22- إنه وحده هو الذي مهد لكم الأرض بقدرته ، وبسط رقعتها ليسهل عليكم الإقامة فيها والانتفاع بها ، وجعل ما فوقكم من السماء وأجرامها وكواكبها كالبنيان المشيد ، وأمدكم بسبب الحياة والنعمة - وهو الماء - أنزله عليكم من السماء فجعله سبباً لإخراج النباتات والأشجار المثمرة التي رزقكم بفوائدها ، فلا يصح مع هذا أن تتصوروا أن لله نظراء تعبدونهم كعبادته لأنه ليس له مثيل ولا شريك ، وأنتم بفطرتكم الأصلية تعلمون أنه لا مثيل له ولا شريك ، فلا تحرفوا هذه الطبيعة .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
هذا أمر عام لكل{[64]} الناس ، بأمر عام ، وهو العبادة الجامعة ، لامتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وتصديق خبره ، فأمرهم تعالى بما خلقهم له ، قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }
ثم استدل على وجوب عبادته وحده ، بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم ، فخلقكم بعد العدم ، وخلق الذين من قبلكم ، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها ، وتنتفعون بالأبنية ، والزراعة ، والحراثة ، والسلوك من محل إلى محل ، وغير ذلك من أنواع{[65]} الانتفاع بها ، وجعل السماء بناء لمسكنكم ، وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم ، كالشمس ، والقمر ، والنجوم .
{ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } والسماء : [ هو ] كل ما علا فوقك فهو سماء ، ولهذا قال المفسرون : المراد بالسماء هاهنا : السحاب ، فأنزل منه تعالى ماء ، { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } كالحبوب ، والثمار ، من نخيل ، وفواكه ، [ وزروع ] وغيرها { رِزْقًا لَكُمْ } به ترتزقون ، وتقوتون وتعيشون وتفكهون .
{ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي : نظراء وأشباها من المخلوقين ، فتعبدونهم كما تعبدون الله ، وتحبونهم كما تحبون الله ، وهم مثلكم ، مخلوقون ، مرزوقون مدبرون ، لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ، ولا ينفعونكم ولا يضرون ، { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الله ليس له شريك ، ولا نظير ، لا في الخلق ، والرزق ، والتدبير ، ولا في العبادة{[66]} فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك ؟ هذا من أعجب العجب ، وأسفه السفه .
وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة ما سواه ، وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته ، وبطلان عبادة من سواه ، وهو [ ذكر ] توحيد الربوبية ، المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير ، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك ، فكذلك فليكن إقراره بأن [ الله ] لا شريك له في العبادة ، وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري ، وبطلان الشرك .
وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يحتمل أن المعنى : أنكم إذا عبدتم الله وحده ، اتقيتم بذلك سخطه وعذابه ، لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك ، ويحتمل أن يكون المعنى : أنكم إذا عبدتم الله ، صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى ، وكلا المعنيين صحيح ، وهما متلازمان ، فمن أتى بالعبادة كاملة ، كان من المتقين ، ومن كان من المتقين ، حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه .
{ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
وقوله : الّذِي جعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشا مردود على «الذي » الأولى في قوله : اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وهما جميعا من نعت «ربكم » ، فكأنه قال : اعبدوا ربكم الخالقكم ، والخالق الذي من قبلكم ، الجاعل لكم الأرض فراشا . يعني بذلك أنه جعل لكم الأرض مهادا وموطئا وقرارا يستقرّ عليها . يذكّر ربنا جل ذكره بذلك من قيله زيادة نعمه عندهم وآلائه لديهم ، ليذكروا أياديه عندهم فينيبوا إلى طاعته ، تعطفا منه بذلك عليهم ، ورأفة منه بهم ، ورحمة لهم ، من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم ، ولكن ليتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : الّذِي جَعَلَ لَكُمُ أَلارْضَ فِرَاشا فهي فراش يُمْشَى عليها ، وهي المهاد والقرار .
وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : الّذِي جَعَلَ لَكُمُ أَلارْضَ فِرَاشا قال : مهادا لكم .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشا : أي مهادا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَالسّماءَ بِناءً .
قال أبو جعفر : وإنما سميت السماء سماءً لعلوّها على الأرض وعلى سكانها من خلقه ، وكل شيء كان فوق شيء آخر فهو لما تحته سماءٌ . ولذلك قيل لسقف البيت سماؤه ، لأنه فوقه مرتفع عليه ، ولذلك قيل : سما فلان لفلان : إذا أشرف له وقصد نحوه عاليا عليه ، كما قال الفرزدق :
سَمَوْنَا لِنَجْرَانَ اليَمانِي وأهْلِهِ وَنَجْرَانُ أَرْضٌ لَمْ تُدَيّثْ مَقاوِلُه
سَمَتْ لي نَظْرَةٌ فَرأيْتُ مِنْهَا *** تُحَيْتَ الخِدْرِ وَاضِعَةَ القِرَامِ
يريد بذلك : أشرفت لي نظرة وبدت ، فكذلك السماء : سُميت للأرض سماءً ، لعلوّها وإشرافها عليها . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وَالسّماءَ بِناءً ، فبناء السماء على الأرض كهيئة القبة ، وهي سقف على الأرض .
وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة في قول الله وَالسّمَاءَ بِنَاءً قال : جعل السماء سقفا لك .
وإنما ذكر السماء والأرض جل ثناؤه فيما عدّد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم ، لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم ، وبهما قوام دنياهم ، فأعلمهم أن الذي خلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم هو المستحقّ عليهم الطاعة ، والمستوجب منهم الشكر والعبادة دون الأصنام والأوثان التي لا تضرّ ولا تنفع .
القول في تأويل قوله تعالى : وأنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ ماءً فأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقا لَكُمْ .
يعني بذلك أنه أنزل من السماء مطرا ، فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغرسهم ثمرات رزقا لهم غذاءً وأقواتا . فنبههم بذلك على قدرته وسلطانه ، وذكرهم به آلاءه لديهم ، وأنه هو الذي خلقهم وهو الذي يرزقهم ويكفلهم دون من جعلوه له نِدّا وعِدْلاً من الأوثان والاَلهة ، ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندّا مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم ، وأنه لا ندّ له ولا عدل ، ولا لهم نافعٌ ولا ضارّ ولا خالقٌ ولا رازق سواه .
القول في تأويل قوله تعالى : فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أنْدَادا .
قال أبو جعفر : والأنداد ، جمع ندّ ، والندّ : العِدْل والمثل ، كما قال حسان بن ثابت :
أتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدَ *** فَشَرّكما لخَيْرِكُما الفِداءُ
يعني بقوله : «ولست له بند » : لست له بمثل ولا عدل . وكل شيء كان نظيرا لشيء وشبيها فهو له ندّ . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا أي عدلاء .
وحدثني المثنى ، قال : حدثني أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا أي عدلاء .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي عن خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا قال : أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله : فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا قال : الأنداد : الاَلهة التي جعلوها معه وجعلوا لها مثل ما جعلوا له .
وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أنْدَادا قال : أشباها .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو عاصم عن شبيب عن عكرمة : فلا تجعلوا لله أندادا أي تقولوا : لولا كلبنا لدخل علينا اللصّ الدار ، لولا كلبنا صاح في الدار ونحو ذلك .
فنهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئا ، وأن يعبدوا غيره ، أو يتخذوا له ندا وعدلاً في الطاعة ، فقال : كما لا شريك لي في خلقكم وفي رزقكم الذي أرزقكم ، وملكي إياكم ، ونعمتي التي أنعمتها عليكم ، فكذلك فأفردوا لي الطاعة ، وأخلصوا لي العبادة ، ولا تجعلوا لي شريكا وندّا من خلقي ، فإنكم تعلمون أن كل نعمة عليكم منّي .
القول في تأويل قوله تعالى : وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ .
اختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بهذه الآية ، فقال بعضهم : عني بها جميع المشركين ، من مشركي العرب وأهل الكتاب . وقال بعضهم : عني بذلك أهل الكتابين : التوراة ، والإنجيل .
ذكر من قال : عني بها جميع عبدة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نزل ذلك في الفريقين جميعا من الكفار والمنافقين . وإنما عَنَى بقوله : فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أنْدَادا وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضرّ ، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره ، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحقّ لا شك فيه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد عن سعيد ، عن قتادة في قوله : وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السموات والأرض ، ثم تجعلون له أندادا .
ذكر من قال : عَنَى بذلك أهْلَ الكتابين :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أنْدَادا وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه إله واحد في التوراة والإنجيل .
وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا سفيان عن مجاهد مثله .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ يقول : وأنتم تعلمون أنه لا ندّ له في التوراة والإنجيل .
قال أبو جعفر : وأحسب أن الذي دعا مجاهدا إلى هذا التأويل ، وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دون غيرهم ، الظنّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها بجحودها وحدانية ربها ، وإشراكها معه في العبادة غيره . وإن ذلك لقولٌ ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر في كتابه عنها أنها كانت تقرّ بوحدانيته ، غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها ، فقال جل ثناؤه : وَلِئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنّ اللّهُ ، وقال : قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَاءِ والأرْضِ أمْ مَنْ يَمْلِكُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ ويُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ وَمَنْ يُدَبّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أفَلا تَتّقُونَ .
فالذي هو أولى بتأويل قوله : وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ إذ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانية الله ، وأنه مبدع الخلق وخالقهم ورازقهم ، نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين . ولم يكن في الآية دلالة على أن الله جل ثناؤه عنى بقوله : وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أحد الحزبين ، بل مخرج الخطاب بذلك عام للناس كافة لهم ، لأنه تحدّى الناس كلهم بقوله : يا أيّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمْ أن يكون تأويله ما قاله ابن عباس وقتادة ، من أنه يعني بذلك كل مكلف عالم بوحدانية الله ، وأنه لا شريك له في خلقه يشرك معه في عبادته غيره ، كائنا من كان من الناس ، عربيا كان أو أعجميا ، كاتبا أو أميا ، وإن كان الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين كانوا حوالي دار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأهل النفاق منهم وممن بين ظهرانيهم ممن كان مشركا فانتقل إلى النفاق بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ الذي جعل لكم الأرض فراشا } صفة ثانية أو مدح منصوب ، أو مرفوع ، أو مبتدأ خبره فلا تجعلوا وجعل من الأفعال العامة يجيء على ثلاثة أوجه : بمعنى صار ، وطفق فلا يتعدى كقوله :
فقد جعلت قلوص بني سهيل *** من الأكوار مرتعها قريب
وبمعنى أوجد فيتعدى إلى مفعول واحد كقوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } وبمعنى صير ، ويتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى : { جعل لكم الأرض فراشا } والتصيير يكون بالفعل تارة ، وبالقول أو العقد أخرى . ومعنى جعلها فراشا أن جعل بعض جوانبها بارزا ظاهرا عن الماء ، مع ما في طبعه من الإحاطة بها ، وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط ، وذلك لا يستدعي كونها مسطحة ، لأن كرية شكلها مع عظم حجمها . واتساع جرمها لا تأبى الافتراش عليها .
{ والسماء بناء } قبة مضروبة عليكم . والسماء اسم جنس يقع على الواحد والمتعدد كالدينار والدرهم ، وقيل جمع سماءة . والبناء مصدر ، سمي به المبني بيتا كان أو قبة أو خباء ، ومنه بني على امرأته ، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديدا .
{ وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم } عطف على ( جعل ) ، وخروج الثمار بقدرة الله تعالى ومشيئته ، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها ومادة لها كالنطفة للحيوان ، بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما ، أو أودع في الماء قوة فاعلة وفي الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار ، وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والمواد ، ولكن له في إنشائها مدرجا من حال إلى حال ، صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبرا ، وسكونا إلى عظيم قدرته ليس في إيجادها دفعة ، و{ من } الأولى للابتداء سواء أريد بالسماء السحاب فإن ما علاك سماء ، أو الفلك فإن المطر يبتدئ من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه الظواهر . أو من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جو الهواء فتنعقد سحابا ماطرا . و{ من } الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى : { فأخرجنا به ثمرات } واكتناف المنكرين له أعني ماء ورزقا كأنه قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم ، وهكذا الواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ، ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ، ولا جعل كل المرزوق ثمارا . أو للتبيين ، ورزقا مفعول بمعنى المرزوق كقولك أنفقت من الدراهم ألفا . وإنما ساغ الثمرات والموضع موضع الكثرة ، لأنه أراد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك أدركت ثمرة بستانه ، ويؤيده قراءة من قرأ : " من الثمرة " على التوحيد . أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى : { كم تركوا من جنات وعيون } وقوله : { ثلاثة قروء } . أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة . و{ لكم } صفة رزقا إن أريد به المرزوق ومفعوله إن أريد به المصدر كأنه قال : رزقا إياكم .
{ فلا تجعلوا لله أندادا } متعلق باعبدوا على أنه نهي معطوف عليه . أو نفي منصوب بإضمار أن جواب له . أو بلعل على أن نصب تجعلوا نصب فاطلع في قوله تعالى : { لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع } إلحاقا لها بالأشياء الستة لاشتراكها في أنها غير موجبة ، والمعنى : إن تتقوا لا تجعلوا لله أندادا ، أو بالذي جعل ، إن استأنفت به على أنه نهي وقع خبرا على تأويل مقول فيه : لا تجعلوا ، والفاء للسببية أدخلت عليه لتضمن المبتدأ معنى الشرط والمعنى : أن من خصكم بهذه النعم الجسام والآيات العظام ينبغي أن لا يشرك به . والند : المثل المناوئ ، قال جرير :
أتيما تجعلون إلي ندا *** وما تيم لذي حسب نديد
من ند يند ندودا : إذا نفر ، وناددت الرجل خالفته ، خص بالمخالف المماثل في الذات كما خص المساوي بالمماثل في القدر ، وتسمية ما يعبده المشركون من دون الله ( أندادا ) ، وما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله لأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها ، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات ، قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله ، وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير ، فتهكم بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أندادا لمن يمتنع أن يكون له ند . ولهذا قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل :
أربا واحدا أم ألف رب *** أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا *** كذلك يفعل الرجل البصير
{ وأنتم تعلمون } حال من ضمير فلا تجعلوا ، ومفعول تعلمون مطروح ، أي وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي ، فلو تأملتم أدنى تأمل اضطر عقلكم إلى إثبات موجد للمكنات منفرد بوجوب الذات ، متعال عن مشابهة المخلوقات . أو منوي وهو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله كقوله سبحانه وتعالى : { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } وعلى هذا فالمقصود منه التوبيخ والتثريب ، لا تقييد الحكم وقصره عليه ، فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف .
واعلم إن مضمون الآيتين هو الأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى ، والنهي عن الإشراك به تعالى ، والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى . وبيانه أنه رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعارا بأنها العلة لوجوبها ، ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معاشهم من المقلة والمظلة والمطاعم والملابس ، فإن الثمرة أعم من المطعوم ، والرزق أعم من المأكول والمشروب . ثم لما كانت هذه الأمور التي لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته تعالى رتب تعالى ، عليها النهي عن الإشراك به ، ولعله سبحانه أراد من الآية الأخيرة ، مع ما دل عليه الظاهر وسيق فيه الكلام ، الإشارة إلى تفصيل خلق الإنسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل ، فمثل البدن بالأرض ، والنفس بالسماء ، والعقل بالماء ، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بواسطة استعمال العقل للحواس ، وازدواج القوى النفسانية والبدنية ، بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار ، فإن لكل آية ظهرا وبطنا ولكل حد مطلعا .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 )
وقوله تعالى : { الذي جعل } نصب على إتباع( {[324]} ) الذي المتقدم ، ويصح أن يكون مرفوعاً على القطع .
وما ذكر مكي من إضمار أعني أو مفعول ب { تتقون } فضعيف .
وجعل بمعنى صير في هذه الآية لتعديها إلى مفعولين ، و { فراشاً } معناه تفترشونها( {[325]} ) وتستقرون عليها ، وما في الأرض مما ليس بفراش كالجبال والبحار فهو من مصالح ما يفترش منها ، لأن الجبال كالأوتاد والبحار يركب فيها إلى سائر منافعها ، و { السماء } قيل هو اسم مفرد جمعه «سماوات » ، وقيل هو جمع واحده «سماوة » ، وكل ما ارتفع عليك في الهواء سماء ، والهواء نفسه علواً يقال له «سماء » ، ومنه الحديث : «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً »( {[326]} ) ، واللفظة من السمو وتصاريفه .
وقوله تعالى : { بناء } تشبيه بما يفهم( {[327]} ) ، كما قال تعالى : { والسماء بنيناها بأييد }( {[328]} ) [ الذاريات : 47 ] .
وقال بعض الصحابة : «بناها على الأرض كالقبة » .
وقوله : { وأنزل من السماء } يريد السحاب ، سمي بذلك تجوزاً لما كان يلي السماء ويقاربها وقد سموا المطر سماء للمجاورة ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ] .
إذا نزل السماء بأرض قوم . . . رعيناه وإن كانوا غضابا( {[329]} )
فتجوز أيضاً في رعيناه ، فبتوسط المطر جعل السماء عشباً ، وأصل { ماء } موه يدل على ذلك قولهم في الجمع مياه وأمواه ، وفي التصغير مويه ، وانطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك ، أي هي معدة أن يصح الانتفاع بها فهي رزق( {[330]} ) ، ورد بهذه الآية بعض الناس قول المعتزلة إن الرزق ما يصح تملكه ، وليس الحرام برزقه ، وواحد الأنداد ند( {[331]} ) ، وهو المقاوم والمضاهي كان مثلاً أو خلافاً أو ضداً ، ومن حيث قاوم وضاهى فقد حصلت مماثلة ما .
وقال أبو عبيدة معمر والمفضل : الضد الند ، وهذا التخصيص منهما تمثيل لا حصر .
واختلف المتأولون من المخاطب بهذه الآية ؟ فقالت جماعة من المفسرين : المخاطب جميع المشركين : فقوله على هذا : { وأنتم تعلمون }( {[332]} ) يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق وأنزل الماء وأخرج الرزق ، ولم تنف الآية الجهالة عن الكفار( {[333]} ) ، وقيل المراد كفار بني إسرائيل ، فالمعنى تعلمون من الكتب التي عندكم أن الله لا ند له .
وقال ابن فورك : «يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين » فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون ، وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد( {[334]} ) . وهذه الآية تعطي( {[335]} ) أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا ، فقد أخذ بطرق من جعل لله نداً ، عصمنا الله تعالى بفضله وقصر آمالنا عليه بمنه وطوله ، لا رب غيره
{ الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض فِرَاشاً والسمآء بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } .
يتعين أن قوله : { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } صفة ثانية للرب لأن مساقها مساق قوله : { الذي خلقكم } [ البقرة : 21 ] ، والمقصود الإيماء إلى سبب آخر لاستحقاقه العبادة وإفراده بها فإنه لما أوجب عبادته أنه خالق الناس كلهم أتبع ذلك بصفة أخرى تقتضي عبادتهم إياه وحده ، وهي نعمه المستمرة عليهم مع ما فيها من دلائل عظيم قدرته فإنه مكن لهم سبل العيش وأولها المكان الصالح للاستقرار عليه بدون لغوب فجعله كالفراش لهم ومن إحاطة هذا القرار بالهواء النافع لحياتهم والذي هو غذاء الروح الحيواني ، وذلك ما أشير إليه بقوله : { والسماء بناء } وبكون تلك الكرة الهوائية واقية الناس من إضرار طبقات فوقها متناهية في العلو ، من زمهرير أو عناصر غريبة قاتلة خانقة ، فالكرة الهوائية جعلت فوق هذا العالم فهي كالبناء له ونفعها كنفع البناء فشبهت به على طريقة التشبيه البليغ وبأن أخرج للناس ما فيه إقامة أود حياتهم باجتماع ماء السماء مع قوة الأرض وهو الثمار .
والمراد بالسماء هنا إطلاقها العرفي عند العرب وهو ما يبدو للناظر كالقبة الزرقاء وهو كرة الهواء المحيط بالأرض كما هو المراد في قوله : { أو كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] وهذا هو المراد الغالب إذا أطلق السماء بالإفراد دون الجمع .
ومعنى جعل الأرض فراشاً أنها كالفراش في التمكن من الاستقرار والاضطجاع عليها وهو أخص أحوال الاستقرار . والمعنى أنه جعلها متوسطة بين شدة الصخور بحيث تؤلم جلد الإنسان وبين رخاوة الحمأة بحيث يتزحزح الكائن فوقها ويسوخ فيها وتلك منة عظيمة .
وأما وجه شبه السماء بالبناء فهو أن الكرة الهوائية جعلها الله حاجزة بين الكرة الأرضية وبين الكرة الأثيرية فهي كالبناء فيما يراد له البناء وهو الوقاية من الأضرار النازلة ، فإن للكرة الهوائية دفعاً لأضرار أظهرها دفع ضرر طغيان مياه البحار على الأرض ودفع أضرار بلوغ أهوية تندفع عن بعض الكواكب إلينا وتلطيفها حتى تختلط بالهواء أو صد الهواء إياها عنا مع ما في مشابهة منظر الكرة الهوائية لهيئة القبة ، والقبة بيت من أدم مقبب وتسمى بناء ، والبناء في كلام العرب ما يرفع سمكه على الأرض للوقاية سواء كان من حجر أو من أدم أو من شعر ، ومنه قولهم : بنى على امرأته إذا تزوج لأن المتزوج يجعل بيتاً يسكن فيه مع امرأته وقد اشتهر اطلاق البناء على القبة من أدم ولذلك سموا الأدم الذي تبنى منه القباب مبناة بفتح الميم وكسرها ، وهذا كقوله في سورة الأنبياء ( 32 ) : { وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً } .
فإن قلت يقتضي كلامك هذا أن الامتنان بجعل السماء كالبناء لوقاية الناس من قبيل المعجزات العلمية التي أشرت إليها في المقدمة العاشرة وذلك لا يدركه إلا الأجيال التي حدثت بعد زمان النزول فماذا يكون حظ المسلمين وغيرهم الذين نزلت بينهم الآية : { والذين جاءوا من بعدهم } [ الحشر : 10 ] في عدة أجيال فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يشعرون بأن للسماء خاصية البناء في الوقاية وغاية ما كانوا يتخيلونه أن السماء تشبه سقف القبة كما قالت الأعرابية حين سئلت عن معرفة النجوم : أيجهل أحد خرزات معلقة في سقفه فتتمحض الآية لإفادة العبرة بذلك الخلق البديع إلا أنه ليس فيه حظ من الامتنان الذي أفاده قوله : { لكم } فهل نخص تعلقه بفعل { جعل } المصرح به دون تعلقه بالفعل المطوي تحت واو العطف ، أو بجعله متعلقاً بقوله : { فراشاً } فيكون قوله : { والسماء بناء } معطوفاً على معمول فعل الجعل المجرد عن التقييد بالمتعلق .
قلت : هذا يفضي إلى التحكم في تعلق قوله : { لكم } تحكماً لا يدل عليه دليل للسامع بل الوجه أن يجعل { لكم } متعلقاً بفعل { جعل } ويكفي في الامتنان بخلق السماء إشعار السامعين لهذه الآية بأن في خلق السماء على تلك الصفة ما في إقامة البناء من الفوائد على الإجمال ليفرضه السامعون على مقدار قرائحهم وأفهامهم ثم يأتي تأويله في قابل الأجيال .
وحذف ( لكم ) عند ذكر السماء إيجازاً لأن ذكره في قوله : { الذي جعل لكم الأرض } دليل عليه .
و { جعل } إن كانت بمعنى أوجد فحمل الامتنان هو إن كانتا على هذه الحالة وإن كانت بمعنى صير فهي دالة على أن الأرض والسماء قد انتقلتا من حال إلى حال حتى صارتا كما هما وصار أظهر في معنى الانتقال من صفة إلى صفة وقواعد علم طبقات الأرض ( الجيولوجيا ) تؤذن بهذا الوجه الثاني فيكون في الآية منتان وعبرتان في جعلهما على ما رأينا وفي الأطوار التي انتقلتا فيهما بقدرة الله تعالى وإذنه فيكون كقوله تعالى : { أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما إلى قوله : { وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون } [ الأنبياء : 30 32 ]
وقد امتن الله وضرب العبرة بأقرب الأشياء وأظهرها لسائر الناس حاضرهم وباديهم وبأول الأشياء في شروط هذه الحياة ، وفيهما أنفع الأشياء وهما الهواء والماء النابع من الأرض وفيهما كانت أول منافع البشر . وفي تخصيص الأرض والسماء بالذكر نكتة أخرى وهي التمهيد لما سيأتي من قوله : { وأنزل من السماء ماء } الخ . وابتدأ بالأرض لأنها أول ما يخطر ببال المعتبر ثم بالسماء لأنه بعد أن ينظر لما بين يديه ينظر إلى ما يحيط به .
وقوله : { وأنزل من السماء ماء فأخرج به } الخ هذا امتنان بما يلحق الإيجاد مما يحفظه من الاختلال وهو خلقة لما تتلفه الحرارة الغريزية والعمل العصبي والدماغي من القوة البدنية ليدوم قوام البدن بالغذاء وأصل الغذاء هو ما يخرج من الأرض وإنما تخرج الأرض النبات بنزول الماء عليها من السماء أي من السحاب والطبقات العليا .
واعلم أن كون الماء نازلاً من السماء هو أن تكونه يكون في طبقات الجو من آثار البخار الذي في الجو فإن الجو ممتلىء دائماً بالأبخرة الصاعدة إليه بواسطة حرارة الشمس من مياه البحار والأنهار ومن نداوة الأرض ومن النبات ولهذا نجد الإناء المملوء ماء فارغاً بعد أيام إذا ترك مكشوفاً للهواء فإذا بلغ البخار أقطار الجو العالية برد ببرودتها وخاصة في فصل الشتاء فإذا برد مال إلى التميع ، فيصير سحاباً ثم يمكث قليلاً أو كثيراً بحسب التناسب بين برودة الطبقات الجوية والحرارة البخارية فإذا زادت البرودة عليه انقبض السحاب وثقل وتميع فتجتمع فيه الفقاقيع المائية وتثقل عليه فتنزل مطراً وهو ما أشار له قوله تعالى : { وينشىء السحاب الثقال } [ الرعد : 12 ] وكذلك إذا تعرض السحاب للريح الآتية من جهة البحر وهي ريح ندية ارتفع الهواء إلى أعلى الجو فبرد فصار مائعاً وربما كان السحاب قليلاً فساقت إليه الريح سحاباً آخر فانضم أحدهما للآخر ونزلا مطراً ، ولهذا غلب المطر بعد هبوب الريح البحرية وفي الحديث : " إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غُدَيقة " ومن القواعد أن الحرارة وقلة الضغط يزيدان في صعود البخار وفي قوة انبساطه والبرودة وكثرة الضغط يصيران البخار مائعاً وقد جرب أن صعود البخار يزداد بقدر قرب الجهة من خط الاستواء وينقص بقدر بعده عنه وإلى بعض هذا يشير ما ورد في الحديث أن المطر ينزل من صخرة تحت العرش فإن العرش هو اسم لسماء من السماوات والصخرة تقريب لمكان ذي برودة وقد علمت أن المطر تنشئه البرودة فيتميع السحاب فكانت البرودة هي لقاح المطر .
و { من } التي في قوله : { من الثمرات } ليست للتبعيض إذ ليس التبعيض مناسباً لمقام الامتنان بل إما لبيان الرزق المخرج ، وتقديم البيان على المبين شائع في كلام العرب وإما زائدة لتأكيد تعلق الإخراج بالثمرات .
{ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
أتت الفاء لترتيب هاته الجملة على الكلام السابق وهو مترتب على الأمر بالعبادة و { لا } ناهية والفعل مجزوم وليست نافية حتى يكون الفعل منصوباً في جواب الأمر من قوله : { اعبدوا ربكم } والمراد هنا تسببه الخاص وهو حصوله عن دليل يوجبه وهو أن الذي أمركم بعبادته هو المستحق للإفراد بها فهو أخص من مطلق ضد العبادة لأن ضد العبادة عدم العبادة . ولكن لما كان الإشراك للمعبود في العبادة يشبه ترك العبادة جعل ترك الإشراك مساوياً لنقيض العبادة لأن الإشراك ما هو إلا ترك لعبادة الله في أوقات تعظيم شركائهم .
والند بكسر النون المساوي والمماثل في أمر من مجد أو حرب ، وزاد بعض أهل اللغة أن يكون مناوئاً أي معادياً ، وكأنهم نظروا إلى اشتقاقه من ند إذا نفر وعاند ، وليس بمتعين لجواز كونه اسماً جامداً وأظن أن وجه دلالة الند على المناوأة والمضادة أنها من لوازم المماثلة عرفاً عند العرب ، فإن شأن المثل عندهم أن ينافس مماثله ويزاحمه في مراده فتحصل المضادة .
ونظيره في عكسه تسميتهم المماثل قريعاً ، فإن القريع هو الذي يقارع ويضارب ولما كان أحد لا يتصدى لمقارعة من هو فوقه لخشيته ولا من هو دونه لاحتقاره كانت المقارعة مستلزمة للمماثلة ، وكذلك قولهم قرن للمحارب المكافىء في الشجاعة . ويقال جعل له نداً ، إذا سوى غيره به .
والمعنى لاتثبتوا لله أنداداً تجعلونها جعلاً وهي ليست أنداداً وسماها أنداداً تعريضاً بزعمهم لأن حال العرب في عبادتهم لها كحال من يسوي بين الله وبينها وإن كان أهل الجاهلية يقولون إن الآلاهة شفعاء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله ، وجعلوا الله خالق الآلهة فقالوا في التلبية : « لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك » لكنهم لما عبدوها ونسوا بعبادتها والسعي إليها والنذور عندها وإقامة المواسم حولها عبادة الله ، أصبح عملهم عمل من يعتقد التسوية بينها وبين الله تعالى لأن العبرة بالفعل لا بالقول . وفي ذلك معنى من التعريض بهم ورميهم باضطراب الحال ومناقضة الأقوال للأفعال .
وقوله : { وأنتم تعلمون } جملة حالية ومفعول { تعلمون } متروك لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول بل قصد إثباته لفاعله فقط فنزل الفعل منزلة اللازم ، والمعنى وأنتم ذو علم . والمراد بالعلم هنا العقل التام وهو رجحان الرأي المقابل عندهم بالجهل على نحو قوله تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] وقد جعلت هاته الحال محط النهي والنفي تمليحاً في الكلام للجمع بين التوبيخ وإثارة الهمة فإنه أثبت لهم علماً ورجاحة الرأي ليثير همتهم ويلفت بصائرهم إلى دلائل الوحدانية ونهاهم عن اتخاذ الآلهة أو نفي ذلك مع تلبسهم به وجعله لا يجتمع مع العلم توبيخاً لهم على ما أهملوا من مواهب عقولهم وأضاعوا من سلامة مداركهم . وهذا منزع تهذيبي عظيم ، أن يعمد المربي فيجمع لمن يربيه بين ما يدل على بقية كمال فيه حتى لا يقتل همته باليأس من كماله فإنه إذا ساءت ظنونه في نفسه خارت عزيمته وذهبت مواهبه ، ويأتي بما يدل على نقائص فيه ليطلب الكمال فلا يستريح من الكد في طلب العلا والكمال .
وقد أومأ قوله : { وأنتم تعلمون } إلى أنهم يعلمون أن الله لا ند له ولكنهم تعاموا وتناسوا فقالوا : « إلا شريكاً هو لك » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم دل على نفسه بصنعه ليوحدوه، وذَكَّرهم النعمَ، فقال سبحانه: اعبدوا ربكم
{الذي جعل لكم الأرض فراشا}: يعني بساطا. {والسماء بناء}: يعني سقفا. {وأنزل من السماء ماء}: يعني المطر. {فأخرج به}: فأخرج بالمطر من الأرض أنواعا {من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا}: لا تجعلوا مع الله شركاء. {وأنتم تعلمون} أن هذا الذي ذكر كله من صنعه، فكيف تعبدون غيره؟.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"الّذِي جعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشا" مردود على «الذي» الأولى في قوله: "اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ" وهما جميعا من نعت «ربكم»، فكأنه قال: اعبدوا ربكم [الخالق لكم] والخالق [الذين] من قبلكم، الجاعل لكم الأرض فراشا. يعني بذلك أنه جعل لكم الأرض مهادا وموطئا وقرارا يستقرّ عليها.
يذكّر ربنا جل ذكره بذلك من قيله زيادة نعمه عندهم وآلائه لديهم، ليذكروا أياديه عندهم فينيبوا إلى طاعته، تعطفا منه بذلك عليهم، ورأفة منه بهم، ورحمة لهم، من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم، ولكن ليتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون...
عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشا" فهي فراش يُمْشَى عليها، وهي المهاد والقرار...
"وَالسّماءَ بِناءً": وإنما سميت السماء سماءً لعلوّها على الأرض وعلى سكانها من خلقه، وكل شيء كان فوق شيء آخر فهو لما تحته سماءٌ. ولذلك قيل لسقف البيت سماؤه، لأنه فوقه مرتفع عليه، ولذلك قيل: سما فلان لفلان: إذا أشرف له وقصد نحوه عاليا عليه،... وإنما ذكر السماء والأرض جل ثناؤه فيما عدّد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم، لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم، وبهما قوام دنياهم، فأعلمهم أن الذي خلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم هو المستحقّ عليهم الطاعة، والمستوجب منهم الشكر والعبادة دون الأصنام والأوثان التي لا تضرّ ولا تنفع...
" وأنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ ماءً فأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقا لَكُمْ": يعني بذلك أنه أنزل من السماء مطرا، فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغرسهم ثمرات رزقا لهم غذاءً وأقواتا. فنبههم بذلك على قدرته وسلطانه، وذكرهم به آلاءه لديهم، وأنه هو الذي خلقهم وهو الذي يرزقهم ويكفلهم دون من جعلوه له نِدّا وعِدْلاً من الأوثان والاَلهة.
ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندّا مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم، وأنه لا ندّ له ولا عدل، ولا لهم نافعٌ ولا ضارّ ولا خالقٌ ولا رازق سواه...
"فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أنْدَادا": والأنداد، جمع ندّ، والندّ: العِدْل والمِثْل. عن قتادة: "فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا" أي عدلاء.
عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا" قال: أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله... قال ابن زيد في قول الله: "فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا" قال: الأنداد: الاَلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له.
[و] عن ابن عباس في قوله: "فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أنْدَادا" قال: أشباها.
فنهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئا، وأن يعبدوا غيره، أو يتخذوا له ندا وعدلاً في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم وفي رزقكم الذي أرزقكم، وملكي إياكم، ونعمتي التي أنعمتها عليكم، فكذلك فأفردوا لي الطاعة، وأخلصوا لي العبادة، ولا تجعلوا لي شريكا وندّا من خلقي، فإنكم تعلمون أن كل نعمة عليكم منّي...
اختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بهذه الآية،
فقال بعضهم: عني بها جميع المشركين، من مشركي العرب وأهل الكتاب.
وقال بعضهم: عني بذلك أهل الكتابين: التوراة، والإنجيل.
عن ابن عباس، قال: نزل ذلك في الفريقين جميعا من الكفار والمنافقين. وإنما عَنَى بقوله: "فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أنْدَادا وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ" أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضرّ، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحقّ لا شك فيه...
[و] عن مجاهد: "وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ" يقول: وأنتم تعلمون أنه لا ندّ له في التوراة والإنجيل.
قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي دعا مجاهدا إلى هذا التأويل، وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دون غيرهم، الظنّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها بجحودها وحدانية ربها، وإشراكها معه في العبادة غيره. وإن ذلك لقولٌ ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر في كتابه عنها أنها كانت تقرّ بوحدانيته، غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها، فقال جل ثناؤه: "وَلِئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنّ اللّهُ"... فالذي هو أولى بتأويل قوله: "وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ" إذ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانية الله، وأنه مبدع الخلق وخالقهم ورازقهم، نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين. ولم يكن في الآية دلالة على أن الله جل ثناؤه عنى بقوله: "وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ" أحد الحزبين، بل مخرج الخطاب بذلك عام للناس كافة لهم، لأنه تحدّى الناس كلهم بقوله: "يا أيّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمْ" أن يكون تأويله ما قاله ابن عباس وقتادة، من أنه يعني بذلك كل مكلف عالم بوحدانية الله، وأنه لا شريك له في خلقه يشرك معه في عبادته غيره، كائنا من كان من الناس، عربيا كان أو أعجميا، كاتبا أو أميا، وإن كان الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين كانوا حوالي دار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل النفاق منهم وممن بين ظهرانيهم ممن كان مشركا فانتقل إلى النفاق بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قدّم سبحانه من موجبات عبادته وملزمات حق الشكر له:
خلقهم أحياء قادرين أوّلاً؛ لأنه سابقة أصول النعم ومقدمتها، والسبب في التمكن من العبادة والشكر وغيرهما،
ثم خلق الأرض التي هي مكانهم ومستقرّهم الذي لا بدّ لهم منه، وهي بمنزلة عرصة المسكن ومتقلبه ومفترشه،
ثم خلق السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار،
ثم ما سوّاه عزّ وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بإنزال الماء منها عليها. والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان من ألوان الثمار رزقاً لبني آدم، ليكون لهم ذلك معتبراً: ومتسلقاً إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف؛ ونعمة يتعرفونها فيقابلونها بلازم الشكر، ويتفكرون في خلق أنفسهم وخلق ما فوقهم وتحتهم، وأن شيئاً من هذه المخلوقات كلها لا يقدر على إيجاد شيء منها، فيتيقنوا عند ذلك أن لا بدّ لها من خالق ليس كمثلها، حتى لا يجعلوا المخلوقات له أنداداً وهم يعلمون أنها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر.
ومعنى جعلها فراشاً وبساطاً ومهاداً للناس: أنهم يقعدون عليها وينامون ويتقلبون كما يتقلب أحدهم على فراشه وبساطه ومهاده...
فإن قلت: ما معنى إخراج الثمرات بالماء وإنما خرجت بقدرته ومشيئته؟ قلت: المعنى أنه جعل الماء سبباً في خروجها ومادّة لها، كماء الفحل في خلق الولد، وهو قادر على أن ينشئ الأجناس كلها بلا أسباب ولا موادّ كما أنشأ نفوس الأسباب والموادّ، ولكن له في إنشاء الأشياء مدرجاً لها من حال إلى حال، وناقلاً من مرتبة إلى مرتبة حكماً ودواعي يجدد فيها لملائكته والنظار بعيون الاستبصار من عباده عبرا وأفكاراً صالحة، وزيادة طمأنينة، [وسكونا] إلى عظيم قدرته وغرائب حكمته، ليس ذلك في إنشائها بغتة من غير تدريج وترتيب...
فإن قلت: كانوا يسمون أصنامهم باسمه ويعظمونها بما يعظم به من القرب، وما كانوا يزعمون أنها تخالف الله وتناويه. قلت: لما تقرّبوا إليها وعظموها وسموها آلهة، أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله، قادرة على مخالفته ومضادّته، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم. كما تهكم بهم بلفظ الندّ، شنع عليهم واستفظع شأنهم بأن جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ندّ قط.
فإن قلت: ما معنى {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}. قلت: معناه: وحالكم وصفتكم أنكم من صحة تمييزكم بين الصحيح والفاسد، والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال، والإصابة في التدابير، والدهاء والفطنة، بمنزل لا تدفعون عنه. وهكذا كانت العرب، خصوصاً ساكنو الحرم من قريش وكنانة، لا يصطلي بنارهم في استحكام المعرفة بالأمور وحسن الإحاطة بها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
واختلف المتأولون من المخاطب بهذه الآية؟ فقالت جماعة من المفسرين: المخاطب جميع المشركين: فقوله على هذا: {وأنتم تعلمون} يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق وأنزل الماء وأخرج الرزق، ولم تنف الآية الجهالة عن الكفار.
وقيل المراد كفار بني إسرائيل، فالمعنى تعلمون من الكتب التي عندكم أن الله لا ند له.
وقال ابن فورك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين. فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون، وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد.
وهذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذ بطرق من جعل لله نداً، عصمنا الله تعالى بفضله وقصر آمالنا عليه بمنه وطوله، لا رب غيره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو تعبير يشي باليسر في حياة البشر على هذه الأرض، وفي إعدادها لهم لتكون لهم سكنا مريحا وملجأ واقيا كالفراش.. والناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله لهم لطول ما ألفوه. ينسون هذا التوافق الذي جعله الله في الأرض ليمهد لهم وسائل العيش، وما سخره لهم فيها من وسائل الراحة والمتاع. ولولا هذا التوافق ما قامت حياتهم على هذا الكوكب في مثل هذا اليسر والطمأنينة. ولو فقد عنصر واحد من عناصر الحياة في هذا الكوكب ما قام هؤلاء الأناسي في غير البيئة التي تكفل لهم الحياة. ولو نقص عنصر واحد من عناصر الهواء عن قدره المرسوم لشق على الناس أن يلتقطوا أنفاسهم حتى لو قدرت لهم الحياة!
فيها متانة البناء وتنسيق البناء. والسماء ذات علاقة وثيقة بحياة الناس في الأرض، وبسهولة هذه الحياة. وهي بحرارتها وضوئها وجاذبية اجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض وبينها، تمهد لقيام الحياة على الأرض وتعين عليها. فلا عجب أن تذكر في معرض تذكير الناس بقدرة الخالق، وفضل الرازق، واستحقاق المعبود للعبادة من العبيد المخاليق.
(وأنزل من السماء ماء، فأخرج به من الثمرات رزقا لكم)..
وذكر إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به، ما يفتأ يتردد في مواضع شتى من القرآن في معرض التذكير بقدرة الله، والتذكير بنعمته كذلك.. والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعا. فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها (وجعلنا من الماء كل شيء حي).. سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط بالأرض، أو كون الأنهار والبحيرات العذبة، أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه الجوفية، التي تتفجر عيونا أو تحفر آبارا، أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى.
وقصة الماء في الأرض، ودوره في حياة الناس، وتوقف الحياة عليه في كل صورها وأشكالها.. كل هذا أمر لا يقبل المماحكة، فتكفي الإشارة إليه، والتذكير به، في معرض الدعوة إلى عبادة الخالق الرازق الوهاب.
وفي ذلك النداء تبرز كليتان من كليات التصور الإسلامي: وحدة الخالق لكل الخلائق (الذي خلقكم والذين من قبلكم).. ووحدة الكون وتناسق وحداته وصداقته للحياة وللإنسان (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء. وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم).. فهذا الكون أرضه مفروشة لهذا الإنسان، وسماؤه مبنية بنظام، معينة بالماء الذي تخرج به الثمرات رزقا للناس.. والفضل في هذا كله للخالق الواحد:
(فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)..
تعلمون أنه خلقكم والذين من قبلكم. وتعلمون أنه جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء. وأنه لم يكن له شريك يساعد، ولا ند يعارض. فالشرك به بعد هذا العلم تصرف لا يليق!
والأنداد التي يشدد القرآن في النهي عنها لتخلص عقيدة التوحيد نقية واضحة، قد لا تكون آلهة تعبد مع الله على النحو الساذج الذي كان يزاوله المشركون. فقد تكون الأنداد في صور أخرى خفية. قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة، وفي الخوف من غير الله في أي صورة. وفي الاعتقاد بنفع أو ضر في غير الله في أي صورة.. عن ابن عباس قال:"الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل. وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي. ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت! وقول الرجل: لولا الله وفلان.. هذا كله به شرك"... وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله [ص] ما شاء الله وشئت. قال: "أجعلتني لله ندا؟ "!
هكذا كان سلف هذه الأمة ينظر إلى الشرك الخفي والأنداد مع الله.. فلننظر نحن أين نحن من هذه الحساسية المرهفة، وأين نحن من حقيقة التوحيد الكبيرة!!!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.والمعنى لا تثبتوا لله أنداداً تجعلونها جعلاً وهي ليست أنداداً. وسماها أنداداً تعريضاً بزعمهم لأن حال العرب في عبادتهم لها كحال من يسوي بين الله وبينها وإن كان أهل الجاهلية يقولون إن الآلهة شفعاء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله، وجعلوا الله خالق الآلهة فقالوا في التلبية: « لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك» لكنهم لما عبدوها ونسوا بعبادتها والسعي إليها والنذور عندها وإقامة المواسم حولها عبادة الله، أصبح عملهم عمل من يعتقد التسوية بينها وبين الله تعالى لأن العبرة بالفعل لا بالقول. وفي ذلك معنى من التعريض بهم ورميهم باضطراب الحال ومناقضة الأقوال للأفعال.
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
... وما أدق هذه التفاسير المأثورة عن السلف الصالح رضي الله عنهم في معنى الأنداد، وما أعزب فهم كثير من الناس عنها، فلعلهم يتصورون ان اتخاذهم الأنداد لا يعدو عبادة الأصنام المنحوتة من الأحجار، ولا يدركون أن الأمر أعم منه، فقد تكون أصنام البشر أضر من أصنام الحجر إذا ما عُظِّم الطواغيت وانقادت لهم الناس، وخضعوا لأحكامهم الجائرة، وآثروا ضلالهم على هدى الله، ورددوا شعاراتهم الزائفة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يقصد بها إلا نقض عرى الدين وهدم صرح التوحيد، وإذا كان من شأن عقيدة التوحيد تطهير النفوس من الأوهام، وتزكية الأعمال بإخلاصها لله، فإن من شأنها أيضا تحرير الإِنسانية حتى لا تخضع لغير الله ولا تتحاكم إلى غير شرعه ولا تنقاد إلا لحكمه، ولا تذعن لغير طاعته، فلله الخلق ولله الأمر، وكل من تطاول فأمر بما يخالف أمره تعالى فهو متطاول على سلطان الله...