94- الاحتراس من قتل المؤمن واجب في حال الغزو ، فإذا سافرتم مجاهدين في سبيل اللَّه - تعالى - فتعرفوا شأن الذين تقاتلونهم قبل القتال ، أهم أسلموا أو لا يزالون على الشرك ؟ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام وشارة الأمن لست مؤمناً ، تريدون بذلك الأموال والغنائم ، بل اقبلوا منهم السلام ، فإن اللَّه أعدَّ لكم مغانم كثيرة . وأنتم - أيها المؤمنون - كنتم على الكفر قبل ذلك وهداكم اللَّه ، فتبينوا أمر الذين تلقونهم . وأن الله عليم علماً دقيقاً لا يخفى عليه شيء ، وأنه محاسبكم بمقتضى علمه .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا }
يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة . فإن الأمور قسمان : واضحة وغير واضحة . فالواضحة البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين ، لأن ذلك تحصيل حاصل . وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين ، ليعرف هل يقدم عليها أم لا ؟
فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة ، والكف لشرور عظيمة ، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته ، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها{[224]} قبل أن يتبين له حكمها ، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي ، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لمَّا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم ، وكان معه غنيمة له أو مال غيره ، ظنًّا أنه يستكفي بذلك قتلَهم ، وكان هذا خطأ في نفس الأمر ، فلهذا عاتبهم بقوله : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } أي : فلا يحملنكم العرض الفاني القليل على ارتكاب ما لا ينبغي فيفوتكم ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي ، فما عند الله خير وأبقى .
وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له فيها هوى وهي مضرة له ، أن يُذَكِّرها ما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها ، وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه ، فإن في ذلك ترغيبًا للنفس في امتثال أمر الله ، وإن شق ذلك عليها .
ثم قال تعالى مذكرًا لهم بحالهم الأولى ، قبل هدايتهم إلى الإسلام : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي : فكما هداكم بعد ضلالكم فكذلك يهدي غيركم ، وكما أن الهداية حصلت لكم شيئًا فشيئًا ، فكذلك غيركم . فنظر الكامل لحاله الأولى الناقصة ، ومعاملته لمن كان على مثلها بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى ، ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة - من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه ، ولهذا أعاد الأمر بالتبين فقال : { فَتَبَيَّنُوا }
فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل الله ، ومجاهدة أعداء الله ، وقد استعد بأنواع الاستعداد للإيقاع بهم ، مأمورًا بالتبين لمن ألقى إليه السلام ، وكانت القرينة قوية في أنه إنما سلم تعوذا من القتل وخوفا على نفسه - فإن ذلك يدل على الأمر بالتبين والتثبت في كل الأحوال التي يقع فيها نوع اشتباه ، فيتثبت فيها العبد ، حتى يتضح له الأمر ويتبين الرشد والصواب .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } فيجازي كُلًّا ما عمله ونواه ، بحسب ما علمه من أحوال عباده ونياتهم .
واحتراسا من وقوع القتل ولو كان خطأ ؛ وتطهيرا لقلوب المجاهدين حتى ما يكون فيها شيء إلا لله ، وفي سبيل الله . . يأمر الله المسلمين إذا خرجوا غزاة ، ألا يبدأوا بقتال أحد أو قتله حتى يتبينوا ؛ وأن يكتفوا بظاهر الإسلام في كلمة اللسان [ إذ لا دليل هنا يناقض كلمة اللسان ] .
( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ؛ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا . تبتغون عرض الحياة الدنيا . فعند الله مغانم كثيرة . كذلك كنتم من قبل ، فمن الله عليكم . فتبينوا . إن الله كان بما تعملون خبيرًا ) . .
وقد وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآية : خلاصتها أن سرية من سرايا المسلمين لقيت رجلا معه غنم له . فقال السلام عليكم . يعني أنه مسلم . فاعتبر بعضهم أنها كلمة يقولها لينجو بها ، فقتله .
ومن ثم نزلت الآية ، تحرج على مثل هذا التصرف ؛ وتنفض عن قلوب المؤمنين كل شائبة من طمع في الغنيمة ؛ أو تسرع في الحكم . . وكلاهما يكرهه الإسلام .
إن عرض الحياة الدنيا لا يجوز أن يدخل للمسلمين في حساب ؛ إذا خرجوا يجاهدون في سبيل الله . إنه ليس الدافع إلى الجهاد ولا الباعث عليه . . وكذلك التسرع بإهدار دم قبل التبين . وقد يكون دم مسلم عزيز ، لا يجوز أن يراق .
والله سبحانه يذكر الذين آمنوا بجاهليتهم القريبة وما كان فيها من تسرع ورعونة ؛ وما كان فيها من طمع في الغنيمة . ويمن عليهم أن طهر نفوسهم ورفع أهدافهم ، فلم يعودوا يغزون ابتغاء عرض الحياة الدنيا كما كانوا في جاهليتهم . ويمن عليهم أن شرع لهم حدودا وجعل لهم نظاما ؛ فلا تكون الهيجة الأولى هي الحكم الآخر . كما كانوا في جاهليتهم كذلك . . وقد يتضمن النص إشارة إلى أنهم هم كذلك كانوا يخفون إسلامهم - على قومهم - من الضعف والخوف ، فلا يظهرونه إلا عند الأمن مع المسلمين ، وأن ذلك الرجل القتيل كان يخفي إسلامه على قومه ، فلما لقي المسلمين أظهر لهم إسلامه وأقرأهم سلام المسلمين .
كذلك كنتم من قبل . فمن الله عليكم . فتبينوا . إن الله كان بما تعملون خبيرًا .
وهكذا يلمس المنهج القرآني القلوب لتحيا وتتحرج وتتذكر نعمة الله . . وعلى هذه الحساسية والتقوى ، يقيم الشرائع والأحكام ؛ بعد بيانها وإيضاحها .
وهكذا يتناول هذا الدرس تلك الجوانب من قواعد المعاملات الدولية بمثل هذا الوضوح ، ومثل هذه النظافة . منذ أربعة عشر قرنا . .
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىَ إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَعِنْدَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُواْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا } : يا أيها الذين صدّقوا الله صدّقوا رسوله ، فيما جاءهم به من عند ربهم¹ { إذا ضَرَبْتُمْ فِي سبِيل اللّهِ } يقول : إذا سرتم مسيرا لله في جهاد أعدائكم { فَتَبَيّنُوا } يقول : فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره ، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره ، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره ، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينا حربا لكم ولله ولرسوله . { وَتَقُولُوا لَمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ } يقول : ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم ، مظهرا لكم أنه من أهل ملتكم ودعوتكم ، { لَسْتَ مُؤْمِنا } فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا ، يقول : طلب متاع الحياة الدنيا ، فإن عند الله مغانم كثيرة من رزقه وفواضل نعمه ، فهي خير لكم إن أطعتم الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فأثابكم بها على طاعتكم إياه ، فالتمسوا ذلك من عنده { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } يقول : كما كان هذا الذي ألقى إليكم السلام فقلت له لست مؤمنا فقتلتموه ، كذلك أنتم من قبل ، يعني : من قبل إعزاز الله دينه بأتباعه وأنصاره ، تستخفون بدينكم كما استخفى هذا الذي قتلتموه ، وأخذتم ماله بدينه من قومه أن يظهره لهم حذرا على نفسه منهم .
وقد قيل : إن معنى قوله : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } كنتم كفارا مثلهم . { فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } يقول : فتفضل الله عليكم باعزاز دينه بأنصاره وكثرة تباعه . وقد قيل : فمنّ الله عليكم بالتوبة من قتلكم هذا الذي قتلتموه ، وأخذتم ماله بعد ما ألقى إليكم السلام . { فَتَبَيّنُوا } يقول : فلا تعجلوا بقتل من أردتم قتله ممن التبس عليكم أمر إسلامه ، فلعلّ ألله أن يكون قد منّ عليه من الإسلام بمثل الذي منّ به عليكم ، وهداه لمثل الذي هداكم له من الإيمان . { إنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا } يقول : إن الله كان بقتلكم من تقتلون وكفكم عمن تكفون عن قتله من أعداء الله وأعدائكم وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم { خَبِيرا } يعني : ذا خبرة وعلم به ، يحفظه عليكم وعليهم ، حتى يجازي جيمعكم به يوم القيامة جزاء المحسن بإحسانه والمسيء باساءته .
وذكر أن هذه الاَية نزلت في سبيل قتيل قتلته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما قال : إني مسلم ، أو بعد ما شهد شهادة الحقّ ، أو بعد ما سلم عليهم ، لغنيمة كانت معه أو غير ذلك من ملكه ، فأخذوه منه . ذكر الرواية والاَثار بذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن محمد بن إسحاق ، عن نافع ، أن ابن عمر ، قال : بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثا ، فلقيهم عامر بن الأضبط ، فحياهم بتحية الإسلام ، وكانت بينهم إحنة في الجاهلية ، فرماه محلم بسهم فقتله . فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتكلم فيه عيينة والأقرع ، فقال الأقرع : يا رسول الله سُنّ اليوم وغيّر غدا ! فقال عيينة : لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي ! فجاء محلم في بردين ، فجلس بين يدي رسول الله ليستغفر له ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لا غَفَرَ اللّهُ لَكَ »فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه ، فما مضت به سابعة حتى مات ودفنوه ، فلفظته الأرض . فجاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكروا ذلك له ، فقال : «إنّ الأرْضَ تَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌ مِنْ صَاحِبِكُمْ ، وَلَكِنّ اللّهَ جَلّ وَعَزّ أرَادَ أنْ يَعِظَكُمْ » . ثم طرحوه بين صَدَفَيْ جبل ، وألقوا عليه من الحجارة ، ونزلت : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل اللّهِ فَتَبَيّنُوا } . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد ، قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم ، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي . فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم ، مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قَعُود له معه مُتَيّع له ووَطْب من لبن . فلما مرّ بنا سلم علينا بتحية الإسلام ، فأمسكنا عنه ، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيء كان وبينه وبينه ، فقتله وأخذ بعيره ومتيّعه ، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر ، نزل فينا القرآن : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَلا تَقُولُوا لَمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا } . . . الاَية .
حدثني هارون بن إدريس الأصمّ ، قال : حدثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي حدرد الأسلمي ، عن أبيه بنحوه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : لحق ناس من المسلمين رجلاً في غُنَيْمة له ، فقال : السلام عليكم ! فقتلوه وأخذوا تلك الغنيمة ، فنزلت هذه الاَية : { وَلا تَقولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَض الحَياةِ الدّنْيا } تلك الغُنيْمة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثني سعيد بن الربيع ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو سمع عطاء ، عن ابن عباس ، قال : لحق المسلمون رجلاً ، ثم ذكر مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غنم له ، فسلم عليهم ، فقالوا : ما سلم عليكم إلا ليتعوّذ منكم ! فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيّنُوا } . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كان الرجل يتكلم بالإسلام ويؤمن بالله والرسول ، ويكون في قومه ، فإذا جاءت سرّية محمد صلى الله عليه وسلم أخبر بها حيه يعني قومه ففرّوا ، وأقام الرجل لا يخاف المؤمنين من أجل أنه على دينهم حتى يلقاهم ، فيلقى إليهم السلام ، فيقول المؤمنون : لست مؤمنا ! وقد ألقى السلام ، فيقتلونه ، فقال الله جلّ وعزّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل اللّهِ فَتَبَيّنُوا } . . . . إلى : { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنْيا } يعني : تقتلونه إرادة أن يحلّ لكم ماله الذي وجدتم معه ، وذلك عرض الحياة الدنيا ، فإن عندي مغانم كثيرة ، فالتمسوا من فضل الله . وهو رجل اسمه مرداس جلا قومه هاربين من خيل بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها رجل من بني ليث اسمه قليب ، ولم يجامعهم إذا لقيهم مرداس ، فسلم عليهم فقتلوه ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله بديته وردّ إليهم ماله ونهى المؤمنين عن مثل ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا } . . . الاَية ، قال : هذا الحديث في شأن مرداس رجل من غطفان¹ ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا عليهم غالب الليثي إلى أهل فدك ، وبه ناس من غطفان وكان مرداس منهم ، ففرّ أصحابه ، فقال مرداس : إني مؤمن وإني غير متبعكم ! فصّبحته الخيل غدوة ، فلما لقوه سلم عليهم مرداس ، فتلقوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه ، وأخذوا ما كان معه من متاع ، فأنزل الله جلّ وعزّ في شأنه : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا } لأن تحية المسلمين السلام ، بها يتعارفون ، وبها يحيى بعضهم بعضا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياةِ الدّنْيا } . . . الاَية . قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها أسامة ابن زيد إلى بني ضمرة ، فلقوا رجلاً منهم يُدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر ، فلما رآهم أوى إلى كهف جبل ، واتبعه أسامة ، فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه ، ثم أقبل إليهم فقال : السلام عليكم ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ! فشدّ عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته . وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة أحبّ أن يثني عليه خيرا ، ويسأل عنه أصحابه ، فلما رجعوا لم يسألهم عنه ، فجعل القوم يحدّثون النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون : يا رسول الله لو رأيت أسامة ولقيه رجل فقال الرجل : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فشدّ عليه فقتله ! وهو معرض عنهم . فلما أكثروا عليه ، رفع رأسه إلى أسامة فقال : «كَيْفَ أنْتَ وَلا إلَهَ إلاّ اللّهُ » ؟ قال : يا رسول الله إنما قالها متعوّذا ، تعوّذ بها . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَلا شقَقَتْ عَنْ قَلْبِهِ فَنَظَرْتَ إلَيْهِ ؟ » قال : يا رسول الله إنما قلبه بَضْعَة من جسده . فأنزل الله عزّ وجلّ خبر هذا ، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه ، فذلك حين يقول : { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنيْا } فلما بلغ : { فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } يقول : فتاب الله عليكم ، فحلف أسامة أن لا يقاتل رجلاً يقول لا إله إلا الله ، بعد ذلك الرجل وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ إلَيْكُمُ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا } قال : بلغني أن رجلاً من المسلمين أغار على رجل من المشركين ، فحمل عليه ، فقال له المشرك : إني مسلم ، أشهد أن لا إله إلا الله ! فقتله المسلم بعد أن قالها ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال للذي قتله : «أَقَتَلْتَهُ وَقَدْ قَالَ لا إله إلا الله ؟ » فقال وهو يعتذر : يا نبيّ الله إنما قالها متعوّذا وليس كذلك . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فَهَلاّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ؟ » ثم مات قاتل الرجل فقبر ، فلفظته الأرض ، فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يقبروه ، ثم لفظته الأرض ، حتى فعل به ذلك ثلاث مرّات ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ الأرْضَ أبَتْ أنْ تَقْبَلَهُ فَألْقوهُ فِي غارٍ مِنَ الغِيرَانِ » . قال معمر : وقال بعضهم : إن الأرض تقبل من هو شرّ منه ، ولكن الله جعله لكم عبرة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق : أن قوما من المسلمين لقوا رجلاً من المشركين في غُنَيْمة له ، فقال : السلام عليكم إني مؤمن ! فظنوا أنه يتعوّذ بذلك ، فقتلوه ، وأخذوا غنيمته . قال : فأنزل الله جلّ وعزّ : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنيْا } تلك الغنيمة¹ { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُوا } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا } قال : خرج المقداد بن الأسود في سرية بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فمرّوا برجل في غُنَيمة له ، فقال : أني مسلم ! فقتله المقداد . فلما قدموا ذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الاَية : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنْيا } قال : الغنيمة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : نزل ذلك في رجل قتله أبو الدرداء فذكر من قصة أبي الدرداء نحو القصة التي ذكرت عن أسامة بن زيد ، وقد ذكرت في تأويل قوله : { وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً } ، ثم قال في الخبر : ونزل الفرقان : { وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً } فقرأ حتى بلغ : { لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَض الحَياةِ الدّنيْا } غنمه التي كانت عرض الحياة الدنيا ، { فَعِنْدَ اللّهَ مَغانِمُ كَثِيرةٌ } خير من تلك الغنم ، إلى قوله : { إنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا } .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا } قال : راعي غنم ، لقيه نفر من المؤمنين ، فقتلوه وأخذوا ما معه ، ولم يقبلوا منه : «السلام عليكم ، فإني مؤمن » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا } قال : حرّم الله على المؤمنين أن يقولوا لمن شهد أن لا إله إلا الله لست مؤمنا ، كما حرّم عليهم الميتة ، فهو آمن على ماله ودمه ، ولا تردّوا عليه قوله .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { فَتَبَيّنُوا } فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين وبعض الكوفيين والبصريين : { فَتَبَيّنُوا } بالباء والنون من التبين ، بمعنى : التأني والنظر والكشف عنه حتى يتضح . وقرأ ذلك عظم قرّاء الكوفيين : «فَتَثَبّتُوا » بمعنى التثبت الذي هو خلاف العجلة . والقول عندنا في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة المسلمين بمعنى واحد وإن اختلفت بهما الألفاظ ، لأن المتثبت متبين ، والمتبين متثبت ، فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب صواب القراءة في ذلك .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { ولا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُم السّلام } فقرأ ذلك عامة قرّاء المكيين والمدنيين والكوفيين «السّلَمَ » بغير ألف ، بمعنى الاستسلام ، وقرأه بعض الكوفيين والبصريين : { السّلامَ } بألف ، بمعنى التحية .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : «لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السّلَمَ » بمعنى : من استسلم لكم مذعنا لله بالتوحيد مقرّا لكم بملتكم . وإنما اخترنا ذلك لاختلاف الرواية في ذلك ، فمن راوٍ روى أنه استسلم بأن شهد شهادة الحقّ وقال : إني مسلم¹ ومن راو روى أنه قال : السلام عليكم ، فحياهم تحية الإسلام ، ومن راو روى أنه كان مسلما بإسلام قد تقدم منه قبل قتلهم إياه . وكل هذه المعاني يجمعها السلم ، لأن المسلم مستسلم ، والمحّيي بتحية الإسلام مستسلم ، والمتشهد شهادة الحقّ مستسلم لأهل الإسلام ، فمعنى السّلم جامع جميع المعاني التي رويت في أمر المقتول الذي نزلت في شأنه هذه الاَية ، وليس كذلك في السلام ، لأن السلام لا وجه له في هذا الموضع إلا التحية ، فلذلك وصفنا السّلم بالصواب .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } فقال بعضهم : معناه : كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلام مستخفيا في قومه بدينه خوفا على نفسه منهم ، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرا على أنفسكم منهم ، فمنّ الله عليكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن سعيد بن جبير في قوله : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير : { كَذِلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } تكتمون إيمانكم في المشركين .
وقال آخرون : معنى ذلك : كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلم كافرا كنتم كفارا ، فهداه كما هداكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } كفارا مثله ، { فَتَبَيّنُوا } .
وأولى هذين القولين بتأويل الاَية القول الأوّل ، وهو قول من قال : كذلك كنتم تخفون إيمانكم في قومكم من المشركين وأنتم مقيمين بين أظهرهم ، كما كان هذا الذي قتلتموه مقيما بين أظهر قومه من المشركين ، مستخفيا بدينه منهم .
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب ، لأن الله عزّ ذكره إنما عاتب الذين قتلوه من أهل الإيمان بعد إلقائه إليهم السلام ، ولم يقد به قاتلوه للبس الذي كان دخل في أمره على قاتليه بمقامه بين أظهر قومه من المشركين ، وظنهم أنه ألقى السلام إلى المؤمنين تعوّذا منهم ، ولم يعاتبهم على قتلهم إياه مشركا ، فيقال : كما كان كافرا كنتم كفارا¹ بل لا وجه لذلك ، لأن الله جلّ ثناؤه لم يعاتب أحدا من خلقه على قتل محارب لله ولرسوله من أهل الشرك بعد إذنه له بقتله .
واختلف أيضا أهل التأويل في تأويل قوله : { فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } فقال بعضهم : معنى ذلك : فمنّ الله عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله ، حتى أظهروا الإسلام بعد ما كانوا يكتمونه من أهل الشرك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير : { فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } فأظهر الإسلام .
وقال آخرون : معنى ذلك : فمنّ الله عليكم أيها القاتلون الذي ألقى إليكم السلام طلب عرض الحياة الدنيا بالتوبة من قتلكم إياه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } يقول : تاب الله عليكم .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب التأويل الذي ذكرته عن سعيد بن جبير ، لما ذكرنا من الدلالة على أن معنى قوله : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } ما وصفنا قبل ، فالواجب أن يكون عقيب ذلك : { فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } فرفع ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم عنكم بإظهار دينه وإعزاز أهله ، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به ، من توحيده وعبادته ، حذرا من أهل الشرك .
تقول العرب : ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره مقترنة ب «في » ، وتقول : ضربت الأرض دون «في » إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان ، ومنه قول - النبي عليه السلام : «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك »{[4212]} وسبب هذه الآية : أن سرية من سرايا رسول الله لقيت رجلاً له جمل ومتيع ، وقيل غنيمة ، فسلم على القوم ، وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فحمل عليه أحدهم فقتله ، فشق ذلك على رسول الله ونزلت الآية فيه{[4213]} .
واختلف المفسرون في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة ، فالذي عليه الأكثر - وهو في سيرة ابن إسحاق وفي مصنف أبي داود وغيرهما : أن القاتل محلم بن جثامة والمقتول عامر بن الأضبط ، والحديث بكماله في المصنف لأبي دواد{[4214]} ، وفي السير وفي الاستيعاب{[4215]} ، وقالت فرقة : القاتل أسامة بن زيد ، والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني{[4216]} ، وقالت فرقة : القاتل أبو قتادة{[4217]} ، وقالت فرقة : القاتل غالب الليثي ، والمقتول مرداس{[4218]} ، وقالت فرقة : القاتل هو أبو الدرداء ، ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم بن جثامة .
وقرأ جمهور السبعة { فتبينوا } وقرأ حمزة والكسائي «فتثبتوا » بالثاء مثلثة في الموضعين وفي الحجرات ، وقال قوم : «تبينوا » أبلغ وأشد من «تثبتوا » ، لأن المتثبت قد لا يتبين ، وقال أبو عبيد : هما متقاربان .
قال القاضي أبو محمد : والصحيح ما قال أبو عبيد ، لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان له ، بل يقتضي محاولة اليقين ، كما أن ثبت تقتضي محاولة اليقين ، فهما سواء ، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وابن كثير في بعض طرقه ، «السَّلَم » بتشديد السين وفتحه وفتح اللام ، ومعناه : الاستسلام أي ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم ، وقرأ بقية السبعة «السلام » يريد سلم ذلك المقتول على السرية ، لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده ، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك ، قال الأخفش : يقال : فلان سلام إذا كان لا يخالط أحداً ، وروي في بعض طرق عاصم «السِّلْم » بكسر السين وسكون اللام وهو الصحيح ، والمعنى المراد بهذه الثلاثة يتقارب ، وقرأ الجحدري «السَّلْم » بفتح السين وسكون اللام ، والعرض : هو المتيع والجمل ، أو الغنيمة التي كانت للرجل المقتول ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو حمزة واليماني «لست مؤمَناً » بفتح الميم ، أي لسنا نؤمنك في نفسك ، وقوله تعالى : { فعند الله مغانم كثيرة } عدة بما يأتي به الله على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور أي فلا تتهافتوا .
واختلف المتأولون في قوله تعالى : { كذلك كنتم من قبل } فقال سعيد بن جبير : معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم ، خائفين منهم على أنفسكم ، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم ، وإظهار شريعتكم ، فهم الآن كذلك ، كل واحد منهم خائف من قومه ، متربص أن يصل إليكم فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره ، وقال ابن زيد : كذلك كنتم كفرة فمنّ الله عليكم بأن أسلمتم ، فلا تنكروا أن يكون هو كافراً ثم يسلم لحينه حين لقيكم ، فيجب أن يتثبت في أمره ، ويحتمل أن يكون المعنى إشارة بذلك إلى القتل قبل التثبت ، أي على هذه الحال كنتم في جاهليتكم لا تتثبتون ، حتى جاء الله بالإسلام ومنّ عليكم ، ثم أكد تبارك وتعالى الوصية بالتبين ، وأعلم أنه خبير بما يعمله العباد ، وذلك منه خبر يتضمن تحذيراً منه تعالى ، لأن المعنى { إن الله بما تعملون خبيراً } ، فاحفظوا نفوسكم ، وجنبوا الزلل الموبق بكم .