{ إن تمسسكم حسنة } كالنصر على الأعداء وحصول الفتح والغنائم { تسؤهم } أي : تغمهم وتحزنهم { وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط } فإذا أتيتم بالأسباب التي وعد الله عليها النصر - وهي الصبر والتقوى- لم يضركم مكرهم ، بل يجعل الله مكرهم في نحورهم لأنه محيط بهم علمه وقدرته فلا منفذ لهم عن ذلك ولا يخفى عليهم منهم شيء .
{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ لاَ يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }
يعني بقوله تعالى ذكره : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } إنْ تَنالُوا أيها المؤمنون سرورا بظهوركم على عدوّكم ، وتتابع الناس في الدخول في دينكم ، وتصديق نبيكم ، ومعاونتكم على أعدائكم ، يسؤهم . وإن تنلكم مساءة بإخفاق سرية لكم ، أو بإصابة عدوّ لكم منكم ، أو اختلاف يكون بين جماعتكم يفرحوا بها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإنْ تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها } ، فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا على عدوّهم ، غاظهم ذلك وساءهم ، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرّهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به ، فهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته وأوطأ محلته ، وأبطل حجته ، وأظهر عورته ، فذاك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإنْ تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها } قال : هم المنافقون إذا رأوا من أهل الإسلام جماعة وظهورا على عدوّهم ، غاظهم ذلك غيظا شديدا وساءهم ، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا ، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين ، سرّهم ذلك وأعجبوا به¹ قال الله عزّ وجلّ : { وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا إنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } قال : إذا رأوا من المؤمنين جماعة وألفة ساءهم ذلك ، وإذا رأوا منهم فرقة واختلافا فرحوا .
وأما قوله : { وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا } فإنه يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإن تصبروا أيها المؤمنون على طاعة الله ، واتباع أمره فيما أمركم به ، واجتناب ما نهاكم عنه ، من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين ، وغير ذلك من سائر ما نهاكم ، وتتقوا ربكم ، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم ، وأوجب عليكم من حقه وحقّ رسوله ، لا يضرّكم كيدهم شيئا : أي كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم . ويعني بكيدهم : غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين ومكرهم بهم ليصدّوهم عن الهدى وسبيل الحقّ .
واختلف القراء في قراءة قوله : { لا يَضُرّكُمْ } فقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز وبعض البصريين : «لا يَضِرْكُمْ » مخففة بكسر الضاد من قول القائل : ضارني فلان فهو يضيرني ضَيْرا ، وقد حكي سماعا من العرب : ما ينفعني ولا يضورني . فلو كانت قرئت على هذه اللغة لقيل : لا يضركم كيدهم شيئا ، ولكني لا أعلم أحدا قرأ به ، وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة وعامة قراء أهل الكوفة : { لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا } بضم الضاد وتشديد الراء من قول القائل : ضرّني فلان فهو يضرّني ضرّا .
وأما الرفع في قوله : { لا يَضُرّكُمْ } فمن وجهين : أحدهما على إتباع الراء في حركتها ، إذ كان الأصل فيها الجزم ، ولم يمكن جزمها لتشديدها أقرب حركات الحروف التي قبلها ، وذلك حركة الضاد ، وهي الضمة ، فألحقت بها حركة الراء لقربها منها ، كما قالوا : مُدّ يا هذا . والوجه الاَخر من وجهي الرفع في ذلك : أن تكون مرفوعة على صحة ، وتكون «لا » بمعنى «ليس » ، وتكون الفاء التي هي جواب الجزاء متروكة لعلم السامع بموضعها . وإذا كان ذلك معناه ، كان تأويل الكلام : وإن تصبروا وتتقوا فليس يضرّكم كيدهم شيئا ، ثم تركت الفاء من قوله : { لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ } ووجهت «لا » إلى معنى «ليس » ، كما قال الشاعر :
فإنْ كانَ لا يُرْضِيكَ حتى تَرُدّنِي *** إلى قَطَرِيّ لا إخالُكَ رَاضِيا
ولو كانت الراء محركة إلى النصب والخفض كان جائزا ، كما قيل : مُدّ يا هذا ، ومُدّ .
وقوله : { إنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } يقول جل ثناؤه : إن الله بما يعمل هؤلاء الكفار في عباده وبلاده من الفساد والصدّ عن سبيله والعداوة لأهل دينه وغير ذلك من معاصي الله ، محيط بجميعه ، حافظ له لا يعزب عنه شيء منه ، حتى يوفيهم جزاءهم على ذلك كله ويذيقهم عقوبته عليه .
«الحسنة والسيئة » في هذه الآية لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء ، وما ذكر المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم وغير ذلك من الأقوال ، فإنما هي أمثلة وليس ذلك باختلاف وذكر تعالى «المس في الحسنة » ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ، ثم عادل ذلك بالسيئة بلفظ الإصابة وهي عبارة عن التمكن ، لأن الشيء المصيب لشيء فهو متمكن منه أو فيه ، فدل هذا المنزع البليغ على شدة العداوة ، إذ هو حقد لا يذهب عند الشدائد ، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين ، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب ، ولا سيما في مثل هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة وقد قال الشاعر : [ البسيط ]
كلٌّ العداوةِ قَدْ تُرجى إزالَتُها . . . إلاّ عداوةَ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ{[3468]}
ولما قرر تعالى هذا الحال لهؤلاء المذكورين ، ووجبت الآية أن يعتقدهم المؤمنون بهذه الصفة ، جاء قوله تعالى : { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً } تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم ، وشرط ذلك بالصبر والتقوى ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : «لا يضِرْكم » بكسر الضاد وجزم الراء وهو من ضار يضير بمعنى ضر يضر وهي لغة فصيحة ، وحكى الكسائي : ضار يضور ، ولم يقرأ على هذه اللغة ، ومن ضار يضير في كتاب الله { لا ضير }{[3469]} ومنه قول أبي ذؤيب الهذلى :
فَقِيلَ تَحْمَّلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إنّها . . . مُطَبَّعَةٌ مَنْ يأتِها لا يَضِيرُها{[3470]}
يصف مدينة ، والمعنى فليس يضيرها ، وفي هذا النفي المقدر بالفاء هو جواب الشرط ، ومن اللفظ قول توبة بن الحمير :
وَقالَ أُنَاسٌ لا يُضِيرُكَ نَأْيُها . . . بَلَى كلُّ ما شقَّ النُّفوسَ يَضِيرُها{[3471]}
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : «لا يضُرُّكم » بضم الضاد والراء والتشديد في الراء ، وهذا من ضر يضر ، وروي عن حمزة مثل قراءة أبي عمرو ، وأما إعراب هذه القراءة فجزم ، وضمت الراء للالتقاء ، وهو اختيار سيبويه في مثل هذا إتباعاً لضمة الضاد ، ويجوز فتح الراء وكسرها مع إرادة الجزم ، فما الكسر فلا أعرفها قراءة ، وعبارة الزجّاج في هذا متجوز فيها ، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة ، وأما فتح الراء من قوله «لا يضرَّكم » فقرأ به عاصم فيما رواه أبو زيد عن المفضل عنه ، ويجوز أيضاً أن يكون إعراب قوله ، «لا يضركم » ، رفعاً إما على تقدير ، فليس يضركم ، على نحو تقدم في بيت أبي ذؤيب ، وإما على نية التقدم على «وإن تصبروا » كما قال [ جرير بن عبد الله ] : [ الرجز ]
يَا أقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أَقْرَعُ . . . إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أَخْوكَ تُصْرَعُ{[3472]}
المراد أنك تصرع ، وقرأ أبي بن كعب : «لا يضرركم » براءين وذلك على فك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز وعليها تعالى في الآية { إن تمسسكم } ولغة سائر العرب الإدغام في مثل هذا كله ، و «الكيد » الاحتيال بالأباطيل وقوله تعالى : { وأكيد كيداً }{[3473]} إنما هي تسمية العقوبة باسم الذنب ، وقوله تعالى : { إن الله بما يعملون محيط } وعيد ، والمعنى محيط جزاؤه وعقابه وبالقدرة والسلطان ، وقرأ الحسن : «بما تعملون » بالتاء ، وهذا إما على توعد المؤمنين في اتخاذ هؤلاء بطانة ، وإما على توعد هؤلاء المنافقين بتقدير : قل لهم يا محمد .
{ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها }
زاد الله كشفا لِما في صدورهم بقوله : { إن تمسسكم حسنة نسؤهم } أي تصبكم حسنة والمسّ الإصابة ، ولا يختصّ أحدهما بالخير والآخر بالشرّ ، فالتَّعبير بأحدهما في جانب الحسنة ، وبالآخر في جانب السيِّئة ، تفنّن ، وتقدّم عند قوله تعالى : { كالذي يتخبطه الشيطان } من المس في سورة البقرة ( 275 ) .
والحسنة والسيِّئة هنا الحادثة أو الحالة الَّتي تحسن عند صاحبها أو تسوء وليس المراد بهما هنا الاصطلاح الشَّرعي .
وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضِرْكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } .
أرشد الله المؤمنين إلى كيفية تلقّي أذى العدوّ : بأن يتلقّوه بالصّبر والحذر ، وعبّر عن الحذر بالاتّقاء أي اتّقاء كيدهم وخداعهم ، وقوله { لا يَضِركم كيدهم شيئاً } أي بذلك ينتفي الضرّ كلّه لأنّه أثبت في أوّل الآيات أنّهم لا يضرّون المؤمنين إلاّ أذى ، فالأذى ضرّ خفيف ، فلمَّا انتفى الضرّ الأعظم الَّذي يحتاج في دفعه إلى شديدِ مقاومة من القتال وحراسة وإنفاق ، كان انتفاء ما بَقي من الضرّ هيّناً ، وذلك بالصّبر على الأذى ، وقلّة الاكتراث به ، مع الحذر منهم أن يتوسّلوا بذلك الأذى إلى ما يوصل ضرّاً عظيماً . وفي الحديث : « لا أحد أصبر على أذى يسمعه من اللَّهِ يدعون له نِدّاً وهو يرزقهم » .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : { لا يضركم } بكسر الضاد وسكون الراء من ضارُه يضيره بمعنى أضرّه . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف بضم الضاد وضم الراء مشدّدة مِن ضرّهُ يضُرّه ، والضمّة ضمّة إتباع لحركة العين عند الإدغام للتخلّص من التقاء الساكنين : سكون الجزم وسكونِ الإدغام ، ويجوز في مثله من المضموم العين في المضارع ثلاثةُ وجوه في العربية : الضمّ لإتباع حركة العين ، والفتح لخفّته ، والكسر لأنَّه الأصل في التخلّص من التقاء الساكنين ، ولم يُقرأ إلاّ بالضمّ في المتواتر .