5- ولقد زيَّنا السماء القريبة التي تراها العيون بكواكب مضيئة ، وجعلناها مصادر شهب ، يُرْجَم بها الشياطين ، وأعددنا لهم في الآخرة عذاب النار الموقدة{[223]} .
ثم صرح بذكر حسنها فقال : { 5 - 10 } { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }
أي : ولقد جملنا { السَّمَاءَ الدُّنْيَا } التي ترونها وتليكم ، { بِمَصَابِيحَ } وهي : النجوم ، على اختلافها في النور والضياء ، فإنه لولا ما فيها من النجوم ، لكانت سقفًا مظلمًا ، لا حسن فيه ولا جمال .
ولكن جعل الله هذه النجوم زينة للسماء ، [ وجمالا ] ، ونورًا وهداية يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، ولا ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا بمصابيح ، أن يكون كثير من النجوم فوق السماوات السبع ، فإن السماوات شفافة ، وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا ، وإن لم تكن الكواكب فيها ، { وَجَعَلْنَاهَا } أي : المصابيح { رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } الذين يريدون استراق خبر السماء ، فجعل الله هذه النجوم ، حراسة للسماء عن تلقف الشياطين أخبار الأرض ، فهذه الشهب التي ترمى من النجوم ، أعدها الله في الدنيا للشياطين ، { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } في الآخرة { عَذَابِ السَّعِيرِ } لأنهم تمردوا على الله ، وأضلوا عباده ، ولهذا كان أتباعهم من الكفار مثلهم ، قد أعد الله لهم عذاب السعير ، فلهذا قال :
والجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال . بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة . فالكمال يبلغ درجة الجمال . ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر إلى كمالها :
( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ) . .
وما السماء الدنيا ? لعلها هي الأقرب إلى الأرض وسكانها المخاطبين بهذا القرآن . ولعل المصابيح المشار إليها هنا هي النجوم والكواكب الظاهرة للعين ، التي نراها حين ننظر إلى السماء . فذلك يتسق مع توجيه المخاطبين إلى النظر في السماء . وما كانوا يملكون إلا عيونهم ، وما تراه من أجرام مضيئة تزين السماء .
ومشهد النجوم في السماء جميل . ما في هذا شك . جميل جمالا يأخذ بالقلوب . وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته ؛ ويختلف من صباح إلى مساء ، ومن شروق إلى غروب ، ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء . ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب . . بل إنه ليختلف من ساعة لساعة . ومن مرصد لمرصد . ومن زاوية لزاوية . . وكله جمال وكله يأخذ بالألباب .
هذه النجمة الفريدة التي توصوص هناك ، وكأنها عين جميلة ، تلتمع بالمحبة والنداء !
وهاتان النجمتان المنفردتان هناك ، وقد خلصتا من الزحام تتناجيان !
وهذه المجموعات المتضامة المتناثرة هنا وهناك ، وكأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء . وهي تجتمع وتفترق كأنها رفاق ليلة في مهرجان !
وهذا القمر الحالم الساهي ليلة . والزاهي المزهو ليلة . والمنكسر الخفيض ليلة . والوليد المتفتح للحياة ليلة . والفاني الذي يدلف للفناء ليلة . . !
وهذا الفضاء الوسيع الذي لا يمل البصر امتداده ، ولا يبلغ البصر آماده .
إنه الجمال . الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه ويتملاه ، ولكن لا يجد له وصفا فيما يملك من الألفاظ والعبارات !
والقرآن يوجه النفس إلى جمال السماء ، وإلى جمال الكون كله ، لأن إدراك جمال الوجود هو أقرب وأصدق وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود . وهذا الإدراك هو الذي يرفع الإنسان إلى أعلى أفق يمكن أن يبلغه ، لأنه حينئذ يصل إلى النقطة التي يتهيأ فيها للحياة الخالدة ، في عالم طليق جميل ، بريء من شوائب العالم الأرضي والحياة الأرضية . وإن أسعد لحظات القلب البشري لهي اللحظات التي يتقبل فيها جمال الإبداع الإلهي في الكون . ذلك أنها هي اللحظات التي تهيئه وتمهد له ليتصل بالجمال الإلهي ذاته ويتملاه .
ويذكر النص القرآني هنا أن هذه المصابيح التي زين الله السماء الدنيا بها هي كذلك ذات وظيفة أخرى : ( وجعلناها رجوما للشياطين ) . .
وقد جرينا في هذه الظلال على قاعدة ألا نتزيد بشيء في أمر الغيبيات التي يقص الله علينا طرفا من خبرها ؛ وأن نقف عند حدود النص القرآني لا نتعداه . وهو كاف بذاته لإثبات ما يعرض له من أمور .
فنحن نؤمن أن هناك خلقا اسمهم الشياطين ، وردت بعض صفاتهم في القرآن ، وسبقت الإشارة إليها في هذه الظلال ، ولا نزيد عليها شيئا ونحن نؤمن أن الله جعل من هذه المصابيح التي تزين السماء الدنيا رجوما للشياطين ، في صورة شهب كما جاء في سورة أخرى : ( وحفظا من كل شيطان مارد ) . . . ( إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ) . . كيف ? من أي حجم ? في آية صورة ? كل ذلك لم يقل لنا الله عنه شيئا ، وليس لنا مصدر آخر يجوز استفتاؤه في مثل هذا الشأن . فلنعلم هذا وحده ولنؤمن بوقوعه . وهذا هو المقصود . ولو علم الله أن هناك خيرا في الزيادة أو الإيضاح أو التفصيل لفصل سبحانه . فمالنا نحن نحاول ما لم يعلم الله أن فيه خيرا ? : في مثل هذا الأمر . أمر رجم الشياطين ? !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السّعِيرِ } .
يقول تعالى ذكره : وَلَقَدْ زَيّنا السّماءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وهي النجوم ، وجعلها مصابيح لإضاءتها ، وكذلك الصبح إنما قيل له صبح للضوء الذي يضيء للناس من النهار ، وَجَعلْناها رُجُوما للشّياطِينِ يقول : وجعلنا المصابيح التي زيّنا بها السماء الدنيا رجوما للشياطين تُرْجم بها . وقد حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلَقَدْ زَيّنا السّماءَ الدّنْيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوما للشّاطِينِ ، إن الله جلّ ثناؤه إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال : خلقها زينة للسماء الدنيا ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمن يتأوّل منها غير ذلك ، فقد قال برأيه ، وأخطأ حظه ، وأضاع نصيبه ، وتكلّف ما لا علم له به .
وقوله : وأعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابَ السّعِيرِ ، يقول جلّ ثناؤه : وأعتدنا للشياطين في الاَخرة عذاب السعير ، تُسْعَر عليهم فتُسْجَر .
ولقد زينا السماء الدنيا ، أقرب السموات إلى الأرض ، بمصابيح ، بالكواكب المضيئة بالليل إضاءة السرج فيها ، والتنكير للتعظيم ، ولا يمنع ذلك كون بعض الكواكب مركوزة في سموات فوقها إذ التزيين بإظهارها فيها . وجعلناها رجوما للشياطين ، وجعلنا لها فائدة أخرى وهي رجم أعدائكم ، والرجوم جمع رجم بالفتح وهو مصدر سمي به ما يرجم به بانقضاض الشهب المسببة عنها ، وقيل معناه : وجعلناها رجوما وظنونا لشياطين الإنس ، وهم المنجمون . وأعتدنا لهم عذاب السعير في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا .