المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

40- واعلم يا موسى سابق عنايتنا بك حين مشت أختك ترقب أمرك ، فلما صرت في قصر فرعون ، ورأتهم يبحثون لك عن مُرْضِع دلَّتهم علي أمك ، فرددناك إليها لتفرح بحياتك وعودتك ، ولتكف عن الحزن والبكاء ، ولما كبرت وقتلت خطأ رجلا من قوم فرعون نجيناك من الغم الذي لحق بك ، وخلَّصناك من شرهم ، فذهبت إلي مدين ومكثت فيها سنين عدة ، ثم عدت من مدين في الموعد الذي قدرناه لإرسالك .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

فجاءت أخت موسى ، فقالت لهم : { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون }

{ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا } وهو القبطي لما دخل المدينة وقت غفلة من أهلها ، وجد رجلين يقتتلان ، واحد من شيعة موسى ، والآخر من عدوه قبطي { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه } فدعا الله وسأله المغفرة ، فغفر له ، ثم فر هاربا لما سمع أن الملأ طلبوه ، يريدون قتله .

فنجاه الله من الغم من عقوبة الذنب ، ومن القتل ، { وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا } أي : اختبرناك ، وبلوناك ، فوجدناك مستقيما في أحوالك أو نقلناك في أحوالك ، وأطوارك ، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه ، { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } حين فر هاربا من فرعون وملئه ، حين أرادوا قتله ، فتوجه إلى مدين ، ووصل إليها ، وتزوج هناك ، ومكث عشر سنين ، أو ثمان سنين ، { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } أي : جئت مجيئا قد مضى به القدر ، وعلمه الله وأراده في هذا الوقت وهذا الزمان وهذا المكان ، ليس مجيئك اتفاقا من غير قصد ولا تدبير منا ، وهذا يدل على كمال اعتناء الله بكليمه موسى عليه السلام ، ولهذا قال : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ تَمْشِيَ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَىَ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىَ أُمّكَ كَيْ تَقَرّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ وَفَتَنّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيَ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمّ جِئْتَ عَلَىَ قَدَرٍ يَمُوسَىَ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله " وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي " فقال بعضهم : معناه : ولتغذى وتربى على محبتي وإرادتي . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : " ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي " قال : هو غذاؤه ، ولتُغذى على عيني .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي " قال : جعله في بيت الملك ينعم ويترف غذاؤه عندهم غذاء الملك ، فتلك الصنعة .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأنت بعيني في أحوالك كلها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج " وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي " قال : أنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت ، ثم في البحر ، و إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ . وقرأ ابن نهيك : «وَلِتَصْنَعَ » بفتح التاء . وتأوّله كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد المؤمن ، قال : سمعت أبا نهيك يقرأ «وَلِتَصْنَعَ عَلى عَيْنِي » فسألته عن ذلك ، فقال : ولتعمل على عيني .

قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها وَلِتُصْنَعَ بضم التاء ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها . وإذا كان ذلك كذلك ، فأولى التأويلين به ، التأويل الذي تأوّله قَتادَة ، وهو : وَألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مِنّي ولتغذى على عيني ، ألقيت عليك المحبة مني . وعنى بقوله : عَلى عَيْنِي بمرأى مني ومحبة وإرادة .

وقوله : " إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أدُلّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ " يقول تعالى ذكره : حين تمشي أختك تتبعك حتى وجدتك ، ثم تأتي من يطلب المراضع لك ، فتقول : هل أدلكم على من يكلفه ؟ وحذف من الكلام ما ذكرت بعد قوله " إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ " استغناء بدلالة الكلام عليه . وإنما قالت أخت موسى ذلك لهم لِما :

حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما ألقته أمه في اليم قالَتْ لاِخْتِهِ قُصّيهِ فلما التقطه آل فرعون ، وأرادوا له المرضعات ، فلم يأخذ من أحد من النساء ، وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع ، فأبى أن يأخذ ، فقالت أخته : " هَلْ أدُلّكُمْ عَلى أهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ؟ " فأخذوها وقالوا : بل قد عرفِت هذا الغُلام ، فدلّينا على أهله ، قالت : ما أعرفه ، ولكن إنما قلت هم للملك ناصحون .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قالت ، يعني أمّ موسى لأخته : قصّيه فانظري ماذا يفعلون به ، فخرجت في ذلك فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وقد احتاج إلى الرضاع والتمس الثدي ، وجمعوا له المراضع حين ألقى الله محبتهم عليه ، فلا يؤتى بامرأة ، فيقبل ثديها ، فيرمضهم ذلك ، فيؤتى بمرضع بعد مرضع ، فلا يقبل شيئا منهم ، فقالت لهم أخته حين رأت من وجدهم به وحرصهم عليه " هَلْ أدُلّكُمْ عَلى أهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لكُم وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ " أي لمنزلته عندكم وحرصكم على مسرّة الملك ، وعنى بقوله : " هَلْ أدُلّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ " هل أدلكم على من يضمه إليه فيحفظه ويرضعه ويربيه . وقيل : معنى " وكَفّلَها زَكَرِيّا " ضمها .

وقوله : " فَرَجَعْناكَ إلى أُمّكَ كَيْ تَقَرّ عَيْنُها وَلا تَحْزَن " يقول تعالى ذكره : فرددناك إلى أمك بعد ما صرت في أيدي آل فرعون ، كيما تقرّ عينها بسلامتك ونجاتك من القتل والغرق في اليم ، وكيلا تحزن عليك من الخوف من فرعون عليك أن يقتلك ، كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما قالت أخت موسى لهم ما قالت ، قالوا : هات ، فأتت أمه فأخبرتها ، فانطلقت معها حتى أتتهم ، فناولوها إياه فلما وضعته في حجرها أخذ ثديها ، وسرّوا بذلك منه ، وردّه الله إلى أمه كي تقرّ عينها ، ولا تحزن ، فبلغ لطف الله لها وله ، أن ردّ عليها ولدها وعطف عليها نفع فرعون وأهل بيته مع الأمنة من القتل الذي يتخوف على غيره ، فكأنهم كانوا من أهل بيت فرعون في الأمان والسعة ، فكان على فرش فرعون وسرره .

وقوله : " وَقَتَلْتَ نَفْسا " يعني جلّ ثناؤه بذلك : قتله القبطي الذي قتله حين استغاثه عليه الإسرائيلي ، فوكزه موسى . وقوله : " فَنَجّيْناكَ مِنَ الغَمّ " يقول تعالى ذكره : فنجيناك من غمك بقتلك النفس التي قتلت ، إذ أرادوا أن يقتلوك بها فخلصناك منهم ، حتى هربت إلى أهل مدين ، فلم يصلوا إلى قتلك وقودك . وكان قتله إياه فيما ذُكر خطأ ، كما :

حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبيه ، عن سالم ، عن عبد الله بن عمر ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّمَا قَتَلَ مُوسَى الّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطأ ، فقال اللّهُ لَهُ : وَقَتَلْتَ نَفْسا فَنَجَيّنْاكَ مِنَ الغَمّ وَفَتَنّاكَ فُتُونا » .

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، ومحمد بن عمرو ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " فَنَجّيْناك مِنَ الغَمّ " قال : من قتل النفس .

حدثنا بِشْر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " فَنَجّيْناكَ مِنَ الغَمّ " النفس التي قتل .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله " وَفَتَنّاكَ فُتُونا " فقال بعضهم : ابتليناك ابتلاء واختبرناك اختبارا . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " وَفَتَنّاكَ فُتُونا " يقول : اختبرناك اختبارا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، " وَفَتَنّاكَ فُتُونا " قال : ابتليت بلاء .

حدثني العباس بن الوليد الاَملي ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا أصبغ بن زيد الجهني ، قال : أخبرنا القاسم بن أيوب ، قال : ثني سعيد بن جبير ، قال : سألت عبد الله بن عباس ، عن قول الله لموسى " وَفَتَنّاكَ فُتُونا " فسألته على الفتون ما هي ؟ فقال لي : استأنف النهار يا بن جبير ، فإن لها حديثا طويلاً ، قال : فلما أصبحت غدوت على ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني ، قال : فقال ابن عباس : تذاكر فرعون وجلساؤه ما وعد الله إبراهيم أن يجعل في ذرّيته أنبياء وملوكا ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك وما يشكون ، ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان الله وعد إبراهيم ، فقال فرعون : فكيف ترون ؟ قال : فأتمروا بينهم ، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، وأن الصغار يذبحون قالوا : يوشك أن تفنوا بني إسرائيل ، فتصيرون إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاما كلّ مولود ذكر ، فيقلّ أبناؤهم ، ودعوا عاما لا تقتلوا منهم أحدا ، فتشبّ الصغار مكان من يموت من الكبار ، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم ، فتخافون مكاثرتهم إياكم ، ولن يقلوا بمن تقتلون ، فأجمعوا أمرهم على ذلك .

فحملت أمّ موسى بهارون في العام المقبل الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة ، حتى إذا كان العام المقبل حملت بموسى ، فوقع في قلبها الهمّ والحزن ، وذلك من الفتون يا ابن جبير ، مما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به ، فأوحى الله إليها ألاّ تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إنّا رَادّوهُ إلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ ، وأمرها إذا ولدته أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم فلما ولدته فعلت ما أمرت به ، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبليس ، فقالت في نفسها : ما صنعت بابني لو ذبح عندي ، فواريته وكفنته كان أحبّ إليّ من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابه ، فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري آل فرعون ، فرأينه فأخذنه ، فهممن أن يفتحن الباب ، فقال بعضهنّ لبعض : إن في هذا مالاً ، وإنا إن فتحناه لم تصدّقنا امرأة فرعون بما وجدنا فيه ، فحملنه كهيئته لم يحرّكن منه شيئا ، حتى دفعنه إليها فلما فتحته رأت فيه الغلام ، فأُلقي عليه منها محبة لم يُلق مثلها منها على أحد من الناس وأصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فارِغا من كلّ شيء إلا من ذكر موسى .

فلما سمع الذبّاحون بأمره أقبلوا إلى امرأة فرعون بشفارهم يريدون أن يذبحوه ، وذلك من الفتون يا ابن جُبير فقالت للذباحين : انصرفوا عني ، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل ، فآتي فرعون فأستوهبه إياه ، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم . فلما أتت به فرعون قالت : قرّةُ عَينٍ لِي وَلَكَ قال فرعون : يكون لك ، وأما أنا فلا حاجة لي فيه . فقال : والذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرّة عين كما أقرّت به ، لهداه الله به كما هدى به امرأته ، ولكن الله حرمه ذلك . فأرسلت إلى من حولها من كلّ أنثى لها لبن ، لتختار له ظِئرا ، فجعل كلما أخذته امرأة منهم لترضعه لم يقبل ثديها ، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فحزنها ذلك ، فأمرت به فأخرج إلى السوق مجمع الناس ترجو أن تصيب له ظئرا يأخذ منها ، فلم يقبل من أحد .

وأصبحت أمّ موسى ، فقالت لأخته : قُصّيه واطلبيه ، هل تسمعين له ذكرا ، أحيّ ابني ، أو قد أكلته دوابّ البحر وحيتانه ؟ ونسيت الذي كان الله وعدها ، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون ، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤورات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ، فأخذوها وقالوا : وما يدريك ما نصحهم له ؟ هل يعرفونه ؟ حتى شكوا في ذلك ، وذلك من الفتون يا ابن جُبير فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه ، رغبتهم في ظؤورة الملك ، ورجاء منفعته ، فتركوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر ، فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها حتى امتلأ جنباه ، فانطلق البُشَراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا ، فأرسلت إليها ، فأتيت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت : امكثي عندي حتى ترضعي ابني هذا فإني لم أحبّ حبه شيئا قطّ قال : فقالت : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي ، فيضيع ، فإن طابت نفسك أن تعطينيه ، فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا فعلت ، وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي وذكرت أمّ موسى ما كان الله وعدها ، فتعاسرت على امرأة فرعون ، وأيقنت أن الله تبارك وتعالى منجز وعده ، فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها ، فأنبته الله نباتا حسنا ، وحفظه لما قضى فيه ، فلم يزل بنو إسرائيل وهم مجتمعون في ناحية المدينة يمتنعون به من الظلم والسخرة التي كانت فيهم .

فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأمّ موسى : أزيريني ابني . فوعدتها يوما تزيرها إياه فيه ، فقالت لخواصّها وظؤورتها وقهارمتها : لا يبقينّ أحد منكم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة ليرى ذلك ، وأنا باعثة أمينة تحصي كلّ ما يصنع كلّ إنسان منكم فلم تزل الهدية والكرامة والتحف تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون . فلما دخل عليها نحلته وأكرمته ، وفرحت به ، وأعجبها ما رأت من حُسن أثرها عليه ، وقالت : انطلقن به إلى فرعون ، فلينحله ، وليكرمه . فلما دخلوا به عليه جعلته في حجره ، فتناول موسى لحية فرعون حتى مدّها ، فقال عدوّ من أعداء الله : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم أنه سيصرعك ويعلوك ، فأرسِلْ إلى الذباحين ليذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جُبير ، بعد كلّ بلاء ابتلي به وأريد به . فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون ، فقالت : ما بدا لك في هذا الصبيّ الذي قد وهبته لي ؟ قال : ألا ترين يزعم أنه سيصرعني ويعلوني ، فقالت : اجعل بيني وبينك أمرا تعرف فيه الحقّ ، ائت بجمرتين ولؤلؤتين ، فقرّبهنّ إليه ، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين علمت أنه يعقل وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين ، فاعلم أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل ، فقرّب ذلك إليه ، فتناول الجمرتين ، فنزعوهما منه مخافة أن تحرقا يده ، فقالت المرأة : ألا ترى ؟ فصرفه الله عنه بعد ما قد همّ به ، وكان الله بالغا فيه أمره .

فلما بلغ أشدّه ، وكان من الرجال ، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة ، حتى امتنعو كلّ امتناع . فبينما هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة ، إذ هو برجلين يقتتلان ، أحدهما من بني إسرائيل ، والاَخر من آل فرعون ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب موسى واشتدّ غضبه ، لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل ، وحفظه لهم ، ولا يعلم الناس إلا أنما ذلك من قِبَل الرضاعة غير أمّ موسى ، إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره فوكز موسى الفرعوني فقتله ، وليس يراهما أحد إلا الله والإسرائيلي ، فقال موسى حين قتل الرجل : " هَذَا مِنْ عَمَل الشّيْطانِ إنّه عَدوّ مُضلّ مُبِينٌ " ثم قال : " رَبّ إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إنهُ هُوَ الغَفُورُ الرّحِيم فأصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خائِفا يَتَرَقّبُ " الأخبار ، فأتى فرعون ، فقيل له : إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلاً من آل فرعون ، فخُذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم في ذلك ، فقال : ابغوني قاتله ومن شهد عليه ، لأنه لا يستقيم أن يقضي بغير بيّنه ولا ثبت ، فطلبوا له ذلك فبينما هم يطوفون لا يجدون ثَبَتا ، إذ مرّ موسى من الغد ، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس وكره الذي رأى ، فغضب موسى ، فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، قال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم إنّكَ لَغَوِيّ مُبِينٌ فنظر الإسرائيلي موسى بعد ما قال ، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني ، فخاف أن يكون بعد ما قال له إنّكَ لَغَوِيّ مُبِينٌ أن يكون إياه أراد ، ولم يكن أراده ، وإنما أراد الفرعوني ، فخاف الإسرائيلي ، فحاجز الفرعوني فقال : يا مُوسَى أتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِي كمَا قَتَلْتَ نَفْسا بالأَمْسِ وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله ، فتتاركا فانطلق الفرعوني إلى قومه ، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ؟ فأرسل فرعون الذباحين ، فسلك موسى الطريق الأعظم ، فطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم . وجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة ، فاختصر طريقا قريبا حتى سبقهم إلى موسى ، فأخبره الخبر ، وذلك من الفتون يا ابن جُبير .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : " فُتُونا " قال : بلاءً ، إلقاؤه في التابوت ، ثم في البحر ، ثم التقاط آل فرعون إياه ، ثم خروجه خائفا .

قال محمد بن عمرو ، وقال أبو عاصم : خائفا ، أو جائعا «شكّ أبو عاصم » ، وقال الحارث : خائفا يترقب ، ولم يشكّ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله وَقال : " خَائِفا يَتَرقّبُ " ، ولم يشكّ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وَفَتَنّاكَ فُتُونا " يقول : ابتليناك بلاءً .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وَفَتَنّاكَ فُتُونا " هو البلاء على إثر البلاء .

وقال آخرون : معنى ذلك : أخلصناك . ذكر من قال ذلك :

حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " وَفَتَنّاكَ فُتُونا " أخلصناك إخلاصا .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يعلى بن مسلم ، قال : سمعت سعيد بن جُبير ، يفسّر هذا الحرف : " وَفَتَنّاكَ فُتُونا " قال : أخلصناك إخلاصا .

قال أبو جعفر : وقد بيّنا فيما مضى من كتابنا هذا معنى الفتنة ، وأنها الابتلاء والاختبار بالأدلة المُغنية عن الإعادة في هذا الموضع .

وقوله : " فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أهْلِ مَدْيَنَ " وهذا الكلام قد حذف منه بعض ما به تمامه اكتفاء بدلالة ما ذكر عما حذف . ومعنى الكلام : وفتناك فتونا ، فخرجت خائفا إلى أهل مدين ، فلبثت سنين فيهم .

وقوله : " ثُمّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسَى " يقول جلّ ثناؤه : ثم جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون رسولاً ولمقداره . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " ثُمّ جئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسَى " يقول : لقد جئت لميقات يا موسى .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن مجاهد ، قال : " عَلى قَدَرٍ يا مُوسَى " قال : موعد .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : على ذي موعد .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " عَلى قَدَرٍ يا مُوسَى " قال : قدر الرسالة والنبوّة .

والعرب تقول : جاء فلان على قدر : إذا جاء لميقات الحاجة إليه ومنه قول الشاعر :

نالَ الخِلافَةَ أوْ كانَتْ لَهُ قَدَرا *** كمَا أتَى رَبّهُ مُوسعى عَلى قَدَرِ

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

العامل في { إذ } فعل مضمر تقديره ومننا إذ ، وتقدم تفسير هذه الآية في القصص المذكور آنفاً . وقرأت فرقة «تقَر » بفتح القاف ، وقرأت فرقة بكسر القاف والنفس هي نفس القطبي الذي كان يقاتل الإسرائيلي فوكزه موسى فقضى عليه ، و { الغم } هم النفس وكان هم موسى بأمر من طلبه ليثأر به . وقوله { فتناك فتوناً } معناه خلصناك تخليصاً{[8106]} . هذا قول جمهور المفسرين . وقالت فرقة معناه اختبرناك وعلى هذا التأويل لا يراد إلا ما اختبر به موسى بعد بلوغه وتكليفه وما كان قبل ذلك فلا يدخل في اختبار موسى وعده سنيه { في أهل مدين } عشرة أعوام لأنه إنما قضى أوفى الأجلين وقوله { على قدر } أي بميقات محدودة{[8107]} للنبوة التي قد أرداها الله بك ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]

نال الخلافة إذ كانت له قدراً . . . كما أتى ربه موسى على قدر{[8108]}


[8106]:تعبير الطبري، والقرطبي وغيرهما من المفسرين: "أخلصناك إخلاصا"، وهذا القول منسوب إلى مجاهد رضي الله عنه، والمعنى: خلصه من كل مالا يلائم النبوة حتى أصبح صالحا.
[8107]:الأصح أن يقال: بميقات محدد؛ لأن الشيء المحدود هو القليل.
[8108]:البيت لجرير، وهو من قصيدة له يمدح بها عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهو في الديوان، والطبري، والبحر، والقرطبي، والمغني، والرواية فيه: جاء الخلافة، وفي الديوان: (نال الخلافة إذ كانت)، ويروى: (عز الخلافة بل كانت له قدرا) ومعناها: أخذ الخلافة بعز وقهر، قال صاحب اللسان: "يقال: قدر الإله كذا تقديرا، وإذا وافق الشيء الشيء قلت: جاء قدره، وقال ابن سيدة: القدر والقدر ـ بسكون الدال وفتحها ـ: القضاء والحكم، وهو ما يقدره الله عز وجل من القضاء، ويحكم به من الأمور"، فالشاهد في البيت قوله: {على قدر}، إذ المعنى: بقضاء الله وتوفيقه.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

{ إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فجعناك غلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن }

وأخت موسى : مريم ابنة عمران . وفي التّوراة : أنّها كانت نبيئة كما في الإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج . وتوفيت مريم سنة ثلاث من خروج بني إسرائيل من مصر في برية صِين كما في الإصحاح التاسع عشر من سفر العدد . وذلك سنة 1417 قبل المسيح .

وقرأه الجمهور بكسر اللام على أنها لام كي وبنصب فعل تُصنَعَ . وقرأه أبو جعفر بسكون اللاّم على أنها لام الأمر وبجزم الفعل على أنّه أمر تكويني ، أي وقلنا : لتصنع .

وقوله على عيني } ( على ) منه للاستعلاء المجازي ، أي المصاحبة المتمكنة ، فعلى هنا بمعنى باء المصاحبة قال تعالى : { فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ] .

والعَين : مجاز في المراعاة والمراقبة كقوله تعالى : { واصنع الفلك بأعيننا } [ هود : 37 ] ، وقول النابغة :

عهدتك ترعاني بعينٍ بصيرة *** وتبعثُ حُراساً عليّ وناظِرا

وقع اختصار في حكاية قصة مشي أخته ، وفصّلت في سورة القصص .

والاستفهام في { هَلْ أدُلُكُمْ } للعَرْض . وأرادت ب { مَن يَكْفُلُهُ } أمّه . فلذلك قال { فرجعناك إلى أُمِّكَ } .

وهذه منّة عليه لإكمال نمائه ، وعلى أمّه بنجاته فلم تفارق ابنها إلاّ ساعات قلائل ، أكرمها الله بسبب ابنها .

وعطفُ نفي الحزن على قرّة العين لتوزيع المنّة ، لأنّ قرّة عينها برجوعه إليها . وانتفاءَ حزنها بتحقق سلامته من الهلاك ومن الغرق وبوصوله إلى أحسن مأوى . وتقديم قرّة العين على انتفاء الحزن مع أنها أخص فيغني ذكرها عن ذكر انتفاء الحزن ؛ روعي فيه مناسبة تعقيب { فرجعناك إلى أُمِّكَ } بما فيه من الحكمة ، ثم أكمل بذكر الحكمة في مشي أخته فتقول : { هل أدلكم على من يكفله في بيتها ، وكذلك كان شأن المراضع ذوات الأزواج كما جاء في حديث حليمة ، وكذلك ثبت في التّوراة في سفر الخروج .

{ وَقَتَلْتَ نَفْساً فنجيناك مِنَ الغم وفتناك فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يا موسى }

جملة { وقَتَلْتَ } عطف على جملة { ولقد منّنا عليك مرة أخرى } لأنّ المذكور في جملة { وقتلت نفساً } منّة أخرى ثالثة .

وقدم ذكر قتله النفس على ذكر الإنجاء من الغم لتعظيم المنّة ، حيث افتتحت القصّة بذكر جناية عظيمة التبعة ، وهي قتل النّفس ليكون لقوله { فنجيناك } موقع عظيم من المنّة ، إذ أنجاه من عقوبة لا ينجو من مثلها مثلُه .

وهذه النفس هي نفس القبطيّ من قوم فرعون الذي اختصم مع رجل من بني إسرائيل في المدينة فاستغاث الإسرائيلي بموسى لينصره فوكز موسى القبطيّ فقضى عليه كما قصّ ذلك في سورة القصص .

والغمّ : الحزن . والمعنيّ به ما خامر موسى من خوف الاقتصاص منه ، لأنّ فرعون لما بلغه الخبر أضمر الاقتصاص من موسى للقبطي إذ كان القبط سادة الإسرائيليين ، فليس اعتداء إسرائيلي على قبطي بهيّن بينهم . ويظهر أنّ فرعون الذي تبنى موسى كان قد هلك قبل ذلك .

والفُتون : مصدر فَتن ، كالخُروج ، والثُبور ، والشُكور ، وهو مفعول مطلق لتأكيد عامله وهو { فتنّاك } ، وتنكيرهُ للتعظيم ، أي فتوناً قويّاً عظيماً .

والفتون كالفتنة : هو اضطراب حال المرء في مدّة من حياته . وتقدّم عند قوله تعالى : { والفتنة أشدّ من القتل } في سورة البقرة ( 191 ) . ويظهر أن الفتون أصل مصدر فتن بمعنى اختبر ، فيكون في الشرّ وفي الخير . وأما الفتنة فلعلّها خاصة باختبار المضرّ . ويظهر أن التنوين في فتوناً للتقليل ، وتكون جملة { وفتناك فُتُوناً } كالاستدراك على قوله { فنجيناك مِنَ الغَمّ } ، أي نجيناك وحصل لك خوف ، كقوله { فأصبح في المدينة خائفاً يترقب } [ القصص : 18 ] فذلك الفتون .

والمراد بهذا الفتون خوف موسى من عقاب فرعون وخروجه من البلد المذكور في قوله تعالى : { فأصبح في المدينة خائفاً يترقب إلى قوله : { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفاً يترقّب قال رب نجنّي من القوم الظالمين } [ القصص : 18 21 ] .

وذكر الفتون بين تعداد المن إدماج للإعلام بأن الله لم يهمل دم القبطيّ الذي قتله موسى ، فإنه نفس معصومة الدم إذ لم يحصل ما يوجب قتله لأنّهم لم تَرِد إليهم دعوة إلهية حينئذ . فحين أنجى الله موسى من المؤاخذة بدمه في شرع فرعون ابتلَى موسى بالخوف والغربة عتاباً له على إقدامه على قتل النفس ، كما قال في الآية الأخرى : { قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له } [ القصص : 15 16 ] . وعباد الله الذين أراد بهم خيراً ورعاهم بعنايته يجعل لهم من كلّ حالة كمالاً يكسبونه ، ويُسمى مثل ذلك بالابتلاء ، فكان من فتون موسى بقضيّة القبطيّ أن قدر له الخروج إلى أرض مدين ليكتسب رياضة نفس وتهيئةَ ضمير لتحمّل المصاعب ، ويتلقّى التهذيب من صهره الرسول شعيب عليه السلام . ولهذا المعنى عقب ذكر الفتون بالتفريع في قوله { فَلِبثْتَ سِنينَ في أهلِ مَديَنَ ثمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يامُوسى } فبين له كيف كانت عاقبة الفتون .

أو يكون الفتون مشتركاً بين محمود العاقبة وضدّه مثل الابتلاء في قوله : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } [ الأعراف : 168 ] ، أي واختبرناك اختباراً ، والاختبار : تمثيل لحال تكليفه بأمر التبليغ بحال من يختبر ، ولهذا اختير هنا دون الفتنة .

وأهل مدين : قوم شعيب . ومَدْيَن : اسم أحد أبناء إبراهيم عليه السلام سكنت ذريته في مواطن تسمى الأيْكة على شاطىء البحر الأحمر جنوب عقبة أيلة ، وغلب اسم القبيلة على الأرض وصار علماً للمكان فمن ثمّ أضيف إليه ( أهل ) . وقد تقدم في سورة الأعراف .

ومعنى { جئتَ } حضرتَ لدينا ، وهو حضوره بالواد المقدّس لتلقي الوحي .

و ( على ) للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن ؛ جعل مجيئه في الوقت الصالح للخير بمنزلة المستعلي على ذلك الوقت المتمكن منه .

والقدَر : تقدير الشيء على مقدار مناسب لما يريد المقدّر بحيث لم يكن على سبيل المصادفة ، فيكون غير ملائم أو في ملاءَمتِه خلَل ، قال النّابغة :

فريع قلبي وكانتْ نظرةً عرضت *** يوماً وتوفيق أقدار لأقدار

أي موافقة ما كنتُ أرغبه .

فقوله { ثم جئت على قدر يا موسى } يفيد أنّ ما حصل لموسى من الأحوال كان مقدّراً من الله تقديراً مناسباً متدرجاً ، بحيث تكون أعماله وأحواله قد قدّرها الله وحددها تحديداً منظماً لأجل اصطفائه وما أراد الله من إرساله ، فالقدر هنا كناية عن العناية بتدبير إجراء أحواله على ما يسفر عن عاقبة الخير .

فهذا تقدير خاص ، وهو العناية بتدرج أحواله إلى أن بلغ الموضع الذي كلّمه الله منه .

وليس المراد القَدر العام الذي قدّره الله لتكوين جميع الكائنات ، فإن ذلك لا يُشعر بمزية لموسى عليه السلام . وقد انتبَه إلى هذا المعنى جرير بذوقه السليم فقال في مدح عمر بن عبد العزيز :

أتى الخلافة إذْ كانت له قَدراً *** كما أتَى ربّه موسى على قَدَر