{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } أي : مائدة فيها طعام ، وهذا ليس منهم عن شك في قدرة الله ، واستطاعته على ذلك . وإنما ذلك من باب العرض والأدب منهم .
ولما كان سؤال آيات الاقتراح منافيا للانقياد للحق ، وكان هذا الكلام الصادر من الحواريين ربما أوهم ذلك ، وعظهم عيسى عليه السلام فقال : { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فإن المؤمن يحمله ما معه من الإيمان على ملازمة التقوى ، وأن ينقاد لأمر الله ، ولا يطلب من آيات الاقتراح التي لا يدري ما يكون بعدها شيئا .
ويستطرد السياق في معرض النعم على عيسى بن مريم وأمه ، إلى شيء من نعمة الله على قومه ، ومن معجزاته التي أيده الله بها وشهدها بها الحواريون :
( إذ قال الحواريون : يا عيسى ابن مريم ، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ قال : اتقوا الله إن كنتم مؤمنين . قالوا : نريد أن نأكل منها ، وتطمئن قلوبنا ، ونعلم أن قد صدقتنا ، ونكون عليها من الشاهدين . قال عيسى ابن مريم : اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ، وآية منك ، وارزقنا وأنت خير الرازقين . قال الله : إني منزلها عليكم ، فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) . .
ويكشف لنا هذا الحوار عن طبيعة قوم عيسى . . المستخلصين منهم وهم الحواريون . . فإذا بينهم وبين أصحاب رسولنا [ ص ] فرق بعيد . .
إنهم الحواريون الذين ألهمهم الله الإيمان به وبرسوله عيسى . فآمنوا . وأشهدوا عيسى على إسلامهم . . ومع هذا فهم بعدما رأوا من معجزات عيسى ما رأوا ، يطلبون خارقة جديدة . تطمئن بها نفوسهم . ويعلمون منها أنه صدقهم . ويشهدون بها له لمن وراءهم .
فأما أصحاب محمد [ ص ] فلم يطلبوا منه خارقة واحدة بعد إسلامهم . . لقد آمنت قلوبهم واطمأنت منذ أن خالطتها بشاشة الإيمان . ولقد صدقوا رسولهم فلم يعودوا يطلبون على صدقه بعد ذلك البرهان . ولقد شهدوا له بلا معجزة إلا هذا القرآن . .
هذا هو الفارق الكبير بين حواريي عيسى عليه السلام - وحواريي محمد [ ص ] ذلك مستوى ، وهذا مستوى . . وهؤلاء مسلمون وأولئك مسلمون . . وهؤلاء مقبولون عند الله وهؤلاء مقبولون . . ولكن تبقي المستويات متباعدة كما أرادها الله . .
وقصة المائدة - كما أوردها القرآن الكريم - لم ترد في كتب النصارى . ولم تذكر في هذه الأناجيل التي كتبت متأخرة بعد عيسى - عليه السلام - بفترة طويلة ، لا يؤمن معها على الحقيقة التي تنزلت من عند الله . وهذه الأناجيل ليست إلا رواية بعض القديسين عن قصة عيسى - عليه السلام - وليست هي ما أنزله الله عليه وسماه الإنجيل الذي آتاه . .
ولكن ورد في هذه الأناجيل خبر عن المائدة في صورة أخرى : فورد في إنجيل متى في نهاية الإصحاح الخامس عشر : " وأما يسوع فدعا تلاميذه ، وقال : إني أشفق على الجميع ، لأن لهم الآن ثلاثة أيام يمشون معي ، وليس لهم ما يأكلون . ولست أريد أن أصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق . فقال له تلاميذه : من أين لنا في البرية خبز بهذا المقدار حتى يشبع جمعا هذا عدده ؟ فقال لهم يسوع : كم عندكم من الخبز ؟ فقالوا : سبعة وقليل من صغار السمك . فأمر الجموع أن يتكئوا على الأرض ؛ وأخذ السبع خبزات والسمك ، وشكر وكسر ، وأعطى تلاميذه ، والتلاميذ أعطوا الجمع ، فأكل الجمع وشبعوا ، ثم رفعوا ما فضل من الكسر سبعة سلال مملوءة ، والآكلون كانوا أربعة الآف ، ما عدا النساء والأولاد " . . . وورد مثل هذه الرواية في سائر الأناجيل . .
وبعض التابعين - رضوان الله عليهم - كمجاهد والحسن - يريان أن المائدة لم تنزل . لأن الحواريين حينما سمعوا قول الله سبحانه : ( إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) . .
قال ابن كثير في التفسير : " روى الليث بن أبى سليم عن مجاهد قال : " هو مثل ضربة الله ولم ينزل شيء " [ رواه ابن أبى حاتم وابن جرير ] . ثم قال ابن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا القاسم - هو ابن سلام - حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال : مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا ، فأبوا أن تنزل عليهم . . وقال أيضا ؛ حدثنا أبو المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن ، أنه قال في المائدة : إنها لم تنزل . . وحدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول : لما قيل لهم : ( فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدًا من العالمين ) قالوا : لا حاجة لنا فيها ، فلم تنزل " .
ولكن أكثر آراء السلف على أنها نزلت . لأن الله تعالى قال : ( إني منزلها عليكم ) . ووعد الله حق . وما أورده القرآن الكريم عن المائدة هو الذي نعتمده في أمرها دون سواه . .
إن الله - سبحانه - يذكر عيسى بن مريم - في مواجهة قومه يوم الحشر وعلى مشهد من العالمين - بفضله عليه :
( إذ قال الحواريون : يا عيسى ابن مريم ، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ . . )
لقد كان الحواريون - وهم تلاميذ المسيح وأقرب أصحابه إليه وأعرفهم به - يعرفون أنه بشر . . ابن مريم . . وينادونه بما يعرفونه عنه حق المعرفة . وكانوا يعرفون أنه ليس ربا وإنما هو عبد مربوب لله . وأنه ليس ابن الله ، إنما هو ابن مريم ومن عبيدالله ؛ وكانوا يعرفون كذلك أن ربه هو الذي يصنع تلك المعجزات الخوارق على يديه ، وليس هو الذي يصنعها من عند نفسه بقدرته الخاصة . . لذلك حين طلبوا إليه ، أن تنزل عليهم مائدة من السماء ، لم يطلبوها منه ، فهم يعرفون أنه بذاته لا يقدر على هذه الخارقة . وإنما سألوه :
( يا عيسى ابن مريم ، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ ) . .
واختلفت التأويلات في قولهم : ( هل يستطيع ربك ) . . كيف سألوا بهذه الصيغة بعد إيمانهم بالله وإشهاد عيسى - عليه السلام - على إسلامهم له . وقيل : إن معنى يستطيع ليس [ يقدر ] ولكن المقصود هو لازم الاستطاعة وهو أن ينزلها عليهم . وقيل : إن معناها : هل يستجيب لك إذا طلبت . وقرئت : " هل تستطيع ربك " . بمعنى هل تملك أنت أن تدعو ربك لينزل علينا مائدة من السماء . .
وعلى أية حال فقد رد عليهم عيسى - عليه السلام - محذرا إياهم من طلب هذه الخارقة . . لأن المؤمنين لا يطلبون الخوارق ، ولا يقترحون على الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيّونَ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مّنَ السّمَآءِ قَالَ اتّقُواْ اللّهَ إِن كُنْتُم مّؤْمِنِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : واذكر يا عيسى أيضا نعمتي عليك ، إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ، إذ قالوا لعيسى ابن مريم : " هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ " ف «إذ » الثانية من صلة «أوحيت » .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : " يَسْتَطِيعُ رَبّكَ " فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين : «هَلْ تَسْتَطِييِعُ » بالتاء «رَبّكَ » بالنصب ، بمعنى : هل تستطيع أن تسأل ربك ، وهل تستطيع أن تدعو ربك أو هل تستطيع وترى أن تدعوه ؟ وقالوا : لم يكن الحواريون شاكّين أن الله تعالى ذكره قادر أن ينزل عليهم ذلك ، وإنما قالوا لعيسى : هل تستطيع أنت ذلك ؟
حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، قال : قالت عائشة : كان الحواريون لا يشكّون أن الله قادر أن ينزل عليهم مائدة ، ولكن قالوا : يا عيسى ، هل تستطيع ربّك ؟
حدثني أحمد بن يوسف الثعلبي ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن جابر بن يزيد بن رفاعة ، عن حيان بن مخارق ، عن سعيد بن جبير أنه قرأها كذلك : «هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبّكَ » وقال : تستطيع أن تسأل ربك ؟ وقال : ألا ترى أنهم مؤمنون ؟
وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والعراق : هَلْ يَسْتَطِيعُ بالياء رَبّكَ بمعنى : أن ينزّل علينا ربّك ، كما يقول الرجل لصاحبه : أتستطيع أن تنهض معنا في كذا ؟ وهو يعلم أنه يستطيع ، ولكنه إنما يريد : أتنهض معنا فيه ؟ وقد يجوز أن يكون مراد قارئه كذلك : هل يستجيب لك ربك ويطيعك أن تنزّل علينا ؟
وأولى القراءتين عندي بالصواب قراءة من قرأ ذلك : هَلْ يَسْتَطِيعُ بالياء رَبّكَ برفع الربّ ، بمعنى : هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه ؟
وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب لما بينا قبل من أن قوله : " إذْ قالَ الحَوَارِيّونَ " من صلة «إذ أوحيت » ، وأن معنى الكلام : وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي إذْ قالَ الحَوَارِيّونَ يا عيِسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ . فبين إذ كان ذلك كذلك ، أن الله تعالى ذكره قد كره منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه ، وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قيلهم ذلك ، والإقرار لله بالقدرة على كلّ شيء ، وتصديق رسوله فيما أخبرهم عن ربهم من الأخبار . وقد قال عيسى لهم عند قيلهم ذلك له استعظاما منه لما قالوا : " اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " ففي استتابة الله إياهم ، ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم عند قيلهم ما قالوا من ذلك ، واستعظام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كلمتهم ، الدلالة الكافية من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع الربّ إذ كان لا معنى في قولهم لعيسى لو كانوا قالوا له : هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزّل علينا مائدة من السماء ؟ أن تستكبر هذا الاستكبار .
فإن ظنّ ظانّ أن قولهم ذلك له إنما هو استعظام منهم ، لأن ذلك منهم كان مسألة آية ، فإن الاية إنما يسألها الأنبياء من كان بها مكذّبا ، ليتقرّر عنده حقيقة ثبوتها وصحة أمرها ، كما كانت مسألة قريش نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يحوّل لهم الصفا ذهبا ويفجّر فجاج مكة أنهارا من سأله من مشركي قومه ، وكما كانت مسألة صالح الناقة من مكذّبي قومه ، ومسألة شعيب أن يسقط كِسْفا من السماء من كفار من أرسل إليهم . وكان الذين سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينزّل عليهم مائدة من السماء ، على هذا الوجه كانت مسألتهم ، فقد أحلهم الذين قرأوا ذلك بالتاء ونصب الربّ محلاّ أعظم من المحلّ الذي ظنوا أنهم نزّهوا ربهم عنه ، أو يكونوا سألوا ذلك عيسى وهم موقنون بأنه لله نبيّ مبعوث ورسول مرسل ، وأن الله تعالى على ما سألوا من ذلك قادر . فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك ، وإنما كانت مسألتهم إياه ذلك على نحو ما يسأل أحدهم نبيه ، إذا كان فقيرا أن يسأل له ربه أن يغنيه ، وإن عرضت به حاجة أن يسأل له ربه أن يقضيها ، فأنّى ذلك من مسألة الاية في شيء ؟ بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه ، فسأل نبيه مسألة ربه أن يقضيها له . وخبر الله تعالى عن القوم ينبئ بخلاف ذلك ، وذلك أنهم قالوا لعيسى ، إذ قال لهم : " اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أنْ نَأكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أنْ قَدْ صَدَقْتَنا " . فقد أنبأ هذا من قيلهم أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدقهم ، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوّته ، فلا بيان أبين من هذا الكلام في أن القوم كانوا قد خالطوا قلوبهم مرض وشكّ في دينهم وتصديق رسولهم ، وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختبارا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ليث ، عن عقيل ، عن ابن عباس ، أنه كان يحدّث عن عيسى صلى الله عليه وسلم أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ، ثم تسألوه فيعطيَكم ما سألتم ؟ فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا : يا معلم الخير ، قلت لنا : إن أجر العامل على من عمل له ، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا حين نفرغ طعاما " فَهَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ " قال عيسى " اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قالُوا نُرِيدُ أنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمِئَنّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكونَ عَلَيْها مِنَ الشّاهِدِينَ . . . إلى قوله : لا أعَذّبُهُ أحَدا مِنَ العَالِميَن " قال : فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة ، حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أوّلهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ " قالوا : هل يطيعك ربك إن سألته ؟ فأنزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطعام إلا اللحم فأكلوا منها .
وأما المائدة فإنها الفاعلة ، من ماد فلان القوم يَمِيدُهم مَيْدا : إذا أطعمهم ومارهم ومنه قول رؤبة :
نُهْدِي رُءُوسَ المُتْرَفِينَ الأنْدادْ ***إلى أمِيرِ المُؤْمِنِينَ المُمْتادْ
يعني بقوله : الممتاد : المُسْتَعْطَى ، فالمائدة المطعِمة سميت «الخِوانَ » بذلك ، لأنها تطعم الآكل مما عليها . والمائد : المدارُ به في البحر ، يقال : ماد يَمِيدُ مَيْدا .
وأما قوله : " قالَ اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " فإنه يعني : قال عيسى للحواريين القائلين له : " هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ " : راقبوا الله أيها القوم ، وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا ، فإن الله لا يعجزه شيء أراده ، وفي شككم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء كفر به ، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته إن كنتم مؤمنين يقول : إن كنتم مصدقيّ على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم : " هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ " .
{ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم } منصوب بالذكر ، أو ظرف لقالوا فيكون تنبيها على أن ادعاءهم الإخلاص مع قولهم . { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة . وقيل هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما تقتضيه القدرة . وقيل المعنى هل يطيع ربك أي هل يجيبك ، واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب وأجاب . وقرأ الكسائي " تستطيع ربك " أي سؤال ربك ، والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف . والمائدة الخوان إذا كان عليه الطعام ، من مادة الماء يميد إذا تحرك ، أو من مادة إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليه ونظيرها قولهم شجرة مطعمة . { قال اتقوا الله } من أمثال هذا السؤال . { إن كنتم مؤمنين } بكمال قدرته وصحة نبوته ، أو صدقتم في ادعائكم الإيمان .
وقوله تعالى : { إذ قال الحواريون } . . الآية اعتراض أثناء وصف حال قول الله لعيسى يوم القيامة ، مضمن الاعتراض إخبار محمد عليه السلام وأمته بنازلة الحواريين في المائدة . إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها يقتدى بمحاسنه ويزدجر عم ينقد منه من طلب الآيات ونحوه ، وقرأ جمهور الناس «هل يستطيع ربُّك » بالياء ورفع الباء من ربك . وهي قراءة السبعة حاشا الكسائي ، وهذا ليس لأنهم شكوا في قدرة الله على هذا الأمر ، لكنه بمعنى : هل يفعل تعالى هذا وهل تقع منه إجابة إليه ؟ وهذا كما قال لعبد الله بن زيد هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ فالمعنى هل يخف عليك وهل تفعله ؟ أما أن في اللفظة بشاعة بسببها قال عيسى { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } وبسببها مال فريق من الصحابة وغيرهم إلى غير هذه القراءة فقرأ علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير «هل تستطيع ربَّك » بالتاء ونصب الباء من ربك . المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك ؟ قالت عائشة رضي الله عنها : كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا هل يستطيع ربك{[4795]} .
قال القاضي ابو محمد : نزهتهم عائشة عن بشاعة اللفظ وإلا فليس يلزمهم منه جهل بالله تعالى على ما قد تبين آنفاً . وبمثل هذه القراءة قرأ الكسائي وزاد أنه أدغم اللام في التاء . قال أبو علي : وذلك حسن ، و { أن } في قوله { أن ينزل } على هذه القراءة متعلقة بالمصدر المحذوف الذي هو سؤال . و { أن } مفعول به إذ هو في حكم المذكور في اللفظ وإن كان محذوفاً منه إذ لا يتم المعنى إلا به .
قال القاضي أبو محمد : وقد يمكن أن يستغنى عن تقدير سؤال على أن يكون المعنى هل يستطيع أن يكون المعنى هل يستطيع أن ينزل ربك بدعائك أو بأثرتك عنده ونحوه هذا ، فيردك المعنى ولا بد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ ، و «المائدة » فاعلة من ماد إذا تحرك ، هذا قول الزجّاج أو من ماد إذا ماد وأطعم كما قال رؤبة :
تهدى رؤوس المترفين الأنداد *** إلى أمير المؤمنين الممتاد{[4796]}
أي الذي يستطعم ويمتاد منه ، وقول عيسى عليه السلام { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } تقرير لهم كما تقول افعل كذا وكذا إن كنت رجلاً ، ولا خلاف أحفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين ، وهذا هو ظاهر الآية ، وقال قوم قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويظهر من قوله عليه السلام { اتقوا الله } إنكار لقولهم ذلك ، وذلك على قراءة من قرأ «يستطيع » بالياء من أسفل متوجه على أمرين : أحدهما : بشاعة اللفظ ، والآخر إنكار طلب الآيات والتعرض إلى سخط الله بها والنبوات ليست مبنية على أن تتعنت ، وأما على القراءة الأخرى فلم ينكر عليهم إلا الاقتراح وقلة طمأنينتهم إلى ما قد ظهر من آياته .