{ فَلَمَّا بَلَغَ } الغلام { مَعَهُ السَّعْيَ } أي : أدرك أن يسعى معه ، وبلغ سنا يكون في الغالب ، أحب ما يكون لوالديه ، قد ذهبت مشقته ، وأقبلت منفعته ، فقال له إبراهيم عليه السلام : { إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } أي : قد رأيت في النوم والرؤيا ، أن اللّه يأمرني بذبحك ، ورؤيا{[766]} الأنبياء وحي { فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } فإن أمر اللّه تعالى ، لا بد من تنفيذه ، { قَالَ } إسماعيل صابرا محتسبا ، مرضيا لربه ، وبارا بوالده : { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } أي : [ امض ] لما أمرك اللّه { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } أخبر أباه أنه موطن نفسه على الصبر ، وقرن ذلك بمشيئة اللّه تعالى ، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة اللّه تعالى .
وقوله : فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ يقول : فلما بلغ الغلام الذي بشر به إبراهيم معَ إبراهيم العملَ ، وهو السعي ، وذلك حين أطاق معونته على عمله .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَلَمَا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ يقول : العمل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قال : لما شبّ حتى أدرك سعيُه سَعْيَ إبراهيمَ في العمل .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : لما شبّ حين أدرك سعيه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قال : سعي إبراهيم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ : سَعَي إبراهيم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قال : السّعْيُ ها هنا العبادة .
وقال آخرون : معنى ذلك : فلما مشى مع إبراهيم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ : أي لما مشى مع أبيه .
وقوله : قالَ يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم خليل الرحمن لابنه : يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ وكان فيما ذكر أن إبراهيم نذر حين بشّرته الملائكة بإسحاق ولدا أن يجعله إذا ولدته سارّة لله ذبيحا فلما بلغ إسحاقُ مع أبيه السّعْي أُرِي إبراهيم في المنام ، فقيل له : أوف لله بنذرك ، ورؤيا الأنبياء يقين ، فلذلك مضى لما رأى في المنام ، وقال له ابنه إسحاق ما قال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال جبرائيل لسارَة : أبشري بولد اسمه إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، فضربت جبهتها عَجَبا ، فذلك قوله : فَصَكّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ يا وَيْلَتَي أأَلِدُو وأنا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ إلى قوله : حَمِيدٌ مَجِيدٌ قالت سارَة لجبريل : ما آية ذلك ؟ فأخذ بيده عودا يابسا ، فلواه بين أصابعه ، فاهتزّ أخضر ، فقال إبراهيم : هو لله إذن ذَبيح فلما كبر إسحاق أُتِيَ إبراهيمُ في النوم ، فقيل له : أوفِ بنذرك الذي نَذَرْتَ ، إن الله رزقك غلاما من سارَة أن تذبحه ، فقال لإسحاق : انطلق نقرّب قُرْبانا إلى الله ، وأخذ سكينا وحبلاً ، ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام : يا أبت أين قُرْبانُك ؟ قالَ يا بنيّ أرَى في المَنامِ أنّي أذْبحُكَ فَانْظُرْ ماذَا تَرَى قالَ يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ فقال له إسحاق : يا أَبَتِ اشْدُد رِباطي حتى لا أضطرب ، واكففْ عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء ، فتراه سارَة فتحْزَن ، وأسْرعْ مرّ السكين على حَلْقي ليكون أهون للموت عليّ ، فإذا أتيتَ سارَة فاقرأ عليها مني السلام فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي ، حتى استنقع الدموع تحت خدّ إسحاق ، ثم إنه جرّ السكين على حلقه ، فلم تَحِكِ السكين ، وضرب الله صفيحة من نحاس على حلق إسحاق فلما رأى ذلك ضرب به على جبينه ، وحزّ من قفاه ، فذلك قوله : فَلَمّا أسْلَما يقول : سلّما لله الأمر وَتَلّهُ للْجَبِينِ فنودي يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا بالحقّ فالتفت فإذا بكبش ، فأخذه وخَلّى عن ابنه ، فأكبّ على ابنه يقبله ، وهو يقول : اليوم يا بنيّ وُهِبْتَ لِي فلذلك يقول الله : وَفَديْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فرجع إلى سارَة فأخبرها الخبر ، فجَزِعت سارَة وقالت : يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني ولا تُعِلمْني .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ قال : رؤيا الأنبياء حقّ إذا رأوا في المنام شيئا فعلوه .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عبيد بن عمير ، قال : رؤيا الأنبياء وَحْي ، ثم تلا هذه الاَية : إنّي أرَى فِي الَمنامِ أنّي أذْبَحُكَ .
قوله : فانْظُرْ ماذَا تَرَى : اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ماذَا تَرَى ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ، وبعض قرّاء أهل الكوفة : فانْظُرْ ماذَا تَرَى ؟ بفتح التاء ، بمعنى : أيّ شيء تأمر ، أو فانظر ما الذي تأمر ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : ماذَا تُرَى بضم التاء ، بمعنى : ماذا تُشير ، وماذا تُرَى من صبرك أو جزعك من الذبح ؟ .
والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه : ماذَا تَرَى بفتح التاء ، بمعنى : ماذا ترى من الرأي .
فإن قال قائل : أَوَ كان إبراهيم يؤامر ابنه في المضي لأمر الله ، والانتهاء إلى طاعته ؟ قيل : لم يكن ذلك منه مشاورة لابنه في طاعة الله ، ولكنه كان منه ليعلم ما عند ابنه من العَزْم : هل هو من الصبر على أمر الله على مثل الذي هو عليه ، فيسرّ بذلك أم لا ، وهو في الأحوال كلها ماض لأمر الله .
وقوله : قالَ يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ يقول تعالى ذكره : قال إسحاق لأبيه : يا أبت افعل ما يأمرك به ربك من ذبحي سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ يقول : ستجدني إن شاء الله صابرا من الصابرين لما يأمرنا به ربنا ، وقال : افعل ما تؤمر ، ولم يقل : ما تؤمر به ، لأن المعنى : افعل الأمر الذي تؤمره ، وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «إني أرى في المنام : افعل ما أُمِرْت به » .
و { السعي } في هذه الآية العمل والعبادة والمعونة ، هذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد ، وقال قتادة { السعي } على القدم يريد سعياً متمكناً وهذا في المعنى نحو الأول ، وقرأ الضحاك «معه السعي وأسر في نفسه حزناً » قال وهكذا في حرف ابن مسعود وهي قراءة الأعمش ، قوله { إني أرى في المنام أني أذبحك } يحتمل أن يكون رأى ذلك بعينه ورؤيا الأنبياء وحي ، وعين له وقت الامتثال ، ويحتمل أن أمر في نومه بذبحه فعبر هو عن ذلك أي { إني رأيت في المنام } ما يوجب أن { أذبحك } ، وقرأ جمهور الناس «ماذا تَرَى » بفتح والراء ، وقرأ حمزة والكسائي «تُرِي » بضم التاء وكسر الراء ، على معنى ما يظهر منك من جلد أو جزع ، وهي قراءة ابن مسعود والأسود بن يزيد وابن وثاب وطلحة والأعمش ومجاهد ، وقرأ الأعمش والضحاك «تُرَى » بضم التاء وفتح الراء على بناء الفعل للمفعول ، فأما الأولى فهي من رؤية الرأي ، وهي رؤية تتعدى إلى مفعول واحد ، وهو في هذه الآية إما { ماذا } ، بجملتها على أن تجعل «ما » و «ذا » بمنزل اسم واحد ، وإما «ذا » على أن تجعله بمعنى الذي ، وتكون «ما » استفهاماً وتكون الهاء محذوفة من الصلة{[9878]} ، وأما القراءة الثانية فيكون تقدير مفعولها كما مر في هذه ، غير أن الفعل فيها منقول من رأى زيد الشيء وأريته إياه ، إلا أنه من باب أعطيت فيجوز أن يقتصر على أحد المفعولين ، وأما القراءة الثانية فقد ضعفها أبو علي وتتجه على تحامل ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «افعل ما أمرت به » .
قال غير واحد من أهل التفسير: رؤيا الأنبياء وَحْيٌ، لقول ابن إبراهيم الذي أمر بذبحه: {يَاأَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُومَرُ} ومعرفته أن رؤياه أَمْرٌ أُمِرَ به (الأم: 5/127.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ" يقول: فلما بلغ الغلام الذي بشر به إبراهيم معَ إبراهيم العملَ، وهو السعي، وذلك حين أطاق معونته على عمله.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه...
وقال آخرون: معنى ذلك: فلما مشى مع إبراهيم...
وقوله: "قالَ يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ "يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم خليل الرحمن لابنه: يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ... عن قتادة، قوله: "يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ" قال: رؤيا الأنبياء حقّ إذا رأوا في المنام شيئا فعلوه...
قوله: "فانْظُرْ ماذَا تَرَى": اختلفت القرّاء في قراءة قوله: "ماذَا تَرَى"؛ فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة، وبعض قرّاء أهل الكوفة: "فانْظُرْ ماذَا تَرَى"؟ بفتح التاء، بمعنى: أيّ شيء تأمر، أو فانظر ما الذي تأمر. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: "ماذَا تُرَى" بضم التاء، بمعنى: ماذا تُشير، وماذا تُرَى من صبرك أو جزعك من الذبح؟.
والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه: ماذَا تَرَى بفتح التاء، بمعنى: ماذا ترى من الرأي.
فإن قال قائل: أَوَ كان إبراهيم يؤامر ابنه في المضي لأمر الله، والانتهاء إلى طاعته؟ قيل: لم يكن ذلك منه مشاورة لابنه في طاعة الله، ولكنه كان منه ليعلم ما عند ابنه من العَزْم؛ هل هو من الصبر على أمر الله على مثل الذي هو عليه، فيسرّ بذلك أم لا، وهو في الأحوال كلها ماض لأمر الله.
وقوله: "قالَ يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ" يقول تعالى ذكره: قال لأبيه: يا أبت افعل ما يأمرك به ربك من ذبحي "سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ" يقول: ستجدني إن شاء الله صابرا من الصابرين لما يأمرنا به ربنا، وقال: افعل ما تؤمر، ولم يقل: ما تؤمر به، لأن المعنى: افعل الأمر الذي تؤمره.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ستجدني إن شاء الله من الصابرين" ممن يصبر على الشدائد في حب الله ويسلم أمره إليه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} إشارة إلى وقت توطين القلب عَلَى الوَلد، رأى إبراهيم -عليه السلام- أنه يُؤمرُ بذبح ابنه إسماعيل ليلةَ التروية، وسميت كذلك لأنه كان يُروّي في ذلك طولَ يومه، هَلْ هُو حقٌّ أم لا؟ ثم إنه رأى في الليلة التالية مثل ذلك فَعرف أن رؤياه حق، فسمي يوم عرفة.
{يَآ بُنَي إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانظُرْ مَاذَا تَرَى؟} فقال إسماعيل: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ}: أي لا تحكم فيه بحكم الرؤيا، فإنها قد تصيب وقد يكُون لها تأويل، فإن كان هَذا أمراً فافعل بمقتضاه، وإن كان له تأويل فتثبت، فقد يمكنك ذبح ابنك كلّ وقتٍ ولكن لا يمكنك تلافيه، ويقال بل قال: أُتركْ حَديثَ الرؤيا واحمله عَلَى الأمر، واحملْ الأمر عَلَى الوجوب، ثم احمله عَلَى الفور ولا تُقصِّرْ. ويقال قال له: إِن كان يطيب قلبكَ بأَن تذبح ابنك لأجل الله فأنا يطيب قلبي أن يذبحني أبي لأجل الله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فلما بلغ السعي أي الحدّ الذي يقدر فيه على السعي قيل: مع من؟ فقال مع أبيه، والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس به وأعطفهم عليه، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله؛ لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده... والمراد: أنه على غضاضة سنة وتقلبه في حدّ الطفولة، كان فيه من رصانة الحلم وفسحة الصدر ما جسره على احتمال تلك البلية العظيمة والإجابة بذلك الجواب الحكيم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال} أي إبراهيم عليه السلام: {يا بني} منادياً له بصيغة التعطف والشفقة والتحبب.
{أني أذبحك} أي أعالج ذبحك في اليقظة بأمر من الله تعالى ولذلك كان كما قال.
{فانظر} بعين بصيرتك {ماذا} أي ما الذي {ترى} أي في هذه الرؤيا، فهو اختبار لصبره، لا مؤامرة له.
{قال} تصديقاً لثناء الله عليه بالحلم: {يا أبت} تأدباً معه بما دل على التعظيم والتوقير.
{افعل ما تؤمر} أي كل شيء وقع لك به أمر من الله تعالى.
{ستجدني} أي بوعد جازم لا تردد فيه صادق كما أخبر الله تعالى عنه، لا خلف فيه، وكان صادق الوعد.
ولما كان من أخلاق الكمل عدم القطع في المستقبلات لما يعلمون من قدرة الله تعالى على نقض العزائم بالحيلولة بين المرء وقلبه قال: {إن شاء الله} أي الذي اختص بالإحاطة بصفات الكمال، وأكد وعده بهذا الأمر الذي لا يكاد يصدق مثله بقوله:
{من الصابرين} أي العريقين في الصبر البالغين فيه حد النهاية، ومن ألطف ما في ذلك أنهم لما كانوا في نهاية التجرد عن علائق الشواغل، جعلت أفعالهم شعائر وشرائع لعبادة الحج التي روحها التجرد للوفود إلى الله تعالى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم، بل في حياة البشر أجمعين. وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم.. (فلما بلغ معه السعي. قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى. قال: يا أبت افعل ما تؤمر: ستجدني إن شاء الله من الصابرين).. يالله! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم. هذا إبراهيم الشيخ المقطوع من الأهل والقرابة المهاجر من الأرض والوطن، ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام طالما تطلع إليه، فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم، وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة.. ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية فماذا؟ إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم.. نعم إنها إشارة مجرد إشارة وليست وحياً صريحاً، ولا أمراً مباشراً، ولكنها إشارة من ربه.. وهذا يكفي.. هذا يكفي ليلبي ويستجيب، ودون أن يعترض، ودون أن يسأل ربه.. لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟! ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب.. كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء، يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب: (قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك. فانظر ماذا ترى).. فهي كلمات المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الذي يواجهه، والواثق بأنه يؤدي واجبه، وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي، ويستريح من ثقله على أعصابه! والأمر شاق -ما في ذلك شك- فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة، ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته.. إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه.. وهو -مع هذا- يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه! إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه وينتهي؛ إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر، فالأمر في حسه هكذا، ربه يريد فليكن ما يريد، على العين والرأس، وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً، لا قهراً واضطراراً، لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم! إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى.. فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقاً لرؤيا رآها أبوه؟ إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه: (قال: يا أبت افعل ما تؤمر. ستجدني -إن شاء الله- من الصابرين).. إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب، ولكن في رضى كذلك وفي يقين.. (يا أبت).. في مودة وقربى. فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده، بل لا يفقده أدبه ومودته (افعل ما تؤمر)... هو الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين).. ولم يأخذها بطولة ولم يأخذها شجاعة ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة، ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً.. إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصبره على ما يراد به: (ستجدني -إن شاء الله- من الصابرين).. يا للأدب مع الله! ويالروعة الإيمان ويالنبل الطاعة ويالعظمة التسليم!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء في {فلمَّا بلغَ معهُ السَّعي} فصيحة لأنها مفصحة عن مقدر، تقديره: فولد له ويفع وبلغ السعي فلما بلغ السعي قال يا بنيّ الخ.
وأمر الله إبراهيم بذبح ولده أمرُ ابتلاء، وليس المقصود به التشريع، طاعة ربّه فإن الولد عزيز على نفس الوالد، والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشدّ عزّة على نفسه لا محالة، وقد علمتَ أنه سأل ولداً لِيرثه نسله ولا يرثه مواليه، فبعد أن أقرّ الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه فينعدم نسله.
هنا لم يتعرض السياق لحمل السيدة هاجر ولا ولادتها لإسماعيل، إنما انتقل مباشرة من البشارة به إلى مرحلة بلوغه السَّعْيَ مع أبيه، فقال سبحانه بعدها: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} ذلك لأن الحق سبحانه هو الذي يتكلَّم، وهو الذي يحكي.
ومن البلاغة أنْ نترك ما يُعلم من السياق، وهذه سمة من سمات الأسلوب القرآني، ففي قصة سيدنا سليمان -عليه السلام- والهدهد، قال تعالى:
{اذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28]، ثم يختصر السياق كثيراً من الأحداث، ويقول:
{قَالَتْ يٰأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] ولم يتعرض لرحلة الهدهد، ولا لكيفية توصيل الخطاب إلى الملكة.
كذلك هنا: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} فبلوغه السَّعْي دلَّ على أن البشارة تحققتْ، ووُلِد الغلام، وبلغ مع أبيه السعي، وفَرْق بين (بلغ السعي) عموماً، وبلغ مع أبيه السعي؛ لأن الغلام لا يُكلَّف بالعمل إلا على قَدْر طاقته في الحركة، وعلى قَدْر عافيته وتحمُّله، وإسماعيل في هذا الوقت بلغ السعي مع أبيه فحسب؛ لأنه لن يُكلِّفه أبوه الحنون إلا بما يقدر عليه من المصالح، والأمور الحياتية، فيفعل الغلامُ ما يقدر عليه، ويترك ما لا يقدر عليه لأبيه، ولو كان مع شخص آخر فربما كلَّفه بما لا يستطيع.
فلما بلغ الغلامُ هذا المبلغَ {قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} والمعنى: أرى في المنام انه مطلوب مني أنْ أذبحَكَ، لا أنَّ الذبح تَمَّ في المنام، وانتهت المسألة بدليل رَدِّ إسماعيل {قَالَ يٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
وتأمَّلَ هنا الحلم على حقيقته، وعظمة الرد في هذا الامتحان الصعب {قَالَ يٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ} ولم يقُلْ: افعل ما تريد؛ لأن طاعته لأبيه هنا من باطن طاعته لله تعالى وامتثاله لأمر ربه، فهو يدرك تماماً أن أباه مُتلَقٍّ الأمر من الله، وإنْ جاء هذا الأمر في شكل رؤيا. إذن: هو يعلم رغم صِغَره أن رؤيا الأنبياء وَحْيٌ حَقٌّ.
وسيدنا إبراهيم ينادي ولده {يٰبُنَيَّ} هكذا بالتصغير، لأن بُني تصغير ابن فلم يقل يا ابني، فقد أوثقه الحنان الأبوي، وعرض عليه هذا الابتلاء، وهو مشحون بعاطفة الحب لولده والشفقة عليه، لأنه ما يزال صغيراً، ومعلوم أن حنان الوالد يكون على قَدْر حاجة الولد؛ لذلك المرأة العربية لما سُئِلَتْ: أيّ بنيك أحبُّ إليكِ؟ فقالت: المريض حتى يشفى، والغائب حتى يعود، والصغير حتى يكبر.
فقوله: {يٰبُنَيَّ} يعني: أنا لا أعاملك معاملةَ النِّدِّ، بل معاملة الصغير المحتاج إلى الحنان الأبوي، فخذ أوامري مصحوبة بهذه العاطفة الأبوية القلبية.
وقوله: {فَانظُرْ} يعني: فكِّر، وتدبَّر {مَاذَا تَرَىٰ} أي: في هذه الرؤيا، فكأن الصغير في هذه المسألة مطلوب منه أمران: برك بأبيك، وبرُّك بربِّ أبيك {قَالَ يٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ}، فقوله {افْعَلْ} برّ بأبيه. وقوله {مَا تُؤمَرُ} برٌّ بربِّ أبيه.
ثم يؤكد سيدنا إسماعيل رغم صغَره فهمه لهذه القضية، وإدراكه لهذا الابتلاء، فيقول: {سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} أي: على هذا البلاء
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
و (معه) تدلّ على أنّه كان يساعد والده في أمور الحياة.
امتحان شاقّ آخر يمرّ على إبراهيم الآن، إبراهيم الذي نجح في كافّة الامتحانات الصعبة السابقة وخرج منها مرفوع الرأس، الامتحان الذي يفرض عليه وضع عواطف الاُبوّة جانباً والامتثال لأوامر الله بذبح ابنه الذي كان ينتظره لفترة طويلة، وهو الآن غلام يافع قوي، فما أعظم كلمات الأب والابن وكم تخفي في بواطنها من الأمور الدقيقة والمعاني العميقة؟!