كان الطعام قليلاً فانتظرتك ، فقال : حبست ضيفي من أجلي ، طعامك علي حرام إن ذقته فقالت هي : وهو علي حرام إن ذقته إن لم تذقه ، وقال الضيف وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذوقوه ، فلما رأى ذلك ابن رواحة قال : قربي طعامك كلوا باسم الله فأكلوا جميعاً . ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له رسول الله أحسنت ونزلت هذه الآية{[4670]} .
وأسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم فأنزل الله هذه الآية{[4671]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : و«الطيبات » في هذه الآية المسستلذات بدليل إضافتها إلى ما أحل وبقرينة ما ذكر من سبب الآية ، واختلف المتأولون في معنى قوله { ولا تعتدوا } فقال السدي وعكرمة وغيرهما . وهو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله وشرع ما لم يأذن به ، فقوله { ولا تعتدوا } تأكيد لقوله { لا تحرموا } وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى ولا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله ، فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين فكأنه قال : لا تشددوا فتحرموا حلالاً ، ولا تترخصوا فتحلوا حراماً ، وقد تقدم القول في معنى لا يحب المعتدين غير مرة .
استئناف ابتدائي خطاب للمؤمنين بأحكام تشريعية ، وتكملة على صورة التفريع جاءت لمناسبة ما تقدّم من الثناء على القسّيسين والرهبان . وإذ قد كان من سنّتهم المبالغة في الزهد وأحدثوا رهبانية من الانقطاع عن التزوّج وعن أكل اللحوم وكثير من الطيّبات كالتدهُّن وترفيه الحالة وحُسن اللباس ، نبّه الله المؤمنين على أنّ الثناء على الرهبان والقسّيسين بما لهم من الفضائل لا يقتضي اطّراد الثناء على جميع أحوالهم الرهبانيّة . وصادف أن كانَ بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طمَحت نفوسهم إلى التقلّل من التعلّق بلذائذ العيش اقتداء بصاحبهم سيِّد الزاهدين صلى الله عليه وسلم روى الطبري والواحدي أنّ نفَراً تنافسوا في الزهد . فقال أحدُهم : أمّا أنا فأقوم الليل لا أنام ، وقال الآخر : أمَّا أنا فأصوم النهار ، وقال آخر : أمّا أنا فلا آتي النساء ، فبلغ خبرُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليهم ، فقال : " ألَمْ أنَبَّأ أنَّكم قلتم كذا . قالوا : بَلَى يا رسول الله ، وما أرَدْنا إلاّ الخَيْر ، قال : لَكِنِّي أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي " فنزلت هذه الآية . ومعنى هذا في « صحيحي البخاري ومسلم » عن أنس بن مالك وليس فيه أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية .
ورُوي أنّ ناساً منهم ، وهم : أبو بكر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وابن عُمر ، وأبو ذرّ ، وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقدادُ بن الأسود ، وسلْمان الفارسي ، ومعقل بن مُقَرّن اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن يرفُضوا أشغال الدنيا ، ويتركوا النساء ويترهّبوا . فقام رسول الله فغلّظ فيهم المقالة ، ثم قال : " إنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شَدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع " فنزلت فيهم هذه الآية . . وهذا الخبر يقتضي أنّ هذا الاجتماع كان في أول مدّة الهجرة لأنّ عثمان بن مظعون لم يكن له دار بالمدينة وأسكنه النبي صلى الله عليه وسلم في دار أمّ العلاء الأنصارية التي قيل : إنّها زوجة زيد بن ثابت ، وتوفّي عثمان بن مظعون سنة اثنتين من الهجرة . وفي رواية : أنّ ناساً قالوا إنّ النصارى قد حرّموا على أنفسهم فنحن نحرّم على أنفسنا بعض الطيّبات فحرّم بعضهم على نفسه أكل اللحم ، وبعضهم النوم ، وبعضهم النساء ؛ وأنّهم ألزموا أنفسهم بذلك بأيمان حلفوها على ترك ما التزموا تركه . فنزلت هذه الآية .
وهذه الأخبار متظافرة على وقوع انصراف بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المبالغة في الزهد واردة في الصحيح ، مثل حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي . قال : قال لي رسول الله : " ألم أخْبَر أنّك تقوم الليل وتصوم النهارَ ، قلت : إنّي أفعلُ ذلك . قال : فإنّك إذا فعلتَ هجَمت عينُك ونَفِهَتْ نَفْسك . وإنّ لنفسك عليك حقاً ولأهلِك عليك حقّاً ، فصم وأفطر وقُم ونَم " .
وحديث سلمان مع أبي الدرداء أنّ سلمان زار أبا الدرداء فصنع أبو الدرداء طعاماً فقال لسلمان : كُلْ فإنّي صائم ، فلمّا كانَ الليلُ ذهب أبو الدرداء يقوم ، فقال : نم ، فنام ، ثم ذهب يقوم فقال : نم ، فنام . فلمّا كان آخر اللّيل قال سلمان : قم الآن ، وقال سلمان : إنّ لربّك عليك حقّاً ولنفسك عليك حقّاً ولأهلك عليك حقّاً فأعط كلّ ذي حقّ حقّه . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقال النبي عليه الصلاة والسلام : « صدقَ سلمانُ » . وفي الحديث الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أمّا أنا فأقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوّج النساء فمن رغب عن سُنّتي فليس منّي " .
والنهي إنّما هو عن تحريم ذلك على النفس . أمّا ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام ولقصد التربية للنفس على التصبّر على الحِرمان عند عدم الوجدان ، فلا بأس به بمقدار الحاجة إليه في رياضة النفس . وكذلك الإعراض عن كثير من الطّيبات للتطلّع على ما هو أعلى من عبادة أو شغل بعمل نافع وهو أعلى الزهد ، وقد كان ذلك سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصّة من أصحابه ، وهي حالة تناسب مرتبته ولا تتناسب مع بعض مراتب الناس ، فالتطلّع إليها تعسير ، وهو مع ذلك كان يتناول الطيّبات دون تشوّف ولا تطلّع . وفي تناولها شكر لله تعالى ، كما ورد في قصّة أبي الدحداح حين حَلّ رسولُ الله وأبُو بكر وعمرُ في حائطه وأطعمهم وسقاهم . وعن الحسن البصري : أنّه دُعي إلى طعام ومعه فَرقد السَبَخي{[223]} وأصحابه فجلسوا على مائدة فيها ألوان من الطعام دجاج مسمَّن وفالَوْذ فاعتزل فرقد نَاحِية . فسأله الحسن : أصائم أنت ، قال : لا ولكنّي أكره الألوان لأنّي لا أؤدّي شكره ، فقال له : الحسن : أفتشرب الماءَ البارد ، قال : نعم ، قال : إنّ نعمةَ الله في الماءِ البارد أكثر من نعمته في الفَالَوْذ .
وليس المراد من النهي أن يلفظ بلفظ التحريم خاصّة بل أن يتركه تشديداً على نفسه سواء لفظ بالتحريم أم لم يلفظ به . ومن أجل هذا النهي اعتبر هذا التحريم لغواً في الإسلام فليس يلزم صاحبه في جميع الأشياء التي لم يجعل الإسلام للتحريم سبيلاً إليها وهي كلّ حال عدا تحريم الزوجة . ولذلك قال مالك فيمن حرّم على نفسه شيئاً من الحلال أو عمّم فقال : الحلال عليّ حرام ، أنّه لا شيء عليه في شيء من الحلال إلاّ الزوجة فإنّها تحرم عليه كالبتَات ما لم ينو إخراج الزوجة قبل النطق بصيغة التحريم أو يخرجها بلفظ الاستثناء بعد النطق بصيغة التحريم ، على حكم الاستثناء في اليمين .
ووجهه أنّ عقد العصمة يتطرّق إليه التحريم شرعاً في بعض الأحوال ، فكان التزام التحريم لازماً فيها خاصّة ، فإنّه لو حرّم الزوجة وحدها حرمت ، فكذلك إذا شملها لفظ عامّ . ووافقه الشافعي . وقال أبو حنيفة : من حرّم على نفسه شيئاً من الحلال حَرم عليه تناوُله ما لم يكَفّر كفارة يمين ، فإنْ كفَّر حلّ له إلاّ الزوجة . وذهب مسروق وأبو سلمة إلى عدم لزوم التحريم في الزوجة وغيرها .
وفي قوله تعالى : { لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } تنبيه لفقهاء الأمّة على الاحتراز في القول بتحريم شيء لم يقم الدليل على تحريمه ، أو كان دليله غير بالغ قوة دليل النهي الوارد في هذه الآية .
ثم إنّ أهل الجاهلية كانوا قد حرّموا أشياء على أنفسهم كما تضمنته سورة الأنعام ، وقد أبطلها الله بقوله : { قل من حرّم زينة الله التي أخرج لِعباده والطيّبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] ، وقوله : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله افتراء على الله } [ الأنعام : 140 ] ، وقوله : { قُل الذّكَرَيْنِ حَرّم أم الأنثيين } إلى قوله { فمن أظلم ممّن افترى على الله كذباً ليُضلّ النّاس بغير علم } [ الأنعام : 143 ، 144 ] ، وغير ذلك من الآيات . وقد كان كثير من العرب قد دخلوا في الإسلام بعد فتح مكّة دفعة واحدة كما وصفهم الله بقوله : { يدخلون في دين الله أفواجاً } [ النصر : 2 ] . وكان قصر الزمان واتّساع المكان حائلين دون رسوخ شرائع الإسلام فيما بينهم ، فكانوا في حاجة إلى الانتهاء عن أمور كثيرة فاشية فيهم في مدّة نزول هذه السورة ، وهي أيام حجّة الوداع وما تقدّمها وما تأخّر عنها .
وجملة { ولا تعتدوا } معترضة ، لمناسبة أنّ تحريم الطّيبات اعتداء على ما شرع الله ، فالواو اعتراضية . وبما في هذا النهي من العموم كانت الجملة تذييلاً .
والاعتداء افتعال العدوْ ، أي الظلم . وذِكره في مقابلة تحريم الطيّبات يدلّ على أنّ المراد النهي عن تجاوز حدّ الإذنِ المشروع ، كما قال { تلك حدود الله فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] . فلمّا نهى عن تحريم الحلال أردفه بالنهي عن استحلال المحرّمات وذلك بالاعتداء على حقوق النّاس ، وهو أشدّ الاعتداء ، أو على حقوق الله تعالى في أمره ونهيه دون حقّ الناس ، كتناول الخنزير أو الميتة . ويعمّ الاعتداءُ في سياق النهي جميع جنسه ممّا كانت عليه الجاهلية من العدوان ، وأعظمه الاعتداء على الضعفاء كالوأْد ، وأكللِ مال اليتيم ، وعضل الأيامَى ، وغير ذلك .
وجملة { إنّ الله لا يحبّ المعتدين } تذييل للّتي قبلها للتحذير من كلّ اعتداء .