ثم ذكر اعتذارهم لربهم من جناياتهم وذنوبهم ، فقال : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم } أي : صدر منهم أعمال [ سيئة ] {[162]} كبيرة ، أو ما دون ذلك ، بادروا إلى التوبة والاستغفار ، وذكروا ربهم ، وما توعد به العاصين ووعد به المتقين ، فسألوه المغفرة لذنوبهم ، والستر لعيوبهم ، مع إقلاعهم عنها وندمهم عليها ، فلهذا قال : { ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون }
ثم ننتقل إلى صفة أخرى من صفات المتقين :
( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) . .
يا لسماحة هذا الدين ! إن الله - سبحانه - لا يدعو الناس إلى السماحة فيما بينهم حتى يطلعهم على جانب من سماحته - سبحانه وتعالى - معهم . ليتذوقوا ويتعلموا ويقتبسوا :
إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين . . ولكن سماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تسلك في عداد المتقين ( الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ) والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها . ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها ، من رحمة الله . ولا تجعلهم في ذيل القافلة . . قافلة المؤمنين . . إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة . . مرتبة " المتقين " . . على شرط واحد . شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته . . أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم ، وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أنه الخطيئة ، وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء . . وبعبارة أخرى أن يكونوا في إطار العبودية لله ، والاستسلام له في النهاية . فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله .
إن هذا الدين ليدرك ضعف هذا المخلوق البشري الذي تهبط به ثقلة الجسد أحيانا إلى درك الفاحشة ، وتهيج به فورة اللحم والدم فينزو نزوة الحيوان في حمى الشهوة ، وتدفعه نزواته وشهواته وأطماعه ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله في حمى الاندفاع . يدرك ضعفه هذا فلا يقسو عليه ، ولا يبادر إلى طرده من رحمة الله حين يظلم نفسه . حين يرتكب الفاحشة . . المعصية الكبيرة . . وحسبه أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفىء ، وأن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجف ، وأن صلته بالله ما تزال حية لم تذبل ، وأنه يعرف أنه عبد يخطىء وأن له ربا يغفر . . وإذن فما يزال هذا المخلوق الضعيف الخاطىء المذنب بخير . . إنه سائر في الدرب لم ينقطع به الطريق ، ممسك بالعروة لم ينقطع به الحبل ، فليعثر ما شاء له ضعفه أن يعثر . فهو واصل في النهاية ما دامت الشعلة معه ، والحبل في يده . ما دام يذكر الله ولا ينساه ، ويستغفره ويقر بالعبودية له ولا يتبجح بمعصيته .
إنه لا يغلق في وجه هذا المخلوق الضعيف الضال باب التوبة ، ولا يلقيه منبوذا حائرا في التيه ! ولا يدعه مطرودا خائفا من المآب . . إنه يطمعه في المغفرة ، ويدله على الطريق ، ويأخذ بيده المرتعشة ، ويسند خطوته المتعثرة ، وينير له الطريق ، ليفيء إلى الحمى الآمن ، ويثوب إلى الكنف الأمين .
شيء واحد يتطلبه : ألا يجف قلبه ، وتظلم روحه ، فينسى الله . . وما دام يذكر الله . ما دام في روحه ذلك المشعل الهادي . ما دام في ضميره ذلك الهاتف الحادي . ما دام في قلبه ذلك الندى البليل . . فسيطلع النور في روحه من جديد ، وسيؤوب إلى الحمى الآمن من جديد ، وستنبت البذرة الهامدة من جديد .
إن طفلك الذي يخطىء ويعرف أن السوط - لا سواه - في الدار . . سيروح آبقا شاردا لا يثوب إلى الدار أبدا . فأما إذا كان يعلم أن إلى جانب السوط يدا حانية ، تربت على ضعفه حين يعتذر من الذنب ، وتقبل عذره حين يستغفر من الخطيئة . . فإنه سيعود !
وهكذا يأخذ الإسلام هذا المخلوق البشري الضعيف في لحظات ضعفه . . فإنه يعلم أن فيه بجانب الضعف قوة ، وبجانب الثقلة رفرفة ، وبجانب النزوة الحيوانية أشواقا ربانية . . فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ليأخذ بيده إلى مراقي الصعود ، ويربت عليه في لحظة العثرة ليحلق به إلى الأفق من جديد . ما دام يذكر الله ولا ينساه ، ولا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة ! والرسول [ ص ] يقول : " ما أصر من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة "
والإسلام لا يدعو - بهذا - إلى الترخص ، ولا يمجد العاثر الهابط ، ولا يهتف له بجمال المستنقع ! كما تهتف " الواقعية " ! إنما هو يقيل عثرة الضعف ، ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء ، كما يستجيش فيها الحياء ! فالمغفرة من الله - ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ - تخجل ولا تطمع ، وتثير الاستغفار ولا تثير الاستهتار . فأما الذين يستهترون ويصرون ، فهم هنالك خارج الأسوار ، موصدة في وجوههم الأسوار !
وهكذا يجمع الإسلام بين الهتاف للبشرية إلى الآفاق العلى ، والرحمة بهذه البشرية التي يعلم طاقتها . ويفتح أمامها باب الرجاء أبدا ، ويأخذ بيدها إلى أقصى طاقتها .
{ وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّواْ عَلَىَ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } : أن الجنة التي وصف صفتها أعدت للمتقين ، المنفقين في السرّاء والضرّاء ، والذين إذا فعلوا فاحشة وجميع هذه النعوت من صفة المتقين الذين قال تعالى ذكره : { وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْضُ أُعِدّتْ للْمُتَقِينَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني ، قال : سمعت الحسن قرأ هذه الاَية : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاءِ وَالضّرّاءِ وَالكاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } ، ثم قرأ : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } . . . إلى { أجْرُ العامِلِينَ } فقال : إن هذين النعتين لنعت رجل واحد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } قال : هذان ذنبان : الفاحشة ذنب ، وظلموا أنفسهم ذنب .
وأما الفاحشة فهي صفة لمتروك ، ومعنى الكلام : والذين إذا فعلوا فعلة فاحشة . ومعنى الفاحشة : الفعلة القبيحة الخارجة عما أذن الله عزّ وجلّ فيه . وأصل الفحش القبح والخروج عن الحدّ والمقدار في كل شيء ، ومنه قيل للطويل المفرط الطول : إنه لفاحش الطول ، يراد به : قبيح الطول ، خارج عن المقدار المستحسن¹ ومنه قيل للكلام القبيح غير القصد : كلام فاحش ، وقيل للمتكلم به : أفحش في كلامه : إذا نطق بفحش . وقيل : إن الفاحشة في هذا الموضع معنّي بها الزنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا العباس بن عبد العظيم ، قال : حدثنا حبان ، قال : حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن جابر : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } قال : زنى القوم وربّ الكعبة .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } أما الفاحشة : فالزنا .
وقوله : { أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } يعني به : فعلوا بأنفسهم غير الذي كان ينبغي لهم أن يفعلوا بها . والذي فعلوا من ذلك ركوبهم من معصية الله ما أوجبوا لها به عقوبته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قوله : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } قال : الظلم من الفاحشة ، والفاحشة من الظلم .
وقوله : { ذَكَرُوا اللّهَ } يعني بذلك ذكروا وعيد الله على ما أتوا من معصيتهم إياه . { فاسْتَغْفِرُوا لِذُنُوبِهِمْ } يقول : فسألوا ربهم أن يستر عليهم ذنوبهم بصفحه لهم عن العقوبة عليها . { وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّهُ } يقول : وهل يغفر الذنوب : أي يعفو عن راكبها فيسترها عليه إلا الله ؟ { وَلَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا } يقول : ولم يقيموا على ذنوبهم التي أتوها ، ومعصيتهم التي ركبوها { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يقول : لم يقيموا على ذنوبهم عامدين للمقام عليها ، وهم يعلمون أن الله قد تقدّم بالنهي عنها ، وأوعد عليها العقوبة ، من ركبها . وذكر أن هذه الاَية أنزلت خصوصا بتخفيفها ويسرها أُمّتَنا مما كانت بنو إسرائيل ممتحنة به من عظيم البلاء في ذنوبها .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح : أنهم قالوا : يا نبي الله ، بنو إسرائيل أكرم على الله منا ، كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه : اجدع أذنك ، أجدع أنفك ، افعل ! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { وَسارِعُوا إلى مَغْفِزَةٍ مِنَ رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْض أُعِدّتْ للْمُتّقِينَ } . . . إلى قوله : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِنَ ذَلِكَ ؟ » فقرأ هؤلاء الاَيات .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني عمر أبي خليفة العبديّ ، قال : حدثنا عليّ بن زيد بن جدعان ، قال : قال ابن مسعود : كانت بنو إسرائيل إذا أذنبوا ، أصبح مكتوبا على بابه الذنب وكفارته ، فأعطينا خيرا من ذلك هذه الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني ، قال : لما نزلت : { وَمَنْ يَعْمَلْ سَواءً أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } بكى إبليس فزعا من هذه الاَية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني ، قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الاَية : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } بكى .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت عثمان مولى آل أبي عقيل الثقفي ، قال : سمعت عليّ بن ربيعة ، يحدث عن رجل من فزارة يقال له أسماء أو ابن أسماء ، عن عليّ ، قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، نفعني الله بما شاء أن ينفعني ، فحدثني أو بكر وصدق أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «ما مِنْ عَبْدٍ » قال شعبة : وأحسبه قال «مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبا ثم يَتَوضّأُ ثم يُصّلّي ركْعَتَيْنِ ، ثم يَسْتَغْفِرُ الله لِذَلِكَ الذّنْبِ . . . » وقال شعبة : وقرأ إحدى هاتين الاَيتين : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، وحدثنا الفضل بن إسحاق ، قال : حدثنا وكيع ، عن مسعر وسفيان ، عن عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن عليّ بن ربيعة الوالبي ، عن أسماء بن الحكم الفزاري ، عن عليّ بن أبي طالب قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه غيره ، استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته¹ وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ رَجُلٍ يَذْنِبُ ذَنْبا ثُمّ يَتَوَضّأُ ، ثُمّ يُصَلّي » ، قال أحدهما : «رَكْعَتَيْنِ » وقال الاَخر : «ثُمّ يُصَلّي وَيَسْتَغْفِرُ اللّهُ إلاّ غَفَرَ لَهُ » .
حدثنا الزبير بن بكار ، قال : ثني سعد بن أبي سعيد المقبري ، عن أخيه ، عن جده عن عليّ بن أبي طالب أنه قال : ما حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سألته أن يقسم لي بالله لهو سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر ، فإنه كان لا يكذب . قال عليّ رضي الله عنه : فحدثني أبو بكر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبا ثُمّ يَقُومُ عِنْدَ ذِكْرِ ذَنْبِهِ فَيَتَوَضّأُ ثُمّ يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ ، وَيَسْتَغْفِرُ اللّهَ مِنْ ذَنْبِهِ ذَلِكَ إلاّ غَفَرهُ اللّهُ لَهُ » .
وأما قوله { ذَكَرُوا اللّهَ فاسْتَغْفرُوا لِذُنُوبِهِمْ } فإنه كما بينا تأويله¹ وبنحو ذلك كان أهل التأويل يقولون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، حدثنا ابن إسحاق : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } : أي إن أتوا فاحشة { أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } بمعصية ذكروا نهي الله عنها ، وما حرّم الله عنها ، فاستغفروا لها ، وعرفوا أنه لا يغفر الذنوب إلا هو .
وأما قوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّهُ } فإن اسم الله مرفوع ، ولا جحد قبله ، وإنما يرفع ما بعده إلا باتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد ، كقول القائل : ما في الدار أحد إلا أخوك¹ فأما إذا قيل : قام القوم إلا أباك ، فإن وجه الكلام في الأب النصب . و «مَنْ » بصلته في قوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنْوبَ إلاّ اللّهُ } معرفة فإن ذلك إنما جاء رفعا ، لأن معنى الكلام : وهل يغفر الذنوب أحد ، أو ما يغفر الذنوب أحد إلا الله ، فرفع ما بعد إلا من الله على تأويل الكلام ، لا على لفظه .
وأما قوله : { وَلَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويل الإصرار ومعنى الكلمة¹ فقال بعضهم : معنى ذلك : لم يثبتوا على ما أتوا من الذنوب ، ولم يقيموا عليه ، ولكنهم تابوا واستغفروا ، كما وصفهم الله به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلَمْ يُصِرّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فإياكم والإصرار ، فإنما هلك المصرّون الماضون قُدُما ، لا ينهاهم مخافة الله عن حرام حرّمه الله عليهم ، ولا يتوبون من ذنب أصابوه ، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلَمْ يِصِرّوا على مَا فعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال : قُدُما قُدُما في معاصي الله ، لا ينهاهم مخافة الله حتى جاءهم أمر الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { لا يَصِرّوا على ما فَعَلُوا وَهُم يَعْلَمُونَ } : أي لم يقيموا على معصيتي ، كفعل من أشرك بي فيما عملوا به من كفر بي .
وقال آخرون : معنى ذلك : لم يواقعوا الذنب إذا هموا به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : { ولَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا } قال : إتيان العبد ذنبا إصرارا حتى يتوب .
حدثني محمد عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { وَلَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا } قالوا : لم يواقعوا .
وقال آخرون : معنى الإصرار : السكوت على الذنب ، وترك الاستغفار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { ولم يُصِرّوا على ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } : أما يصرّوا : فيسكتوا ولا يستغفروا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا قول من قال : الإصرار الإقامة على الذنب عامدا ، أو ترك التوبة منه . ولا معنى لقول من قال : الإصرار على الذنب : هو مواقعته¹ لأن الله عزّ وجلّ مدح بترك الإصرار على الذنب مواقع الذنب ، فقال : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّهُ ولَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }¹ ولو كان المواقع الذنب مصرا بمواقعته إياه ، لم يكن للاستغفار وجه مفهوم ، لأن الاستغفار من الذنب إنما هو التوبة منه والندم ، ولا يعرف للاستغفار من ذنب لم يواقعه صاحبه وجه . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما أصَرّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وإنْ عادَ فِي اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرّةً » .
حدثني بذلك الحسين بن يزيد السبيعي ، قال : حدثنا عبد الحميد الحماني ، عن عثمان بن واقد ، عن أبي نصيرة ، عن مولى لأبي بكر ، عن أبي بكر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلو كان مواقع الذنب مصرّا ، لم يكن لقوله «ما أصَرّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وإنْ عادَ فِي اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرّةً » معنى ، لأن مواقعة الذنب ، إذا كانت هي الإصرار ، فلا يزيل الاسم الذي لزمه معنى غيره ، كما لا يزيل عن الزاني اسم زان ، وعن القاتل اسم قاتل توبته منه ، ولا معنى غيرها ، وقد أبان هذا الخبر أن المستغفر من ذنبه غير مصرّ عليه ، فمعلوم بذلك أن الإصرار غير الموقعة ، وأنه المقام عليه على ما قلنا قبل .
واختلف أهل التأويل في تأويل قولهم : { وَهْمْ يَعْلَمُونَ } فقال بعضهم : معناه : وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } : فيعلمون أنهم قد أذنبوا ، ثم أقاموا فلم يستغفروا .
وقال آخرون : معنى ذلك : وهم يعلمون أن الذين أتوا معصية الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال : يعلمون ما حرمت عليهم من عبادة غيري .