{ وَقَالُوا } في تلك الحال : { آمَنَّا } بالله وصدقنا ما به كذبنا { و } لكن { أَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ } أي : تناول الإيمان { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } قد حيل بينهم وبينه ، وصار من الأمور المحالة في هذه الحالة ، فلو أنهم آمنوا وقت الإمكان ، لكان إيمانهم مقبولا ، ولكنهم { كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوَاْ آمَنّا بِهِ وَأَنّىَ لَهُمُ التّنَاوُشُ مِن مّكَانِ بَعِيدٍ } .
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون حين عاينوا عذاب الله آمنا به ، يعني : آمنا بالله وبكتابه ورسوله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَقالُوا آمَنّا بِهِ قالوا : آمنا بالله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قالُوا آمَنّا بِهِ عند ذلك ، يعني : حين عاينوا عذاب الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقالُوا آمَنّا بِهِ بعد القتل وقوله وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ يقول : ومن أيّ وجه لهم التناوش .
واختلفت قرّاء الأمصار في ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة التّناوُشُ بغير همز ، بمعنى : التناول وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة : «التّناؤُشُ » بالهمز ، بمعنى : التنؤّش ، وهو الإبطاء ، يقال منه : تناءشت الشيء : أخذته من بعيد ، ونشته : أخذته من قريب ومن التنؤّش قول الشاعر :
تَمَنّى نَئِيشا أنْ يكُونَ أطاعَنِي *** وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأمُورِ أمُورُ
فَهْيَ تَنُوشُ الحَوْضَ نَوْشا مِنْ عَلا *** نَوْشا بِهِ تَقْطَعُ أجْوَازَ الفَلا
ويقال للقوم في الحرب ، إذا دنا بعضهم إلى بعض بالرماح ولم يتلاقوا : قد تناوش القوم .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان في قرّاء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، وذلك أن معنى ذلك : وقالوا آمنا بالله ، في حين لا ينفعهم قيل ذلك ، فقال الله وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ أي وأين لهم التوبة والرجعة : أي قد بعدت عنهم ، فصاروا منها كموضع بعيد أن يتناولوها وإنما وصفت ذلك الموضع بالبعيد ، لأنهم قالوا ذلك في القيامة ، فقال الله : أني لهم بالتوبة المقبولة ، والتوبة المقبولة إنما كانت في الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا فصارت بعيدا من الاَخرة ، فبأية القراءتين اللتين ذكرت قرأ القارىء فمصيب الصواب في ذلك .
وقد يجوز أن يكون الذين قرؤوا ذلك بالهمز همزوا ، وهم يريدون معنى من لم يهمز ، ولكنهم همزوه لانضمام الواو فقلبوها ، كما قيل : وَإذَا الرّسُلُ أُقّتَتْ فجعلت الواو من وُقتت ، إذا كانت مضمومة همزوه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله : وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال : يسألون الردّ ، وليس بحين ردّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس نحوه .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ يقول : فكيف لهم بالردّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال : الردّ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال : التناول مِنْ مَكانٍ بَعيد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقالُوا آمَنّا بِهِ وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال : هؤلاء قتلى أهل بدر من قتل منهم ، وقرأ : وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَد فَوْتَ وأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ وَقالُوا آمَنّا بِهِ . . . الاَية ، قال : التناوش : التناول ، وأنّى لهم تناول التوبة من مكان بعيد ، وقد تركوها في الدنيا ، قال : وهذا بعد الموت في الاَخرة .
قال : وقال ابن زيد في قوله وَقالُوا آمَنّا بِهِ بعد القتل وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعيدٍ وقرأ : وَلا الّذِينَ يَمُوتونَ وَهُمْ كُفّارٌ قال : ليس لهم توبة ، وقال : عرض الله عليهم أن يتوبوا مرّة واحدة ، فيقبلها الله منهم ، فأبوا ، أو يعرضون التوبة بعد الموت ، قال : فهم يعرضونها في الاَخرة خمس عرضات ، فيأبى الله أن يقبلها منهم قال : والتائب عند الموت ليست له توبة وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا على النّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا . . . الاَية ، وقرأ : رَبّنا أبْصَرْنا وَسمعْنا فارْجِعْنا نَعْمَلْ صَالِحا إنّا مُوقِنُونَ .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان ، عن جُويبر ، عن الضحاك ، في قوله : وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال : وأنى لهم الرجعة .
وقوله : مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يقول : من آخرتهم إلى الدنيا ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ من الاَخرة إلى الدنيا .
الضمير في { به } عائد على الله تعالى ، وقيل على محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه والقرآن ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وعامة القراء «التناوُش » بضم الواو دون همز ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم أيضاً «التناؤش » بالهمز ، والأولى معناها التناول من قولهم ناش ينوش إذا تناول وتناوش القوم في الحرب إذا تناول بعضهم بعضاً بالسلاح ، ومنه قول الراجز : [ الرجز ]
فهي تنوش الحوض نوشاً من علا . . . نوشاً به تقطع أجواز الفلا{[9678]}
فكأنه قال وأنى لهم تناول مرادهم وقد بعدوا عن مكان إمكان ذلك ، وأما التناؤش بالهمز فيحتمل أن يكون من التناؤش الذي تقدم تفسيره وهمزت الواو لما كانت مضمونة وكانت ضمتها لازمة ، كما قالوا أقتت وغير ذلك{[9679]} ، ويحتمل أن يكون من الطلب ، تقول " تناءشت الشيء " {[9680]} إذا طلبته من بعد ، وقال ابن عباس تناؤش الشيء رجوعه حكاه عنه ابن الأنباري وأنشد : [ الوافر ]
تمنى أن تؤوب إليك ميّ . . . وليس إلى تناوشها سبيل{[9681]}