{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
{ وَقَالُوا } أي : اليهود والنصارى والمشركون ، وكل من قال ذلك : { اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } فنسبوه إلى ما لا يليق بجلاله ، وأساءوا كل الإساءة ، وظلموا أنفسهم .
وهو - تعالى - صابر على ذلك منهم ، قد حلم عليهم ، وعافاهم ، ورزقهم مع تنقصهم إياه .
{ سُبْحَانَهُ } أي : تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون مما لا يليق بجلاله ، فسبحان من له الكمال المطلق ، من جميع الوجوه ، الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه .
ومع رده لقولهم ، أقام الحجة والبرهان على تنزيهه عن ذلك فقال : { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : جميعهم ملكه وعبيده ، يتصرف فيهم تصرف المالك بالمماليك ، وهم قانتون له مسخرون تحت تدبيره ، فإذا كانوا كلهم عبيده ، مفتقرين إليه ، وهو غني عنهم ، فكيف يكون منهم أحد ، يكون له ولدا ، والولد لا بد أن يكون من جنس والده ، لأنه جزء منه .
والله تعالى المالك القاهر ، وأنتم المملوكون المقهورون ، وهو الغني وأنتم الفقراء ، فكيف مع هذا ، يكون له ولد ؟ هذا من أبطل الباطل وأسمجه .
والقنوت نوعان : قنوت عام : وهو قنوت الخلق كلهم ، تحت تدبير الخالق ، وخاص : وهو قنوت العبادة .
فالنوع الأول كما في هذه الآية ، والنوع الثاني : كما في قوله تعالى : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }
بعد ذلك يستعرض السياق ضلال تصورهم لحقيقة الألوهية ، وانحرافهم عن التوحيد الذي هو قاعدة دين الله ، وأساس التصور الصحيح في كل رسالة . ويقرن تصورهم المنحرف إلى تصورات الجاهلية عن ذات الله - سبحانه - وصفاته . ويقرر التشابه بين قلوب المشركين من العرب وقلوب المشركين من أهل الكتاب ، ويصحح للجميع انحرافهم إلى الشرك ، ويوضح لهم قاعدة التصور الإيماني الصحيح :
( وقالوا : اتخذ الله ولدا . سبحانه ! بل له ما في السماوات والأرض ، كل له قانتون . بديع السماوات والأرض ، وإذا قضى أمرا فإنما يقول له : كن . فيكون . وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية . كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم . تشابهت قلوبهم . قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) . .
وهذه المقولة الفاسدة : ( اتخذ الله ولدا ) . . ليست مقولة النصارى وحدهم في المسيح ، فهي كذلك مقولة اليهود في العزير . كما كانت مقولة المشركين في الملائكة . ولم تفصل الآية هنا هذه المقولات ، لأن السياق سياق إجمال للفرق الثلاث التي كانت تناهض الإسلام يومئذ في الجزيرة - ومن عجب أنها لا تزال هي التي تناهضه اليوم تماما ، ممثلة في الصهيونية العالمية والصليبية العالمية ، والشيوعية العالمية ، وهي أشد كفرا من المشركين في ذلك الحين ! - ومن هذا الإدماج تسقط دعوى اليهود والنصارى في أنهم وحدهم المهتدون ؛ وها هم أولاء يستوون مع المشركين !
وقبل أن يمضي إلى الجوانب الفاسدة الأخرى من تصورهم لشأن الله - سبحانه - يبادر بتنزيه الله عن هذا التصور ، وبيان حقيقة الصلة بينه وبين خلقه جميعا :
( سبحانه ! بل له ما في السماوات والأرض ، كل له قانتون . بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن . فيكون ) . .
هنا نصل إلى فكرة الإسلام التجريدية الكاملة عن الله سبحانه ، وعن نوع العلاقة بين الخالق وخلقه ، وعن طريقة صدور الخلق عن الخالق ، وهي أرفع وأوضح تصور عن هذه الحقائق جميعا . . لقد صدر الكون عن خالقه ، عن طريق توجه الإرادة المطلقة القادرة : ( كن ، فيكون ) . . فتوجه الإرادة إلى خلق كائن ما كفيل وحده بوجود هذا الكائن ، على الصورة المقدرة له ، بدون وسيط من قوة أو مادة . . أما كيف تتصل هذه الإرادة التي لا نعرف كنهها ، بذلك الكائن المراد صدوره عنها ، فذلك هو السر الذي لم يكشف للإدراك البشري عنه ، لأن الطاقة البشرية غير مهيأة لإدراكه . وهي غير مهيأة لإدراكه لأنه لا يلزمها في وظيفتها التي خلقت لها وهي خلافة الأرض وعمارتها . . وبقدر ما وهب الله للإنسان من القدرة على كشف قوانين الكون التي تفيده في مهمته ، وسخر له الانتفاع بها ، بقدر ما زوى عنه الأسرار الأخرى التي لا علاقة لها بخلافته الكبرى . . ولقد ضربت الفلسفات في تيه لا منارة فيه ، وهي تحاول كشف هذه الأسرار ؛ وتفترض فروضا تنبع من الإدراك البشري الذي لم يهيأ لهذا المجال ، ولم يزود أصلا بأدوات المعرفة فيه والارتياد . فتجيء هذه الفروض مضحكة في أرفع مستوياتها . مضحكة إلى حد يحير الإنسان : كيف يصدر هذا عن " فيلسوف " ! وما ذلك إلا لأن أصحاب هذه الفلسفات حاولوا أن يخرجوا بالإدراك البشري عن طبيعة خلقته ، وأن يتجاوزوا به نطاقه المقدور له ! فلم ينتهوا إلى شيء يطمأن إليه ؛ بل لم يصلوا إلى شيء يمكن أن يحترمه من يرى التصور الإسلامي ويعيش في ظله . وعصم الإسلام أهله المؤمنين بحقيقته أن يضربوا في هذا التيه بلا دليل ، وأن يحاولوا هذه المحاولة الفاشلة ، الخاطئة المنهج ابتداء . فلما أن أراد بعض متفلسفتهم متأثرين بأصداء الفلسفة الإغريقية - على وجه خاص - أن يتطاولوا إلى ذلك المرتقى ، باءوا بالتعقيد والتخليط ، كما باء أساتذتهم الإغريق ! ودسوا في التفكير الإسلامي ما ليس من طبيعته ، وفي التصور الإسلامي ما ليس من حقيقته . . وذلك هو المصير المحتوم لكل محاولة العقل البشري وراء مجاله ، وفوق طبيعة خلقته وتكوينه . .
والنظرية الإسلامية : أن الخلق غير الخالق . وأن الخالق ليس كمثله شيء . . ومن هنا تنتفي من التصور الإسلامي فكرة : " وحدة الوجود " على ما يفهمه غير المسلم من هذا الاصطلاح - أي بمعنى أن الوجود وخالقه وحدة واحدة - أو أن الوجود إشعاع ذاتي للخالق ، أو أن الوجود هو الصورة المرئية لموجده . . أو على أي نحو من أنحاء التصور على هذا الأساس . . والوجود وحدة في نظر المسلم على معنى آخر : وحدة صدوره عن الإرادة الواحدة الخالقة ، ووحدة ناموسه الذي يسير به ، ووحدة تكوينه وتناسقه واتجاهه إلى ربه في عبادة وخشوع :
( بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ) . .
فلا ضرورة لتصور أن له من بين ما في السماوات والأرض ولدا . . فالكل من خلقه بدرجة واحدة ، وبأداة واحدة :
{ وَقَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَقَالُوا اتّخَذَ اللّهُ وَلَدا } الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، وقالوا معطوف على قوله : وَسَعَى في خَرَابِها .
وتأويل الآية : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها } ، { وقالوا اتخذ الله ولدا } وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله ؟ فقال الله جل ثناؤه مكذّبا قِيلَهم ما قالوا من ذلك ومنتفيا مما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم . سبحانه يعني بها : تنزيها وتبريئا من أن يكون له ولد ، وعلوّا وارتفاعا عن ذلك . وقد دللنا فيما مضى على معنى قول القائل : «سبحان الله » بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما في السموات والأرض مِلْكا وخلقا ، ومعنى ذلك : وكيف يكون المسيح لله ولدا ، وهو لا يخلو إما أن يكون في بعض هذه الأماكن إما في السموات ، وإما في الأرض ، ولله ملك ما فيهما ؟ ولو كان المسيح ابنا كما زعمتم لم يكن كسائر ما في السموات والأرض من خلقه وعبيده في ظهور آيات الصنعة فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : مطيعون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } : مطيعون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }قال : مطيعون ، قال : طاعة الكافر في سجود ظله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله ، إلا أنه زاد : بسجود ظله وهو كاره .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } يقول : كل له مطيعون يوم القيامة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، عمن ذكره ، عن عكرمة : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }قال : الطاعة .
حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { قانِتون } : مطيعون .
وقال آخرون : معنى ذلك كلّ له مُقرّون بالعبودية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }كل مقّر له بالعبودية . وقال آخرون بما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }قال : كل له قائم يوم القيامة .
وللقنوت في كلام العرب معان : أحدها الطاعة ، والاَخر القيام ، والثالث الكفّ عن الكلام والإمساك عنه .
وأولى معاني القنوت في قوله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة ، والدلالة على وحدانية الله عز وجل ، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها . وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدا بقوله : بل له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا . ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرّة بدلالتها على ربها وخالقها ، وأن الله تعالى بارئها وصانعها . وإنْ جحد ذلك بعضهم فألسنتهم مذعنة له بالطاعة بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك ، وأن المسيح أحدهم ، فأنى يكون لله ولدا وهذه صفته ؟ وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وجهته أن قوله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }خاصة لأهل الطاعة وليست بعامة . وغير جائز ادّعاء خصوص في آية عام ظاهرها إلا بحجة يجب التسليم لها لما قد بينا في كتابنا : «كتاب البيان عن أصول الأحكام » .
وهذا خبر من الله جلّ وعزّ عن أن المسيح الذي زعمت النصارى أنه ابن الله مُكَذّبهم هو والسموات والأرض وما فيها ، إما باللسان ، وإما بالدلالة وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن جميعهم بطاعتهم إياه وإقرارهم له بالعبودية عقيب قوله : { وَقَالُوا اتّخَذَ اللّهُ وَلَدا } فدلّ ذلك على صحة ما قلنا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه}: إنما نزلت في نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما من الوفد، قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالوا: عيسى ابن الله، فأكذبهم الله سبحانه وعظم نفسه، تعالى عما يقولون، فقال:
{بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون} يعني: لله، يعني: من فيهما: عيسى صلى الله عليه وسلم وغيره، عبيده، وفي ملكه. ثم قال: {قانتون}: مقرون بالعبودية...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله جل ثناؤه: {وَقَالُوا اتّخَذَ اللّهُ وَلَدا} الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، "وقالوا "معطوف على قوله: "وَسَعَى في خَرَابِها".
وتأويل الآية: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها}، {وقالوا اتخذ الله ولدا} وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله؟ فقال الله جل ثناؤه مكذّبا قِيلَهم ما قالوا من ذلك ومنتفيا مما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم. "سبحانه" يعني بها: تنزيها وتبريئا من أن يكون له ولد، وعلوّا وارتفاعا عن ذلك... ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما في السموات والأرض مِلْكا وخلقا، ومعنى ذلك: وكيف يكون المسيح لله ولدا، وهو لا يخلو إما أن يكون في بعض هذه الأماكن إما في السموات، وإما في الأرض، ولله ملك ما فيهما؟ ولو كان المسيح ابنا كما زعمتم لم يكن كسائر ما في السموات والأرض من خلقه وعبيده في ظهور آيات الصنعة فيه.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: مطيعون...
وقال آخرون: معنى ذلك: كلّ له مُقرّون بالعبودية.
وقال آخرون: كل له قائم يوم القيامة.
وللقنوت في كلام العرب معان: أحدها الطاعة، والاَخر القيام، والثالث الكفّ عن الكلام والإمساك عنه.
وأولى معاني القنوت في قوله: {كُلّ لَهُ قَانِتُونَ}: الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة، والدلالة على وحدانية الله عز وجل، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها. وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدا بقوله: بل له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا. ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرّة بدلالتها على ربها وخالقها، وأن الله تعالى بارئها وصانعها. وإنْ جحد ذلك بعضهم فألسنتهم مذعنة له بالطاعة بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك، وأن المسيح أحدهم، فأنى يكون لله ولدا وهذه صفته؟ وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وجهته أن قوله: {كُلّ لَهُ قَانِتُونَ} خاصة لأهل الطاعة وليست بعامة. وغير جائز ادّعاء خصوص في آية عام ظاهرها إلا بحجة يجب التسليم لها لما قد بينا في كتابنا: «كتاب البيان عن أصول الأحكام».
وهذا خبر من الله جلّ وعزّ عن أن المسيح الذي زعمت النصارى أنه ابن الله مُكَذّبهم هو والسموات والأرض وما فيها، إما باللسان، وإما بالدلالة وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن جميعهم بطاعتهم إياه وإقرارهم له بالعبودية عقيب قوله: {وَقَالُوا اتّخَذَ اللّهُ وَلَدا} فدلّ ذلك على صحة ما قلنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه} فيه تنزيه؛ نزه به نفسه عما قالوا فيه بما لا يليق، ورد عليهم؛ ومعناه، والله أعلم ان اتخاذ الولد والتبني في الشاهد إنما يكون لأحد وجوه ثلاثة تحوجه إلى ذلك: إما لشهوات تغلبه فيقضيها به. [وإما لوحشه] تأخذه، فيحتاج إلى من يستأنس به. وإما لدفع عدو يقهره، فيحتاج إلى من يستنصر به ويستغيث. فإذا كان الله عز وجل يتعالى عن أن يمسه حاجة، أو يأخذه وحشة، أو يقهره عدو فلأي شيء يتخذ ولدا؟
وقوله: {بل له ما في السماوات والأرض} رد على ما قالوا: فمن ملك السموات وما فيها وملك الأرض وما فيها لا يمسه حاجة، ولا يقهره عدو؛ إذ ذلك ملك له، يجري فيهم تقديره، ويمضي عليهم أمره وتدبيره. وإنما يرغب إلى مثله إذا اعترض له شيء مما ذكرنا {سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا} [الإسراء: 43]...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} نزلت في يهود أهل المدينة حيث قالوا: عُزير ابن الله، وفي نصارى نجران حيث قالوا: المسيح بن الله وفي مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله...
وأصل القنوت: القيام، "وسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ الصّلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت"، وقيل: مصلّون، دليله قوله {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ}
[الزمر: 9] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {مثل المجاهد في سبيل الله مثل القانت الصائم} أيّ المُصلّي. وقيل: داعون. دليله قوله تعالى {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ}
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{بَل لَّهُ مَا في السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}. أي ليس في الكون شيء من الآثار المفتقرة أو الأعيان المستقلة إلا وتنادي عليه آثار الحِلْقَة، وتفصح منه شواهد الفطرة، وكل صامتِ منها ناطق، وعلى وحدانيته -سبحانه- دليلٌ وشاهد...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {سبحانه}. نزه وعظم نفسه... عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي، فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً".
اعلم أن هذا هو النوع العاشر من مقابح أفعال اليهود والنصارى والمشركين...
{بل له ما في السموات والأرض} أي له كل ما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع...
فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى استدل في هذه الآية بكونه مالكا لما في السموات والأرض، وفي سورة مريم بكونه مالكا لمن في السموات والأرض على ما قال: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا}؟ قلنا: قوله تعالى في هذه السورة: {بل له ما في السموات والأرض} أتم، لأن كلمة (ما) تتناول جميع الأشياء...
القنوت:... لما كان القنوت في أصل اللغة عبارة عن الدوام كان معنى الآية أن دوام الممكنات وبقاءها به سبحانه ولأجله وهذا يقتضي أن العالم حال بقائه واستمراره محتاج إليه سبحانه وتعالى، فثبت أن الممكن يقتضي أن لا تنقطع حاجته عن المؤثر لا حال حدوثه ولا حال بقائه.
المسألة الثالثة: يقال كيف جاء بما الذي لغير أولي العلم مع قوله: {قانتون} جوابه: كأنه جاء بما دون من تحقيرا لشأنهم...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
إذا جعلت اتخذ بمعنى صير، كان أحد المفعولين محذوفاً، التقدير: وقالوا اتخذ بعض الموجودات ولداً. والذي جاء في القرآن إنما ظاهره التعدي إلى واحد، قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً} {ما اتخذ الله من ولد} {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً}...
ولما كانت هذه المقالة من أفسد الأشياء وأوضحها في الاستحالة، أتى باللفظ الذي يقتضي التنزيه والبراءة من الأشياء التي لا تجوز على الله تعالى، قبل أن يضرب عن مقالتهم ويستدل على بطلان دعواهم...
وكان ذكر التنزيه أسبق، لأن فيه ردعاً لمدعي ذلك، وأنهم ادعوا أمراً تنزه الله عنه وتقدس، ثم أخذ في إبطال تلك المقالة فقال: {بل له ما في السموات والأرض}: أي جميع ذلك مملوك له، ومن جملتهم من ادعوا أنه ولد الله...
ولما ذكر أن الكل مملوك لله تعالى، ذكر أنهم كلهم قانتون له، أي مطيعون خاضعون له. وهذه عادة المملوك، أن يكون طائعاً لمالكه، ممتثلاً لما يريده منه. واستدل بنتيجة الطواعية على ثبوت الملكية. ومن كان بهذه الصفة لم يجانس الوالد، إذ الولد يكون من جنس الوالد.
وأتى بلفظ ما في قوله: {بل له ما في السموات والأرض}، وإن كانت لما لا يعقل، لأن ما لا يعقل إذا اختلط بمن يعقل جاز أن يعبر عن الجميع بما...
ويدل على اندراج من يعقل تحت مدلول ما جمع الخبر بالواو والنون، التي هي حقيقة فيما يعقل، واندرج فيه ما لا يعقل على حكم تغليب من يعقل. فحين ذكر الملك، أتى بلفظة ما، وحين ذكر القنوت، أتى بجمع ما يعقل، فدل على أن ذلك شامل لمن يعقل وما لا يعقل...
وما عندنا لا يقع إلا لما لا يعقل، إلا إذا اختلط بمن يعقل، فيقع عليهما، كما ذكرناه، أو كان واقعاً على صفات من يعقل، فيعبر عنها بما. وأما أن يقع لمن يعقل، خاصة حالة إفراده أو غير إفراده، فلا...
و {قانتون}: خبر عن كل، وجمع حملاً على المعنى... وكلّ، إذا حذف ما تضاف إليه، جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع، ومراعاة اللفظ فتفرد. وإنما حسنت مراعاة الجمع هنا، لأنها فاصلة رأس آية، ولأن الأكثر في لسانهم أنه إذا قطعت عن الإضافة كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن. قال تعالى: {وكلّ كانوا ظالمين} {وكلّ أتوه داخرين} و {كلّ في فلك يسبحون} وقد جاء إفراد الخبر كقوله: {قل كلّ يعمل على شاكلته}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فكيف يكون له ولد منهم، والولد إنما يكون متولدًا من شيئين متناسبين، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير، ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له، فكيف يكون له ولد! كما قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101]...فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم، الذي لا نظير له ولا شبيه له، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة، فكيف يكون له منها ولد!...
{وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} ذمهم بالوصف الأعم لأنّ اتخاذ الولد يصدق على الابن حقيقة وعلى ابن التبني.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أفاد ما تقدم وصفه تعالى بتمام القدرة واتساع الملك والفضل وشمول العلم كان من المحال افتقاره إلى شيء ولد أو غيره قدّم أهل الأديان الباطلة كلهم بافترائهم في الولد... فقال معجباً ممن اجترأ على نسبة ذلك إليه مع معرفة ما تقدم عاطفاً على ما سبق من دعاويهم: {وقالوا اتخذ الله} الذي له الكمال كله وعبر بقوله: {ولداً} الصالح للذكر والأنثى لينظم بذلك مقالات الجميع.
ولما كان العطف على مقالات أهل الكتاب ربما أوهم اختصاص الذم بهم حذفت واو العطف في قراءة ابن عامر على طريق الاستئناف في جواب من كأنه قال: هل انقطع حبل افترائهم؟ إشارة إلى ذم كل من قال بذلك... والحاصل أنه إن عطف كان انصباب الكلام إلى أهل الكتاب وأما غيرهم فتبع لهم للمساواة في المقالة، وإذا حذفت الواو انصب إلى الكل انصباباً واحداً...
ونزه نفسه الشريفة استئنافاً بقوله: {سبحانه} فذكر علم التسبيح الجامع لإحاطة المعنى في جوامع التنزيه كله،
ثم جاء بكلمة الإضراب المفهمة الرد بالنفي فكأن الخطاب يفهم: ما اتخذ الله ولداً ولا له ولد {بل له ما} فعبر بالأداة التي هي لغير العاقل تصلح له تعميماً وتحقيراً لهم {في السماوات والأرض} مما ادعت كل فرقة منهم فيه الولدية وغير ذلك...
ثم علله بقوله معبراً بما يفهم غاية الإذعان: {كل له قانتون} أي مخلصون خاشعون متواضعون، لاستسلامهم لقضائه من غير قدرة على دفاع، ولا تطلع إلى نوع امتناع العاقل، غيره، حتى كأنهم يسعون في ذلك ويبادرون إليه مبادرة اللبيب الحازم.
قال الحرالي: فجاء بالجمع المشعر كما يقال بالعقل والعلم لما تقدم من أنه لا عجمة ولا جمادية بين الكون والمكوّن، إنما يقع جمادية وعجمة بين آحاد من المقصرين في الكون عن الإدراك التام؛ والقنوت ثبات القائم بالأمر على قيامه تحققاً بتمكنه فيه...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
والآية مشعرة [ب] فساد ما قالوه من ثلاثة أوجه:
والثاني: قوله: {بل له ما في السموات والأرض}
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الراغب في (تفسيره): نبه على أقوى حجة على نفي ذلك. وبيانها: هو أن لكل موجود في العالم، مخلوقا طبيعيا، أو معمولا صناعيا، غرضا وكمالا أوجد لأجله. وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض، كاليد للبطش، والرجل للمشي، والسكين لقطع مخصوص، والمنشار للنشر، وإن كانت اليد قد تصلح للمشي في حال، والرِّجل للتناول، لكن ليس على التمام.
والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه، وجزء منه، لما لم يجعل الله له سبيلا إلى بقاءه بشخصه، فجعل له بذرا لحفظ نوعه. ويقوي ذلك، أنه لم يجعل للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذرا واستخلافا، لما لم يجعل لها فناء النبات والحيوان.
ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم، بلا ابتداء ولا انتهاء، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى. ولهذا قال: {سبحانه أن يكون له ولد} أي هو منزه عن السبب المقتضي للولد.
ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما، وذلك لما تقدم، أن الإنسان افتقر إلى نسل يخلفه لكونه غير كامل إلى نفسه – بيّن تعالى بقوله: {له ما في السماوات والأرض} أنه لا يتوهم له فقر، فيحتاج إلى اتخاذ ما هو سدٌّ لفقره، فصار في قوله: {له ما في السماوات والأرض} دلالة ثانية. ثم زاد حجة بقوله: {قانتون} وهو أنه لما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب ومظاهرته كما قال: {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} بيّن أن كل ما في السماوات والأرض، مع كونه ملكا له، قانت أيضا، إما طائعا، وإما كارها، وإما مسخرا. كقوله: {يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها} وقوله: {وإن من شيء إلا يسبّح بحمده} وهذا أبلغ حجة لمن هو على المحجة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
نعم إن له سبحانه أن يختص من شاء بما شاء كما اختص الأنبياء بالوحي ولكن هذا التخصيص لا يرتقي بالمخلوق إلى مرتبة الخالق، ولا يعرج بالموجود الممكن إلى درجة الوجود الواجب، وإنما يودع سبحانه في فطرة من شاء ما يؤهله لما شاء منه {20: 50 أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}
وليست شبهة الذين اتخذوا بعض البشر آلهة بأمثل من شبهة الذين اتخذوا بعض الكواكب آلهة، إذ التفاوت بين الشمس والقمر أظهر مثلا من التفاوت بين المسيح وبين سائر الناس الذين عبدوه وقالوا هو ابن الله أو هو الله...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
والقنوت نوعان: قنوت عام: وهو قنوت الخلق كلهم، تحت تدبير الخالق. وخاص: وهو قنوت العبادة. فالنوع الأول كما في هذه الآية، والنوع الثاني: كما في قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هنا نصل إلى فكرة الإسلام التجريدية الكاملة عن الله سبحانه، وعن نوع العلاقة بين الخالق وخلقه، وعن طريقة صدور الخلق عن الخالق، وهي أرفع وأوضح تصور عن هذه الحقائق جميعا.. لقد صدر الكون عن خالقه، عن طريق توجه الإرادة المطلقة القادرة: (كن، فيكون).. فتوجه الإرادة إلى خلق كائن ما كفيل وحده بوجود هذا الكائن، على الصورة المقدرة له، بدون وسيط من قوة أو مادة.. أما كيف تتصل هذه الإرادة التي لا نعرف كنهها، بذلك الكائن المراد صدوره عنها، فذلك هو السر الذي لم يكشف للإدراك البشري عنه، لأن الطاقة البشرية غير مهيأة لإدراكه. وهي غير مهيأة لإدراكه لأنه لا يلزمها في وظيفتها التي خلقت لها وهي خلافة الأرض وعمارتها..
وبقدر ما وهب الله للإنسان من القدرة على كشف قوانين الكون التي تفيده في مهمته، وسخر له الانتفاع بها، بقدر ما زوى عنه الأسرار الأخرى التي لا علاقة لها بخلافته الكبرى.. ولقد ضربت الفلسفات في تيه لا منارة فيه، وهي تحاول كشف هذه الأسرار؛ وتفترض فروضا تنبع من الإدراك البشري الذي لم يهيأ لهذا المجال، ولم يزود أصلا بأدوات المعرفة فيه والارتياد. فتجيء هذه الفروض مضحكة في أرفع مستوياتها. مضحكة إلى حد يحير الإنسان: كيف يصدر هذا عن "فيلسوف "! وما ذلك إلا لأن أصحاب هذه الفلسفات حاولوا أن يخرجوا بالإدراك البشري عن طبيعة خلقته، وأن يتجاوزوا به نطاقه المقدور له! فلم ينتهوا إلى شيء يطمأن إليه؛ بل لم يصلوا إلى شيء يمكن أن يحترمه من يرى التصور الإسلامي ويعيش في ظله. وعصم الإسلام أهله المؤمنين بحقيقته أن يضربوا في هذا التيه بلا دليل، وأن يحاولوا هذه المحاولة الفاشلة، الخاطئة المنهج ابتداء. فلما أن أراد بعض متفلسفتهم متأثرين بأصداء الفلسفة الإغريقية -على وجه خاص- أن يتطاولوا إلى ذلك المرتقى، باءوا بالتعقيد والتخليط، كما باء أساتذتهم الإغريق! ودسوا في التفكير الإسلامي ما ليس من طبيعته، وفي التصور الإسلامي ما ليس من حقيقته.. وذلك هو المصير المحتوم لكل محاولة العقل البشري وراء مجاله، وفوق طبيعة خلقته وتكوينه..
والنظرية الإسلامية: أن الخلق غير الخالق. وأن الخالق ليس كمثله شيء.. ومن هنا تنتفي من التصور الإسلامي فكرة: "وحدة الوجود "على ما يفهمه غير المسلم من هذا الاصطلاح -أي بمعنى أن الوجود وخالقه وحدة واحدة- أو أن الوجود إشعاع ذاتي للخالق، أو أن الوجود هو الصورة المرئية لموجده.. أو على أي نحو من أنحاء التصور على هذا الأساس.. والوجود وحدة في نظر المسلم على معنى آخر: وحدة صدوره عن الإرادة الواحدة الخالقة، ووحدة ناموسه الذي يسير به، ووحدة تكوينه وتناسقه واتجاهه إلى ربه في عبادة وخشوع: (بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون).. فلا ضرورة لتصور أن له من بين ما في السماوات والأرض ولدا.. فالكل من خلقه بدرجة واحدة، وبأداة واحدة:
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن له كل شيء في الكون لا يشغله شيء عن شيء.. أراد أن يرد على الذين حاولوا أن يجعلوا لله معينا في ملكه.. الذين قالوا اتخذ الله ولداً...
قضية إن لله سبحانه وتعالى ولداً جاءت في القرآن الكريم تسع عشرة مرة ومعها الرد عليها.. ولأنها قضية في قمة العقيدة فقد تكررت وتكرر الرد عليها مرة بعد أخرى وإذا نظرت للذين قالوا ذلك تجد أن هناك أقوالا متعددة..
هناك قول قاله المشركون.. واقرأ القرآن الكريم: {ألا إنهم من إفكهم ليقولون "151 "ولد الله وإنهم لكاذبون "152" أصطفى البنات على البنين "153 "} (سورة الصافات).
وقول اليهود كما يروى لنا القرآن: {وقالت اليهود عزير ابن الله} (من الآية 30 سورة التوبة).
وقول النصارى: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} (من الآية 30 سورة التوبة). ثم في قصة خلق عيسى عليه السلام من مريم بدون رجل.. الله سبحانه وتعالى يقول: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا" 88 "لقد جئتم شيئا إدا" 89 "تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا" 90 "أن دعوا للرحمن ولدا" 91 "وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا" 92 "إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا" 93 "} (سورة مريم).
والله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أن هذا ادعاء خطير مستقبح مستنكر وممقوت.. لقد عالجت سورة مريم المسألة علاجا واسعا.. علاجا اشترك فيه انفعال كل أجناس الكون غير الإنسان.. انفعال السماوات والأرض والجبال وغيرها من خلق الله التي تلعن كل من قال ذلك.. بل وتكاد شعورا منها بفداحة الجريمة أن تنفطر السماء أي تسقط قطعا صغيرة.. وتنشق الأرض أي تتمزق.. وتخر الجبال أي تسقط كتراب.. كل هذا من هول ما قيل ومن كذب ما قيل.. لأن هذا الادعاء افتراء على الله. ولقد جاءت كل هذه الآيات في سورة مريم التي أعطتنا معجزة خلق عيسى.. كما وردت القضية في عدة سور أخرى...
والسؤال هنا ما هي الشبهة التي جعلتهم يقولون ولد الله؟ ما الذي جعلهم يلجؤون إلى هذا الافتراء؟ القرآن يقول عن عيسى بن مريم.. كلمة الله ألقاها إلى مريم.. نقول لهم كلنا كلمة "كن". لماذا فتنتم في عيسى ابن مريم هذه الفتنة؟ والله سبحانه وتعالى يشرح المسألة فيقول: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" 59 "} (سورة آل عمران). قوله كمثل آدم لمجرد مجاراة الخصم.. ولكن المعجزة في آدم أقوى منها في عيسى عليه السلام.. أنتم فتنتم في عيسى لأن عنصر الأبوة ممتنع.. وآدم امتنع فيه عنصر الأبوة والأمومة.. إذن فالمعجزة أقوى.. وكان الأولى أن تفتنوا بآدم بدل أن تفتنوا بعيسى.. ومن العجيب أنكم لم تذكروا الفتنة في آدم وذكرتم الفتنة فيما فيه عنصر غائب من عنصرين غائبين في آدم.. وكان من الواجب أن تنسبوا هذه القضية إلى آدم ولكنكم لم تفعلوا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال له الله إن القضية ليست قضية إنكار ولكنها قضية كاذبة.. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين "81 "} (سورة الزخرف). أي لن يضير الله سبحانه وتعالى أن يكون له ولد.. ولكن جل جلاله لم يتخذ ولدا.. فلا يمكن أن يعبد الناس شيئا لم يكن لله.. وإنما ابتدعوه واختلقوه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
جاء القرآن ليناقش هذه العقيدة ببساطة، فبدأ الحديث بالتسبيح والتنزيه للّه، وذلك بكلمة {سُبْحَانَهُ} أي تنزيهاً له عن هذه العلاقات، لأنها تعني الحاجة، باعتبار أنَّ البنوّة تمثّل في وعي الآباء تلبيةً لرغبةٍ ذاتية، كنتيجةٍ للشعور بالفراغ الداخلي من هذه الجهة، كما تمثّل الحاجة إلى المرور بمراحل زمنية وعملية، في سبيل الوصول إلى هذه النتيجة، لو أريد للنسبة أن تتحقّق بشكل طبيعي كما تتحقّق في سائر الأشياء، وهذا يعني العجز إلى جانب الحاجة، مما يستحيل على اللّه ويتنزه عنه...
ثُمَّ يناقش القضية من موقع الحقيقة الإيمانية التوحيدية، {لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مطيعون خاشعون، فلا يملك أحدٌ منهم أيّ تفوّقٍ ذاتي في نفسه، أو أية علاقة باللّه تميّزه عن العلاقة بالآخر من حيث طبيعة الخلق. فما حاجة اللّه إلى الولد، وهو مالك السَّماوات والأرض وما فيهما من مخلوقات، ولكلٍّ من هذه المخلوقات خصائص وميزات، ولكنّها لا تخرج بذلك عن مملوكيتها ومخلوقيتها للّه، من دون أن يكون أحد منها أقرب من الآخر من حيث جهة الملك أو الخلق، أو يكون انتسابها إلى اللّه بمستوى أعلى من الآخر،
وأضاف إلى ذلك أنه: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} ومنشئها من خلال إرادته التي لا تتخلّف في كلّ شيء يريده، من دون حاجة إلى توسط شيء بين الإرادة والمراد، فإذا أراد شيئاً خَلَقَهُ...